رؤى

عبد العظيم حماد يكتب: دبلوماسية “النصيحة الملزمة”.. كيف يعمل النفوذ الأمريكي في العواصم العربية؟

في حفل توقيع اتفاقات كامب ديفيد بحديقة الأبيض يوم 17 سبتمبر عام 1978 جاءت جلسة الأدميرال ستانسفيلد تيرنر مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بجانب الدكتور علي السمان المستشار الإعلامي والمراسل الصحفي المصري العتيد، وكان السمان في ذلك الوقت واحدا من عديد من الشخصيات التى استخدمها الرئيس أنور السادات كقنوات لدبلوماسيته الخلفية.

بالطبع كان الادميرال يعلم دور أو أدوار علي السمان، وعلى ما يبدو – وكما حكى لي الرجل – فإن تيرنر أراد ان يبعث من خلاله رسالة طمأنة أو “تحذير” إلى السادات فقال بعد توقف التصفيق احتفاء بتوقيع الاتفاقات:”إن مصر قد ضاعت منا عشرين سنة كاملة، ولن نتركها تضيع مرة أخرى إطلاقا”.

توقيع كامب ديفيد
حفل توقيع كامب ديفيد

للوهلة الأولى يبدو هذا التأكيد إيجابيا، بل ومبهجا، لأنه يعكس أهمية مصر الإقليمية بل والدولية، ويظهر حرص الدولة الأهم في العالم كله على خطب ودها، بعد ما عانته من متاعب في المنطقة، وفي عديد من مناطق العالم الأخرى من جراء عدائها لجمال عبد الناصر، أو عداء عبد الناصر لها، منذ معركة الأحلاف، وتحول مصر إلى السلاح السوفيتي، ومعركة السد العالي، ويبدو أن هذا كان هو الاعتقاد الراسخ لدى الرئيس السادات نفسه؛ إذ كان مؤمنا بأن عبد الناصر “ناكف” أمريكا كثيرا كما قال للأستاذ هيكل، وأن حل مشكلات مصر كلها في واشنطن، كما قال للفريق محمد فوزي عندما استقبله لتطييب خاطره بعد العفو الرئاسي عنه من حكم السجن فى قضية 15 مايو، إضافة إلى ما قاله للأستاذ أحمد بهاء الدين من أن جميع قادة العالم الثالث (بعد الحرب العالمية الثانية) الذين ناهضوا الولايات المتحدة مثل ناصر وسوكارنو ونهرو ونكروما  قد خسروا، وأضروا بلادهم، وأن الوحيد الذى كسب وكسَبت بلاده من هذا الجيل من القادة هو شاه إيران؛ لأنه “قعد على حجر أمريكا”.

لكن هل كان هذا المفهوم الساداتي للترحيب الأمريكى به، وبالحرص على ألا تضيع مصر من الولايات المتحدة مرة أخرى متطابقا مع المفهوم الأمريكي لهذه الصداقة الوطيدة الجديدة؟ أم كان لدى الأمريكيين مفهوم آخر، ومن ثم سياسات ووسائل أو أدوات أخرى لضمان عدم “ضياع مصر منهم مرة أخرى” ؟ وبفرض أن صانعي السياسة الأمريكية في تلك السنوات في إدارات الرؤساء نيكسون وفورد وكارتر كانوا جادين في وعودهم الخلابة للرئيس المصري، فهل كان مؤكدا أن تأتي محصلة تفاعل القوى المشاركة في صنع السياسة الخارجية الأمريكية، ملتزمة بتلك الوعود، في وقت تتوزع فيه هذه القوى على الكونجرس، وجماعات الضغط لا سيما اللوبي الصهيوني، والحركة الصهيو- مسيحية، ثم أجهزة المخابرات، والإعلام والرأي العام، ومراكز الأبحاث،  والشركات الكبرى…الخ؟

باستثناء المعونات الاقتصادية، والمعونات العسكرية “المحسوبة جيدا” بحيث لا تغير موازين القوى بين مصر واسرائيل، فإن أكثر المطالب والتوقعات المصرية من شهر عسل دائم مع الولايات المتحدة لم تتحقق، وكذلك لم تتحقق أغلب تعهدات الرؤساء الأمريكيين للجانب المصري، ودعنا من قضية السلام الشامل والعادل والدائم في الشرق الأوسط ، مع استثناء محدود وقصير الأمد في رئاسة جورج بوش الأب حين عمل بقوة لإعفاء مصر من نصف مديونيتها للولايات المتحدة، وضغط على اسرائيل بقوة من أجل الاعتراف المتبادل بينها وبين منظمة التحرير الفليسطينية، والمشاركة في مؤتمر مدريد، وكان ذلك كله من نتائج مشاركة مصر في حرب تحرير الكويت، والتى كانت ضرورية لتسهيل قدوم قوات أمريكية كثيفة إلى السعودية في مواجهة معارضة شعبية قوية.

الجيش المصري في حرب تحرير الكويت
الجيش المصري في حرب تحرير الكويت

مثلا حفل البيان المشترك عن محادثات السادات – نيكسون فى القاهرة فى فبراير 1974 بتعهدات لم ينفذ منها شيء، كالمفاعل النووي، ومشروع منخفض القطارة، والتدفقات الاستثمارية الأمريكية والدولية على كل ركن فى مصر، و بينما تقاطر رؤساء البنوك والشركات الأمريكية على القاهرة، و فيما كان ديفيد روكفلر رئيس بنك تشيزمانهاتن الأمريكي ضيفا دائما على الرئاسة المصرية،  فلم يتبق من تلك التعهدات العلنية وهذه الزيارات إلا الصور التذكارية ومانشيتات الصحف، أما الذى لم يظهر في الصور ولا في المانشيتات فكان النصائح الودية لكى تتدفق الاستثمارات، ولكى يؤمِّن السادات نظامه، والأهم لكي لا تضيع مصر مرة أخرى من أمريكا .

كانت البداية هي الانفتاح لفك الارتباط الاقتصادي بالكتلة الشرقية، ولربط مصر بالسوق العالمية الرأسمالية، وتحويل مدينة بورسعيد الى منطقة اقتصادية حرة تحت لافتة التصنيع للتصدير، في حين أن مضمون المشروع الحقيقي هو تسهيل تجارة الاستيراد من أجل إحداث رواج نقدي في إقليم القناة يستوعب العائدين من التهجير، ويستل من صدورهم غضب وحرمان سنوات التهجير، كمايستل من عقولهم الأفكار الثورية التي كانت معاناة تلك السنوات تربة خصبة لها، ولم يخف المستشارون الأمريكيون كراهيتهم للقطاع العام وتشويه سمعته، والتوصية بتصفيته، ليس فقط لأن أمريكا الرأسمالية لا تؤمن بفكرة القطاع العام، ولكن أيضا لتصفية معاقل الطبقة العاملة بوصفها الحاضنة الطبيعية للفكر اليساري ، ولتخليق طبقة رأسمالية جديدة تكون قاعدة النظام، وضامنة استمراره، لا سيما حين يأتي الوقت المناسب لاتفاق الصلح مع إسرائيل .

يجب عند هذه النقطة أن أوضح موقفي الشخصي من قضية السلام كمبدأ، وكذلك من سياسة الانفتاح الاقتصادى من حيث المبدأ أيضا، وهو موقف سبق لي إيضاحه في مناسبات عديدة، ففيما يتعلق بقضية السلام فالمفاضلة ليست بين استمرار الحرب وبين السلام، ولكنها بين شروط السلام الذى يهيئ مصر للتنمية الشاملة، ويقودها إلى تحقيق التكافؤ الاستراتيجي مع إسرائيل (حتى وإن اضطر السادات إلى الصلح المنفرد كما حدث)، وبين سلام يؤدي في الممارسة إلى إبقاء مصر في وضعية أقل من هذا التكافؤ بصفة دائمة، وهنا أتذكر أنني سألت الدكتور بطرس غالي أحد أكبر أعضاء الوفد المصري في كامب ديفيد (بوصفه أستاذي في سنوات الجامعة): هل صحيح أن اتفاقات كامب ديفيد تضمنت ملاحق أو تفاهمات سرية تمنع مصر من تحقيق التكافؤ الاستراتيجي مع اسرائيل؟ وكانت إجابته: إن مثل هذه التحفظات لا تُدوَّن في أوراق، ولكنها تترك لتفهم ضمنا، ولكن بوضوح، كما أتذكر رواية للدكتور كمال أبو عقيلة أستاذ الطب بالجامعات الأمريكية وأحد كبار الأمركيين المصريين الذين التقوا بالرئيس السادات عقب توقيع اتفاقات كامب ديفيد، وسمعوا منه أنه حصل على تعهد صريح من كارتر بالمساواة بين مصر واسرائيل في التسليح الأمريكى طيارة بطيارة، ودبابة بدبابة … إلخ، ولكن عندما التقى هؤلاء الأمريكيون المصريون بكارتر، بعد خروجه من البيت الأبيض، وكانت علاقات القاهرة مع واشنطن على غير ما يرام في عهد خليفته في الرئاسة رونالدريجان سألوه عن مصير تعهده ذاك للسادات، فنفى كارتر وجود مثل هذا التعهد من الأصل .

كارتر والسادات
كارتر والسادات

أما فيما يتعلق بالانفتاح الاقتصادي، فمن حيث المبدأ أيضا لم يكن مقبولا أن تبقى مصر معزولة عن التطورات بل الطفرات الاقتصادية والتكنولوجية الهائلة التي شهدها العالم الصناعي الرأسمالي، فيما يُسمَّى بالثورتين الصناعيتين الثانية والثالثة، ولكن الانفتاح الذي طبق لم يؤدِّ إلى لحاقنا لا بالثورة الصناعية الثانية، ولا بالثالثة من باب أولى، وربما أضاع بعضا من منجزات الثورة الصناعية الأولى على الأرض المصرية، مع ضرورة ملاحظة أننا نتحدث عن تحول صناعي كثيف وشامل، وليس دخول بعض الصناعات التجميعية الجديدة هنا وهناك..

بمضي السنوات، ازدادات العلاقات المصرية الأمريكية توثقا وامتد التعاون الاستراتيجي بين الجانبين ليشمل العمل ضد النفوذ السوفيتي والشيوعية الدولية في كل مكان، من أنجولا، إلى القرن الافريقي، والمحيط الهندى إلى أفغانستان، ومن أمن رئيس الجمهورية شخصيا الى المناورات المشتركة، وأصبح للأمريكيين رأى أو مشورة في كثير من الشئون الداخلية، من السياسة الزراعية خاصة القمح والقطن إلى برامج الإصلاح الاقتصادي، والاتفاقات مع صندوق النقد الدولي، ومن العلاقات الدولية، إلى الشئون الداخلية، وذلك إلى حد نصيحة الرئيس السادات بسحب تكليفه لنائبه حسنى مبارك برئاسة حكومة جديدة بعد إقالة حكومة مصطفى خليل في أواخر سبعينيات القرن الماضي، وذلك حتى “لا يحترق” النائب سياسيا، وهذه الرواية أوردها الأستاذ محمد حسنين هيكل في كتابه “خريف الغضب في مصر”، ولم يكذبها أحد في حينها، ولكن بما أنه قد يتبادر إلى أذهان البعض أن شهادة هيكل مجروحة بسبب القطيعة بينه وبين السادات، والتى وصلت حد اعتقال هيكل، فإنني أحيل هؤلاء إلى مذكرات الدكتور كمال الجنزوري الصادرة عن دار الشروق، وهي مليئة بشهادات دامغة حول وقائع النصيحة الأمريكية الملزمة، وحول أشخاص الوزراء ورجال الأعمال المروجين لها، كما أحيل إلى ملف أقدم تاريخا من ذلك وهو ملف وصف مصر بالأمريكاني الذى لم يكتمل نشره في مجلة الأهرام الاقتصادي في بداية حكم حسنى مبارك، وما أدى إليه من إقالة رئيس تحرير المجلة الدكتور لطفى عبد العظيم .

خريف الغضب محمد حسنين هيكل
خريف الغضب محمد حسنين هيكل

وبما أن اختلاف الليل والنهار ينسي كما يقول الشاعر؛ فيستحسن أن نتذكر معا أن تلك النصائح الأمريكية امتدت إلى مناهج التعليم، وقوانين الأحوال الشخصية، وعطلات أعياد الأقباط، وإطلاق سراح بعض المعارضين السياسيين من السجون، وتأسيس المجلس القومى لحقوق الإنسان.. إلخ، ولعله من المهم هنا أننا لا ننكر إيجابية وتقدمية بعض هذه الإنجازات ،ولكن كنا نتمنى تحقيقها دون ضغوط من الخارج .

بالطبع كانت هناك مقاومة سياسية وإدارية في مصر من بعض الشخصيات، وبعض المؤسسات لهذا الدور الأمريكي الآخذ في التمدد في شئوننا، بل إن حسنى مبارك حاول في فترة رئاسته الأولى استعادة شيء من التوازن في علاقات مصر الدولية، واستجاب لمقترحات السعي لمؤسسة العلاقات المصرية الأمريكية عن طريق قناتين، محددتين، هما الحوار الاستراتيجي الدوري بين البلدين، ومجالس رجال الأعمال، ولكن الثمار لم تنضج قط، خاصة أن الكيمياء لم تكن جيدة بينه وبين كل من الرئيسين الأمريكيين اللذين خلفا جورج بوش الأب.. أقصد بيل كلينتون، و جورج بوش الابن .

