رؤى

التصوف والسلطة.. علاقة التنافر والتلاقي (1- 4)

يوما بعد يوم تتراجع نسخة الإسلام السياسي الراهنة في ظل ما ترتكبه من عنف وإرهاب وتدمير وبث للكراهية والانقسام سواء داخل المجتمعات أو بين الشعوب وبعضها. في المقابل تبحث العديد من دول وشعوب المنطقة عن بديل لهذا التيار بهدف ملء الفراغ بنسخة متسامحة وعقلانية من الفكر والممارسة الإسلامية تتفق مع طبيعته الإنسانية. وجد البعض ضالتهم في التصوف؛ حيث تحظى الصوفية بشعبية جماهيرية وحضور واسع، كما أنها تعتنق جوهر الدين الذي يدعو للسلام الإنساني والمحبة بين البشر، وتحمل تصورات عن الإسلام كدين متسامح ينبذ العنف، وتقبل قيمه ومقاصده مبادئ الحرية وحقوق الإنسان ولا تتعارض مع كل تطور يمكن أن يحقق الخير للبشر.

يرى بعض الباحثين أن الصوفية تمتلك ما يؤهلها لوقف التشدد وإخراج دول كثيرة من دائرة العنف الديني، عبر إلهام المسلمين للعثور على سلامهم الروحي دون الوقوع في فخ جماعات متطرفة توظف الدين لمصالح سياسية.

حول مدى مصداقية هذا الطرح تدور هذه السلسلة من المقالات التي تناقش علاقة التصوف بالسلطة بشكل عام، ثم التصوف والمؤسسة الدينية في مصر، والتصوف وجماعات الإسلام السياسي، وأخيرا التصوف كبديل عملي لجماعات التشدد والتطرف والعنف التي تنسب نفسها للإسلام.

تاريخيا فإن كلمة “التصوف” لم تذكر على ألسنة الشعراء والخطباء قبل الإسلام ولم تجر على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم ولا صحابته ولم ترد في القرآن، ولم يظهر هذا اللفظ مفردا إلا في النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي حين استخدمه جابر بن حيان عالم الكيمياء – وكان له في الزهد مذهب خاص – أما ظهور اللفظ في صيغة الجمع “الصوفية” فيرجع إلى العام 814م/199هـ عندما أُطلق على أحد مذاهب التصوف الشيعي.

التصوف
التصوف

ما هو التصوف؟

عرف معروف الكرخي (ت 200 هـ – 815م) التصوف بقوله: “التصوف هو الأخذ بالحقائق واليأس مما في أيدي الخلائق”، أما سهل بن عبد الله التستري (ت 283 هـ – 896م) فيعرفه بقوله: “الصوفي من صفى من الكدر وامتلأ من الفكر وانقطع إلى الله من البشر واستوى عنده الذهب والمدر”، أما الجنيد (ت 297 هـ – 910م) فيعرفه بقوله: ” هو تصفية القلب عن موافقة البرية، ومفارقة الأخلاق الطبيعية، وإخماد الصفات البشرية، والتعلق بالعلوم الحقيقية”، أما الجرجاني (ت 816 هـ – 1413م) فيعرفه بقوله: “التصوف هو الوقوف مع الآداب الشرعية ظاهراً، فيرى حكمها من الظاهر في الباطن، وباطن فيرى حكمها من الباطن في الظاهر، فيحصل للمتأدب بالحكمين الكمال”.

وعلى الأرجح أن أغلب هذه التعريفات، اتفقت على نعت التصوف بأنه عزوف النفس عن الدنيا والعكوف على العبادة والانقطاع  إلى الله والإعراض عن زخرف الحياة الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الناس من مال وجاه والانفراد عن الخلق والخلوة للعبادة”.

وهناك تعريفات فلسفية للتصوف ذات طابع قيمي ترى أن التصوف نزوع فطري في الانسان نحو التسامي والكمال والمعرفة عن طريق الكشف الروحي أو العلم اليقيني الناشئين عن الإلهام الإلهي والنظر العقلي والرياضة النفسية وبعض الدلائل الحسية، وطريقته حجب النفس الموجبة للنقص بالمجاهدة بغية الكمال.

التصوف

تعريف السلطة

السلطة في التعريف الاصطلاحي هي “القوة المناط بها إدارة المجتمع الإنساني وحكومته، وهي من الضروريات التي لا يستغنى عنها”، أي أنها عبارة عن واقع اجتماعي، وجودها ضروري حيثما كان هناك تجمع بشري، لذلك قيل: ” إن السلطة ليست مفهوما سياسيا مطلقا”، (وانما هي) ” مفهوم يتعلق بنشوء ظاهرة خضوع المجموعات البشرية وطاعتها لفرد – أو مجموعة – فيما يقرره من أوامر ونواه”.

أما فيما يتعلق بالسلطة في الفكر الإسلامي فتتمثل في ” السلطة الشرعية المكلفة لجماعة المصالح الاجتماعية عن طريق الالتزام بالقواعد والمبادئ والحقوق التي أقرها الإسلام للناس، ومنه تعتبر السلطة الشرعية هيئة تمثيلية لحماية المصالح العامة “.

ومهما تعددت مفاهيم السلطة، واختلفت بين المفكرين والمنظرين إلا أن معظم النظريات تذهب إلى أن ” كل سلطة هي سلطة شرعية، طالما أنها تملك قوة فرض الأوامر والنواهي”.

السلطة

علاقة التصوف بالسلطة

من أكثر التعريفات لمفهوم التصوف رواجا ما أورده الطوسي في كتابه “اللمع” حيث قال ان : “المتصوفة هم من يتركون ما لا يعنيهم ويقطعون كل علاقة تحول بينهم وبين مقصودهم ومطلوبهم وهو الله سبحانه وتعالى، ثم لهم آداب وأحوال شتى منها القناعة بالقليل والاختصار على ما لا بد منه من حاجات الدنيا من الملبوس والمأكول والمفروش، واختيار الفقر على الغنى اختياراً، ومعانقة القلة ومجانبة الكثير وايثار الجوع على الشبع والشفقة على الخلق والتواضع للصغير والكبير والتوجه إلى الله تعالى والانقطاع إليه”.

من خلال هذا التعريف، وغيره من تعريفات التصوف السابقة، ربما لا نجد ما يوحي بوجود علاقة بين التصوف والسياسة من قريب أو بعيد، وربما أيضا يكون هذا حقيقي تماما لكن بشرط أن يكون التصوف مسألة فردية وليس تنظيما جماعياً أو مؤسسياً، وأن تكون ممارسة السياسة قاصرة على النخب الحاكمة والأحزاب والمثقفين، ولا دخل للعامة بها وأن يكون التصوف دينياً صرفاً ولا يكون رد فعل لوضع سياسي اجتماعي معين دفع البعض إلى تفضيل العزلة او الانسحاب من الحياة العامة، ولأن هذه الشروط غير متحققة في الواقع ولأن الصوفية ليست حركة دينية بحتة بل ولدت من رحم السياسة، فهناك علاقة وطيدة بين التصوف الحالي والسياسة؛ فاختلاط الديني بالسياسي هو المسيطر على الحالة في مصر والعيد من المجتمعات العربية والإسلامية، والدوافع الدينية بشكل عام هي مصدر مهم للطاقة الدافعة لإنجاز التغيير الاجتماعي، والتدين عند البعض يشكل إحدى قيم الثقافة السياسية التقليدية.

والصوفية في مصر أصبحت تيارا يمتلك معجمه اللغوي وخطابه المتميز ونظرياته المنفردة، كذلك فإن الصوفية المصرية أصبح لها شكل مؤسسي قائم بذاته وله علاقاته السياسية والاجتماعية المختلفة، فتحويل العقيدة أو “الروحانيات” إلى منهج تطبيقي في الواقع المعاش يتطلب بناء المؤسسات المختلفة، وكل حركة فاعلة وفعالة على المستوى الجماعي تفرض وجود مؤسسة تقوم على تربية الأفراد والدفاع عن مصالحهم وتجنيد المزيد منهم لضمان البقاء والاستمرار.

ولقد ساعد النظام السياسي الحاكم في مصر على إنشاء المؤسسة الصوفية واستمرارها في النمو حتى وصلت لشكلها الراهن، وذلك من أجل تثبيت شرعيته السياسية متخذا من “التدين الصوفي” أداة في مواجهة “التدين الحركي” الذي يعارض النظام وكذلك مواجهة جماعات المعارضة غير الدينية.

ومن ناحية أخرى فإن نشأة المتصوف أو المريد على القيم والمفاهيم العامة للتصوف عن طريق الاقتداء بالشيخ أو الوقوع تحت هيمنته أو محاكاته وكذلك التعلم من رفاق الطريقة التي يتبعها الفرد وقراءة الأوراد والأذكار والكتب المتعلقة بالتصوف خاصة وبالدين عامة والتي تعزز وتبلور قيما ومفاهيم سياسية تختلف درجة إيجابيتها أو سلبيتها من مريد لآخر ومن طريقة لآخرى، وهي التي تحدد اتجاه التصوف نحو النظام السياسي، وذلك مع الأخذ في الاعتبار أن المتصوف مواطن يتعرض للمعطيات السياسية العامة مثله مثل الآخرين إلى حد كبير.

والتنظيم الصوفي بشكل عام ينتج قيماً سياسية منها الإيجابي كالتسامح والتماسك والتعاون والاستمرارية، ومنها السلبي مثل الخنوع والطاعة العمياء والجمود والإكراه، هذا بخلاف أن الشيخ في الصوفية يستمد شرعيته من الانتساب إلى آل البيت أو كبار الأولياء، فيصير رمزا يتمحور حوله التنظيم الصوفي باعتباره تنظيماً يقوم على الزعامة.

أما على مستوى العلاقة بالسلطة السياسية على مدار التاريخ فقد داهن الصوفيون السلطة وخضعوا لها أكثر مما عارضوها أو اتخذوا موقفاً حاسماً ضد فسادها وطغيانها، وإذا كان بعض مشايخ الصوفية، في فترات معينة، أغضبهم ظلم السلاطين للرعية وسعوا لمقاومة الجور وانتصروا للجماهير فإن هذا لم يحدث سوى مرات نادرة وكان يتم بشكل فردي ولم يكن أبدا يمثل سياسة متواصلة للمتصوفة.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock