فى أواخر سبعينيات القرن الماضى غاب عن الساحة الغنائية المصرية عدد كبير من رموزها الذين حملوا لعقود عبء الأغنيه المصرية والعربية؛ فقد رحلت أم كلثوم وفريد الإطرش وعبد الحليم حافظ وغيرهم وشهدت تلك الفترة تغيرات واضحة في تركيبة المجتمع المصري خاصة بعد إنتهاء حرب اكتوبر واعتبار المواجهة العسكرية مع اسرائيل شيء من الماضى وإعلان الرئيس السادات أن أكتوبر هي آخر الحروب وما تلا ذلك من توجهات اقتصادية واجتماعية متناقضيه مع ما كان سائدا في المجتمع منذ 1952 حتى 1974 ومن أهم تلك المتغيرات ما سمى “الانفتاح الاقتصادى” الذي خلق بدوره طبقة جديدة استفادت من هذا المتغير وصنعت ثروتها من التجارة في المنطقة الحرة واستيراد السلع الاجنبية التي حملت معها سلوكيات جديدة وقيم مستحدثة على المجتمع ولم تكن الأغنية بعيدة عن هذا السياق الإجتماعي – الاقتصادى – الجديد وتزايدت شهرة مطربي المرحلة ولمع نجم “أحمد عدوية ” و”كتكوت الأمير” وغيرهم وتزامن صعود تلك الموجة من الأغنية مع دخول عصر “الكاسيت” ونهاية زمن الإسطوانة ولعل التغيير الاقتصادي والاجتماعي الذي هبت رياحه على المجتمع في تلك الفترة وغياب رموز الاغنيه التقليدية عن الساحة الفنية قد خلق مناخا مهيِّئا لما سُمِّي بعد ذلك بالأغنية البديلة التي يمثل الشكل المختلف أحد ملامحها حيث تخلص نجوم الغناء من الشكل التقليدى للمطرب الذى يرتدي ملابس رسمية خلال تقديم فنه.
البدايات … والتكوين
بعد عامين من قيام ثورة يوليو وُلِد “محمد منير أبا زيد جبريل متولي” في أكتوبر 1954 بقرية منشيه النوبة بأسوان ويكمل الطفل حياته ويتشبع بفنون النوبة حتى يلتحق بكليه الفنون التطبيقيه بجامعة حلوان ويختار الفتى الجنوبى قسم التصوير لدراسته.
في مرحلة الدراسة الجامعيه تَفتَّح وعي منير على “المدينة ” التى غنى عنها مرارا بكل ألم واغتراب كانت يد المحامي والمناضل اليساري – النوبي الأصل – زكى مراد قد امتدت لبلدياته بعد أن انبهر بصوته الذهبي؛ فقدمه للشاعر “عبد الرحيم منصور” الذى تبنى الفتى الأسمر تماما وعامله كابنه تماما واصطحبه إلى أوساط المثقفين في القاهرة، والمؤكد أن شقيق “منير” الذي يكبره “فاروق” والذي سبقه إلى القاهرة، وكان يمتلك صوتا عذبا، قد ساهم في توثيق علاقة الفتى “منير” بالمدينة وتفاصيلها الفنية؛ لذلك كان فاروق منذ البداية هو الأب الروحي الفعلي لمنير وهو الذي تولى توجيهه ورسم طريقه منذ البداية، كان “فاروق” يرتبط بصداقة مع اثنين نسجا بدايات محمد منير الفنية، وهما الشاعر “عبد الرحيم منصور” والملحن “أحمد منيب”، وساهم “فاروق” في الجمع بين الثلاثي “منير – عبد الرحيم – منيب”
وتمثل علاقة “منصور– منير” نقطة انطلاق شديدة الأهميه في مشوار منير ومشروعه الفني المغاير، قبل أن يلتقي بالملحن “النوبى” أحمد منيب ليشكل الثلاثي حالة غنائية خاصه ومتفردة..
يؤكد “منير” أن “منيب” وجد في صوته نفسه كما وجد منير في موسيقى “منيب” روحه التواقة دوما للجنوب وشجنه وعذوبته..
ساهم عدد من الموسيقيين والشعراء في مشروع “منير” ذلك المشروع الذى دشن لما يعرف الآن بالغناء البديل الذي تحول، بفضل هؤلاء، إلى الغناء السائد فتبعه الجميع واهتدت به عشرات الأصوات الفنية فى مصر
من هؤلاء الموسيقيين الذين شكلوا ملامح التجربة كان الشاعر “مجدى نجيب” والموسيقار “هانى شنودة ” الذي يقول في مذكراته التي حررها الكاتب الصحفي “مجدى حمدي”: “بعد هذا العمر الطويل يمكننى القول، بضمير مرتاح، إننى رويت نبتة منير ورعيتها حتى طرحت هذا المشروع الفني الذى عرفناه جميعًا، والبقية ممن شاركونى التجربة ولم يكونوا معروفين وقتها للجمهور، كانوا عظماء، لا خلاف، ولكنهم كانوا وراء الكواليس، لم يكونوا أصحاب بصمات جريئة، ولم يقلّبوا تربة الموسيقى فيُخرجوا منها كنوزًا كالتي اكتشفتها أنا، أحمد منيب على سبيل المثال لم تكن ألحانه معروفة جماهيريًّا قبل أن تشكلها توزيعاتي وتعرضها في برواز حديث وأنيق يواكب ذائقة الناس المتطورة، ولكن للأمانة لو هناك أب روحي حقيقي لمحمد منير فهو عبدالرحيم منصور، الذي جاء لي به وصاغ مشروعه الفني عبر كلماته التي كانت متمردة وسبَّاقة ومستشرفة للمستقبل”
https://www.youtube.com/watch?v=RzedXAlB5sk
شغف المغامرة والتمرد
بدأ مشروع منير الفني في عام 1977 حين كانت مصر تبحث عن صوتها الضائع بعد ما غاب “العندليب” وسيطرت الأصوات التقليدية على الساحة وتحكمت معاني الحب الساذج من جهة وأغنيات الميكروباص من جهة أخرى؛ فكانت الحتميه تفرض أن ينتج هذا المخاض حلما جديدا ومشروعا مختلفا أكثر تعبيرا عن اللحظة المرتبكة.. اللحظة التي اختلطت فيها المشاعر وتداخلت الأفكار ما بين حصاد الانفتاح الاقتصادي وبين مباردة السلام مع اسرائيل ومقولة أن أوراق اللعبة في يد أمريكا!