بالإضافة طبعا إلى الأسباب الموضوعية، وفي مقدمتها انهيار الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية بالكامل، ومن ثم اختلال التوازن الدولي لمصلحة الولايات المتحدة، ووجود قوى متنفذة داخل مصر ارتبطت بذلك الدور الأمريكي، (مرة أخرى راجعوا مذكرات الجنزوري)، جنبا إلى جنب مع طغيان ملف توريث الحكم لابن الرئيس الذى هيمن على الأجندة الداخلية للبلاد منذ مطلع القرن الحالي، فكان أن بلغنا حد مطالبة أوباما لمبارك بالرحيل أمس وليس اليوم في أثناء ثورة يناير 2011، ولا شك في أننا جميعا نعرف أن الرئيس عبد الفتاح السيسي استهل حكمه بالسعي إلى استعادة التوازن في علاقات مصر الدولية؛ ففتح صفحة جديدة في العلاقات مع روسيا، ووسَّع وعمَّق من علاقات التعاون بين مصر وكل من الصين وفرنسا، ولكن يبدو أن كثرة الملفات الضاغطة إقليميا ومحليا لا توفر الوقت والجهد اللازمين لإنجاز المهمة بالكامل، وبالطبع فهذه الملفات أشهر من أن تُنسى، من السد الإثيوبي إلى التحالف الخليجي الإسرائيلي، ومن التمدد التركي والإيراني، إلى انهيار الدولة في كلٍّ من سوريا واليمن وليبيا الملاصقة لحدودنا الغربية، ومن الإرهاب في سيناء وغيرها إلى مواجهة التطرف الديني، والإسلام السياسي، ومن الضغوط الاقتصادية إلى تبعات أزمة وباء كورونا محليا ودوليا، لذا من المبكر الاعتقاد بأننا حققنا التوازن المنشود في علاقات مصر الدولية .

بقى أن ننوه بأن اصطلاح النصيحة الملزمة يعود في أصله إلى أسلوب الاحتلال البريطاني لمصر في إدارة البلاد، وبما أن الولايات المتحدة هي الوريثة الأكبر والأهم للتقاليد والخبرة الإمبراطورية البريطانية، فقد استعار الأمريكيون هذا الاسلوب، ليس للتطبيق في مصر وحدها، ولكن في جميع الدول العربية الدائرة في فلكها .

إذ اتفق الدارسون لحقبة الاستعمار التقليدى على أن الانجليز بحسهم العملي التجاري فضَّلوا ما يُسمَّى بأسلوب الاستعمار غير المباشر (على عكس الأسلوب الفرنسي) حيث تبقى هياكل الحكم والادارة في أيدي أبناء أو مواطني المستعمرة أو المحمية، أو الدولة الخاضعة للانتداب، فيما يحقق المستعمر البريطاني كل ما يريد بالتحكم في الحاكم نفسه، أو في الحكام أنفسهم، فمثلا بقي نظام الحكم مصريا مائة في المائة.. بعد الاحتلال، أي بقي الخديوي أو السلطان أو الملك على عروشهم، وبقي رئيس الوزراء والوزراء مصريين بالكامل طوال فترة الاحتلال، ولكن البريطانيون وضعوا مستشارا من رجالهم في كل وزارة ليكون له حق تقديم النصيحة الملزمة للوزير، والتي لا يستطيع الوزير رفضها أو العمل عكسها، في حين احتفظ المعتمد البريطاني الذى أصبح المندوب السامي، بحق تقديم النصيحة الملزمة لكل من الخديوي أو السلطان أو الملك، ولرئيس الوزراء، وهو ما وصفه لطفي السيد في حينه بالقول إن معادلة الحكم والسياسة في مصر تتكون من حدين هما السلطة الفعلية للاحتلال والسلطة الشرعية للخديوي، ولم يتغير هذا الوضع وتستقل الإدارة المصرية، وينتهى دور المستشارين البريطانيين، ومعه مبدأ النصيحة الملزمة، إلا بعد معاهدة 1936، التي كان تمصير إدارة البلاد من أبرز إنجازتها جنبا إلى جنب مع تمصير قيادة الجيش وإلغاء الامتيازات الأجنبية والقضاء المختلط .

من المفهوم أن هذا هو عين الأسلوب الذي طبقه البريطانيون في إمارات ومشيخات الخليج والجنوب العربيين، وكل من الأردن والعراق، وبما أن الولايات المتحدة هي وريثة الإمبراطورية البريطانية كما سبق القول؛ فقد ورثت أيضا منها دبلوماسية النصيحة الملزمة، مع فارق مهم يجب ألا ننساه، وهو أن أدوات الضغط الأمريكي لا تشمل الاحتلال العسكري لحسن الحظ، وهنا يتوجب الإشادة برفض مصر الدائم منح قواعد عسكرية لأية قوة أجنبية في أراضيها، أو على سواحلها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock