كان ممن يداومون قديما على شراء المطبوعات العربية زهيدة الثمن، وكثيرا ما تكدست عنده أعداد من المجلات لم يتسن له قراءتها.. فكان ينتهز أيام الإجازات الطويلة لانتقاء الموضوعات والقصص التي تلفت عناوينها نظره ويستغرق في قراءتها ساعات.. وكان مما شد انتباهه في مجلة العربي موضوعات يكتبها أ. محمد مستجاب عن الأشياء والأدوات يحاول فيها قول كل شيء عن الشيء متجولا في أروقة اللغة والتاريخ والعادات، سابرا غور الأمثال والحكم، مضيفا من حكمته المصفَّاة على هذا الشيء أو ذاك من بعض ما حنكته به التجارب.. فكتب عن القلم والعصا والحذاء والحبل والصحن والخيط والإبرة وغيرها.. لكنه – حسب علمه- لم يتناول الكمامة بالكتابة؛ ما حفزه لانتداب نفسه للحديث عنها، بعد أن صارت تحظى باهتمام واسع كونها صارت الأداة الأهم في الوقاية من الإصابة بفيروس “كورونا” الخطير.
كتب معرفا: والكمامة في المعنى للستر والسد والتغطية لأغراض شتى وهي تشي بالحذر والانتباه والتوجس للخطر، والتحوط لالتماس سبيل النجاة.. وقد ارتبط مفهوم التكميم والإلجام بالإسكات والمنع عن الكلام فيما له صلة مباشرة بممارسات الاستبداد وضرورات القمع.. لذلك فإن الأسماع عرفت منذ زمن مصطلح “تكميم الأفواه” للتدليل على القهر والإرغام لكل صوت يغرد خارج السرب، وليس داخل السرب تغريد بل طنين من أهازيج النفاق والطبل الأجوف.. كما صارت الذاكرة ملآى بمشاهد لأطباء سينمائيين يرتدون الكمامات ويذيعون أخبارا تتعلق بانقطاع الأمل في النجاة أو قلة الحيلة في مواجهة وحش الموت.. ولما كان بمقدور الكمامة أن تلعب دور اللثام فتخفي الملامح مما يبعث على الارتياب فإنها لم تقع من النفوس موقع القبول بل كان الناس منها إلى النفور أميل.. أما هو فقد أحب استخدامها ليس من باب مخالفة العامة بل لأسباب تعددت حتى وجب ذكرها.
وأضاف: في مدن الغبار التي أدمنت التلوث تصبح رئة الإنسان مكبا لنفايات الهواء الذي تحولت جزيئاته إلى خلايا حاملة للمرض.. الأدخنة والعوادم والروائح الكريهة والأتربة كل ذلك لم يكن باعثا لنا على التفكير في ارتداء الكمامات التي كنا نشتريها للآباء والأمهات لتكون ضمن متاعهم الأساسي في رحلات الحج والعمرة.. ولم يكن هذا مانعا من إصابتهم بالأمراض بسبب فساد الهواء لعدم وجود غطاء نباتي في الأماكن المقدسة وفق ما أقره مركز أبحاث الحج.. وكان الحديث المستمر عن كوكب اليابان يحمل إلينا دائما صور المواطنين وقد ارتدوا الكمامات في المترو وفي الأسواق وفي أماكن الزحام.. لكن ذلك أيضا لم يكن بالدافع القوي لنا لارتداء الكمامة فما زال البون شاسعا بيننا وبين شعب اليابان الذي يعشق النظام ويتفانى في العمل ويقدس القانون.. أما نحن فحدث ولا حرج، وكأننا خلقنا من المادة الخام للانفلات والفوضى.. لا نجرؤ على التفكير خارج ذواتنا، ولا نعرف المسئولية العامة إلا في أضيق الحدود.. لكن حتى هذا النموذج لم يمكث طويلا لنكتشف أن الكوكب المزعوم أكذوبة يندفع طلاب الثانوي فيه للانتحار تحت ضغوط الدراسة المرعبة، ويصبح الزواج فيه أمرا أكثر من هامشي في مقابل صراع الترقي الوظيفي بين الأزواج، بينما يعيش قطاع عريض من الشعب في ظروف لا آدمية دون خدمات تقريبا.. ما جعل الهوة تتسع بيننا وبينها –أي الكمامة- مجددا.
وعن نفسه قال: وما كان لشخص تعوَّد قضاء حوائجه في اللحظات الأخيرة ليرفضَ قدرا لا بأس به من التخفي صَاحَبَ فقدانه لثلث وزنه تقريبا.. يعني إذا أضفنا “الكاب” الرياضي الذي يخفي شعره الطويل، ونظارات جديدة ذات عدسات داكنة، وحذاء مرتفع نسبيا إلى الكمامة؛ يصبح التعرف عليه من الأمور الصعبة.. لكن شيئا ما، كان يدل عليه دوما.. ويتيح للرفاق القدامى -الخائفين دون سبب- أن يدَّعُوا طوال الوقت عدم معرفتهم به.. أو التعرف عليه فجأة وسط الزحام دون سابق مقدمات.. كما أتاح له ذلك؛ التملصَ من الأحاديث المتعددة على طول الطريق الذي يقطعه سيرا على الأقدام إلى السوق.. لقد صار بينه وبين الكمامة ألفة كاملة.. هو لا يستطيع الآن مفارقتها.. لم تسبب له ذلك الشعور بالاختناق كما يدعي البعض ولا هي كتمت أنفاسه ليضطر لسحبها إلى أسفل ذقنه كما يفعلون مضاعفين مخاطر الإصابة دون وعي.
رأى صاحبنا كذلك في استخدامه المنتظم للكمامة وعدم إزاحتها عن وجهه طوال فترة وجوده خارج المنزل أمرا يدعوه إلى الصمت أو قلة الكلام على أقل تقدير.. حتى أنه ضبط نفسه ذات ظهيرة حارة يشير بما يريد دون كبير حاجة للإفصاح. وماذا يفيد البيان وقد فقد القوم قدرتهم على التمييز وصاروا أسرى لسوء الفهم الذي أوردهم كل مورد؟!
عله تمنى ذات يوم أن يخرج إلى الشارع فيرى عموم المصريين مكممين.. لينتابه شيء من البهجة يبدد ذلك الحزن الذي عاينه منذ طالع التقرير الذي كتبته إحدى الصحفيات الأوروبيات والذي ادعت فيه أن المصريين يمتلكون أكبر وأضخم أنوف في العالم.. ودعمت الصحفية تقريرها بصور لشخصيات عامة، فنانين وأدباء ومثقفين ومسئولين في مناصب حساسة، ووجوه للعامة، يجمع بينها على اختلاف الأحوال بين الترف والبؤس.. الأنف الكبير غير منتظم الشكل ذي الحاجز المنحرف والفتحات الواسعة.. أثار انتباهه أيضا دعوة الكاتبة عموم المصريين للانتباه لأنوفهم وتعهدها بالرعاية والإحسان إليها بالتجميل.. وهو لم يخف أبدا أن بينه وبين أنفه خصومة قديمة عززتها إصابات مختلفة في ساحات اللعب والشجار.. رأى أن الكمامة خير ونعمة لكل أولئك الذين يعانون من تضخم الغضاريف الأنفية، وذلك الرجل “العجوز” الذي يظهر على استحياء في الغناء الطفولي بأنفه التي صارت بمرور الزمن “قد الكوز” وهو قد رآه بالفعل ذات أصيل يمشي مع صديق له ويتحدث بحماس، وكان هو بصحبة صديق له دمرت المخدرات عقله تماما فيما بعد. وكان صديقه لا يخفي اعتراضه على أي شيء يراه ناتئا وغريبا وخارجا عن المألوف.. فإذا به يذهب إلى الرجل ويخبره أنه يعترض بشدة على أنفه.. أما هو فتساءل بعد ذلك عن فشل الكمامة في إخفاء مثل هذا الأنف.. حدث نفسه بأن فقد أبي الهول لأنفه وكذلك كثير من التماثيل المصرية لم يكن بالأمر الاعتباطي!.
كان إصراره حاسما على رفض الكمامة القماش. منذ الوهلة الأولى شعر بها قطعة ملابس داخلية أعيد تصنيعها.. استخدم الكمامة الجراحية طوال الوقت واعتادها ولم تكن تسبب له الصداع إلى نادرا.. تحديدا في حال ما إذا أسرع السير في القيظ، أو إذا نسيها على وجهه لفترة طويلة بعد عودته للمنزل.. وهذا الأمر كان يثير عجب الجميع.. ومنهم من صارحه أن ملامحه توشك على التلاشي من الذاكرة.. ومنهم من كان أكثر صراحة معه ليعترف له أنه لم يعد يعرفه بغير الكمامة؛ حتى أنه إذا أزالها لا يستبعد أن يخرج من تحتها شخص آخر غير الذي عرفه لسنوات، وما دعم ذلك عند كثيرين تغير صوته ربما لندرة الكلام وإيثار العزلة.. هو أيضا لم يهتم عندما أزالوا كثيرا من المرايا في البيت بادعاء عدم الحاجة إليها. هو لم يكن مغرما بها يوما على أية حال.. لكن تلك اللحظة التي دفعه الغضب فيها لنزع كمامته، وكان بالمصادفة قرب إحدى المرايا، سمع صرخة مكتومة تصدر عنه لا أثر لها في المرآة.. لكنه استجمع قواه ليقترب منها ويتفحصها ليعرف كيف بددت صرخته أو من أين استجلبتها بحسب كونه ليس ذلك الشخص الماثل في المرآة أو هو.. بما لا يمكن تأكيده أو نفيه على وجه الحسم.