عرض وترجمة: أحمد بركات
دفعت المكانة السامقة التي يتمتع بها البكاؤون في الجماعات الجهادية1يقصد بـ “الجهادية” في هذه الدراسة “الإسلاموية السُنية العنيفة العابرة للحدود”. ورغم اعتراض بعض المسلمين على ربط الجهاد بالأنشطة العنيفة التي تقوم بها هذه الجماعات، إلا أن مصطلح “جهادي” يعد الآن مصطلحا راسخا في الدوائر الأكاديمية والإعلامية، بما في ذلك في العالم الإسلامي نفسه. ويرجع الفضل في شيوع هذا المصطلح إلى ملاءمته كاختصار لتعبيرات أكثر تعقيدا. كما يستخدم المتشددون هذه الصفة “جهادي” على نطاق واسع. وفي الاستخدام الأكاديمي، يمثل “جهادي” مجرد صفة ليس لها قيمة معيارية في الجدل الإسلامي حول طبيعة الجهاد. المعاصرة برفاقهم الأقل بكاء إلى التعبير عن غبطتهم لهم، وبذل الجهد لبذل مزيد من البكاء. فعلى سبيل المثال، ذكر خالد البري، عضو الجماعة الإسلامية المصرية في ثمانينيات القرن الماضي، أنه:
مؤخرا، ألمً بأحد معارفي […] تغيير مذهل […] فجأة شرع هذا الشاب في الصيام كل يوم، وكان عندما يدخل في الصلاة يبكي على وتيرة واحدة – وكأنما يتململ من فرط ألم مبرح أصابه – لمجرد سماع القرآن. وشعرت بأن صوت بكائه ينم عن إخلاص شديد، ويشي بشكوى مكبوتة، بل وشعرت بأنه يمتلك شيئا أفتقده. وتمنيت أن يند عني صوت كهذا حتى ينفس عني عناءات خفايا كثيرة.
وتشير حقيقة أن أقلية فقط من الجهاديين تمتلك هذه القدرة على البكاء، وأن الآخرين يعترفون فعليا بعجزهم عن ذرف الدموع إلى أن هؤلاء المقاتلين يثمنون الإخلاص في الأمور التي تبعث على البكاء، وأنهم لا يستحسنون البكاء المصطنَع أو المتكَلف. رغم ذلك، لا تسمح لنا المصادر المتاحة بقياس إخلاص هؤلاء البكائين.
ويتسم التقدير الجهادي للبكاء بالانتقائية وينطبق فقط على البكاء التعبدي؛ إذ يجب أن يكون البكاء شاهدا – على نحو ما – على إيمان الباكي والتزامه بالقضية الجهادية من أجل أن يكون مستحقا للإخبار عنه والإشادة به. أما البكاء لبواعث دنيوية، كأن يشعر الجهادي بألم في جسده، أو لفقد عزيز لديه، فإنه لا يحظى بالتقدير. وبرغم تجاهل المصادر له في أغلب الأحوال، إلا أنه لا يُستنكر صراحة. ومع ذلك، يسخر الجهاديون في الغالب من أعدائهم حينما يبكون من خوف أو حزن، ويشيرون إلى أن هذا النوع من البكاء – من وجهة نظرهم – يقدح في رجولة صاحبه، ويصفونه بأنه ربما لا يمت إلى الإسلام. على سبيل المثال، في عام 2015، نشر جهاديون من مستخدمي “تويتر” مقطع فيديو من موقع “يوتيوب” بعنوان “الجنود الأمريكيون يبكون على حياتهم في معركة الفلوجة”. واستدعى هذا المقطع المصور تعليقات ساخرة من قبل المتعاطفين مع الجماعات الجهادية. وفي مناسبة أخرى، سخر متعاطفون مع تنظيم الدولة الإسلامية من شاب ينتمي إلى جماعة منافسة التقطته الكاميرا يبكي من الخوف قبيل تنفيذ عملية انتحارية. وبالمثل، في عام 2015 – في الوقت الذي قام فيه تنظيم الدولة بإعدام مثليين مشتبه بهم بإلقائهم من مبان مرتفعة – نشرت فتاة متعاطفة مع التنظيم صورة لأحد الضحايا على “تويتر”، وعلقت عليها بقولها: “ههههههه! أيها الطفل المسكين! هل تريد منديلا قبل أن تقفز بالمظلة؟!”. وتمثل هذه الرسائل جزءا من قضية أكبر في الدعايا الجهادية تتهم الأعداء بالجبن والخوف من الموت. ومن ثم، فإن البكاء ينطوي على دلالة مزدوجة، فهو يعكس قوة المجاهدين (الروحية) من جانب وضعف الكفار من الجانب الآخر. لكن.. في أي المواقف يبكي الجهاديون؟
متى يبكي الجهاديون؟!
ترصد المصادر مواقف عديدة لبكاء الجهاديين. وتشير مراجعة هذه المصادر إلى وجود ستة أنواع رئيسية لمناسبات البكاء. وسوف نلقي الضوء على كل نوع من هذه الأنواع بأمثلة تمثيلية.
الصلاة
تعد الصلاة إحدى المناسبات المهمة للبكاء، حيث توصف قراءة القرآن في الغالب بأنها تدر الدموع. على سبيل المثال، ورد في أحد كتب السيرة الخاصة بالشيخ عبدالله عزام، قائد ما يسمى بـ ’الأفغان العرب‘ في ثمانينيات القرن الماضي، ما يلي:
كان يبكي أثناء صلاتي المغرب والعشاء. وإذا وجد أخا حسن التلاوة كان يقدمه للصلاة، ويقول ’أحب أن أسمع منك‘. وأقسم بالله أنه لم يدع صلاة واحدة لم يبك فيها. وقد صليت خلفه في بعض الأحيان فبكى وأبكاني. وسارت الأمور على هذا النحو، ولله الحمد.
وبالمثل، يصف أحد جنود تنظيم القاعدة صلاة الجمعة في أحد معسكرات التدريب في أفغانستان في نهاية العقد الأخير من القرن الماضي:
كانت صلاة الجمعة تمثل دائما التدريب الأكثر كثافة على مدى الأسبوع […] ففي بعض الأحيان يغمر الإيمان أحد الأخوة فتفيض عيناه من الدمع. لطالما غلبني إيماني، وانهمرت الدموع من عيني أيضا. كان الوقوف وسط هؤلاء المجاهدين يجعلني اشعر بروح الله تملأني، واجتاحتني – كما الآخرين – مشاعر الحب والأخوة. كنت جزءا من مجتمع متفان تماما في الله.
وفي نص آخر، يشير عمر همامي (عُرف أيضا بـ “أبو منصور الأمريكي”، وهو أمريكي ذو أصول نصف سورية انضم إلى تنظيم “الشباب” في الصومال في نهاية العقد الأول من هذه الألفية) إلى مدرب في أحد معسكرات التدريب اتسم بشكل خاص بالغلظة قائلا “برغم قسوة مظهره، كان دائم البكاء في الصلاة عند سماع آيات القرآن”.
الخطب والدروس الدينية
تمثل المواعظ والخطب الدينية إحدى المناسبات التي يتكرر فيها البكاء. ويمكن تقسيم البكاء في الخطب والمواعظ إلى نوعين: بكاء الواعظ (الخطيب)، وبكاء المستمعين (البكاء الجماهيري). وقد يقع أحد هذين النوعين دون الآخر، كما يمكن أن يحدث كلاهما في وقت واحد.
https://www.youtube.com/watch?v=zok_pYiX164
توجد نماذج كثيرة للخطباء البكائين. ويذكر أحد العرب الأفغان أنه سمع عبدالله عزام “يبكي بشدة في أثناء إحدى خطبه” في معسكر بدر خارج بيشاور في عام 1984. ويظهر مقطع فيديو من التسعينيات في كردستان أن الملا كريكار، الذي يحظى الآن يشهرة واسعة، وهو يبكي في أثناء إحدى الخطب، وعندما بدأ في البكاء، تجولت الكاميرا وسط الحضور والتقطت نحيب كثيرا منهم. ويعرض فيديو آخر من منتصف العقد الأول من هذه الألفية، انهيار مامان نور، زعيم بوكو حرام، من فرط البكاء أثناء إحدى خطبه عن الجهاد، وصيحات التكبير التي صدرت عن الحضور. وبالمثل، يظهر فيديو من سوريا في عام 2013 الزعيم المتشدد صقر الجهاد وهو يبكي ويحث أتباعه على الجهاد والشهادة.
ولا يقتصر أمر البكاء أثناء الحديث على القادة البارزين والأيديولوجيين المعروفين فحسب، إذ توجد أمثلة عديدة على بكاء قادة الفصائل أثناء إلقاء كلمات حماسية في الميدان، أو جنود أثناء تصريحات مصورة. على سبيل المثال، في عام 2015، قام المقاتل النرويجي السويدي مايكل سكرامو بتسجيل رسالة على شريط فيديو من كوباني (عين العرب) في سوريا إلى أصدقائه والمتعاطفين معه في وطنه. وبعد لحظات قليلة من الفيلم، انخرط سكرامو في البكاء أثناء حديثه عن الخبرات الدينية التي يعايشها، والتي يريد من أصدقائه مشاركته إياها.
وتتحدث المصادر أيضا عن الكثير من البكاء الجماهيري. فقد وصف أحد المصادر خطبة لعزام في الثمانينيات قائلا: “ألهبت الخطبة حماس كل من كان حوله. وإلى جواري، كان هناك شاب أفغاني تسح عيناه الدموع سحا”. كما يذكر أحد العرب الأفغان السابقين أن عزام “كان يأتي في أيام الخميس والجمع من إسلام أباد إلى بيشاور ويجعلنا نبكي”. وتبرز مصادر أكثر حداثة نماذج مشابهة لهذا النوع من البكاء الجماهيري أيضا. على سبيل المثال، نشاهد في فيديو من سوريا في عام 2013 الشيخ الجهادي السعودي عبد الله المحيسني يلقي خطبة ما قبل المعركة، وإلى جانبه أحد الرجال (يُعتقد أنه القائد سيف الله الشيشاني) يبكي بحرقة. وفي فيديو آخر من غزة في حوالي عام 2014، يلقي الشيخ السلفي عبد اللطيف موسى (المعروف أيضا باسم أبو نور المقدسي) خطبة في أحد المساجد. وبعد حوالي 25 دقيقة، يظهر أحد الحراس وقد غلبته عاطفته واستبدت به الدموع.
توماس هيجهامر – كبير باحثين في “مؤسسة أبحاث الدفاع النرويجية” (FFI)، التابعة لجامعة أوسلو
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي ومراجع الدراسة باللغة الإنجليزية من هنا