كانت مصر بحاجة إلى صرخة تقول:
“كل شىء بينسرق مني
العمر م الأيام
والضي م النني..”
(شجر الليمون دبلان على أرضه)
لم يكن الأمر سهلا على منير ورفاقه لكن المشروع كان يستحق المغامرة ..
مغامرة أن يخرج هذا الفتى الأسمر النحيف ذو الشعر الأشعث يرتدي البنطلون الجينز والتيشيرت البسيط جدا.. يمسك المايك في يديه.. تصدر عنه انفعالات غير تقليديه في أثناء الغناء.. لا يقف ثابتا كما كان المطربون يقفون حينذاك.
وفوق هذا كله يقدم موسيقى شديدة الاختلاف والغرابه قام بتوزيعها “يحيى خليل “العائد لتوه من أمريكا حاملا على كتفه موسيقى الجاز يبشر بها وسط التقليدي والسائد ويلحنها هانى شنودة بجنونه الموسيقي غير المحدود
كان منير إذن يغامر .. نعم..
لكنها المغامرة التي تصنع الحديث وتُحدِث الثورة … وكأن مصر كانت تنتظر هذا المشروع الذى يجدد شبابها ويربط بين مشاعرها وتفاصيل حياتها وبين قضيتها الوطنية في لحظة ارتباك استثنائية من تاريخها المعاصر
ولم يكن شكل الفنان وطريقة أدائه هي المتغير الوحيد، لكن الأغنيه – البديلة – تميزت أيضا بمفردات جديدة وغير متداولة في الأغنية العربية، كما جاءت الجمل الموسيقية والتي امتزجت بجمل غربية مع الموسيقى الشرقيه التقليدية لتصنع موسيقى جديدة تتميز بسرعه الإيقاع وقصر مدة الأغنيه بالمقارنة بالأغنيات السائدة التى كانت مدتها أطول بكثير.
مشروع فنى مغاير
مثَّل “منير” نقطة انطلاق في مسيرة الغناء غير التقليدي بكل مفرداته، ساعده في ذلك المشروع عدد من صناع الموسيقى الذين فتحوا آفاقا جديدة من أهم هؤلاء كان “هانى شنودة ” الذى كسر قيود التعبير التقليدي بالموسيقى حاملا “الأورج الكهربائي” في يمينه وطموحا بلا حدود في التميز في يساره..
كما أتى أيضا “يحيى خليل”، عائدا من أمريكا، ليمنح من فنه حالة تمرد على السائد ويضيف إلى المشروع الغنائي الوليد، كما كان “أحمد منيب” بموسيقاه النوبية ركنا رئيسيا من أركان مشروع “منير”
وبالتأكيد فإن شعراء قدموا مفردات مختلفه وجريئة وتحمل هموما حياتيه دقيقة من بينهم “عبد الرحيم منصور – مجدى نجيب – سيد حجاب وغيرهم ممن صاغوا رسالة “مشروع منير” الفني
هؤلاء المبدعون نسجوا معاً خليطاً رائعاً ونادراً من الموسيقى النوبية والسلم الخماسي مع الموسيقى الشرقية مع الموسيقى الغربية لتظهر بذلك الانطلاقة الأولى في تاريخ محمد منير وهو ألبوم “علموني عنيكي” الذي خرج للنور عام 1977، ثم قدم عام 1981 ألبوم “شبابيك” الذي حقق مبيعات هائلة وفي هذا الألبوم انضم إلى فريق العمل الموسيقار يحيى خليل بفرقته التي تولت توزيع الألبوم بالكامل ليكون محمد منير هو أول مطرب عربي يقدم موسيقى الجاز، وقد صنف ألبوم “شبابيك” بعد ذلك بسنوات من ضمن أفضل الألبومات الموسيقية العربية والأفريقية في القرن العشرين.
https://www.youtube.com/watch?v=LIonmOMPeP8
في مشوار منىر الفني عدة مراحل، الأولى هي مرحلة المغامرة التي وضعت هذا المشروع الفني على سلم التحقق، ثم جاءت مرحلة التحقق عندما استطاع “مشروع منير” أن يجد مكانة لائقة في المنافسة
لكنها المنافسة التي اختارها منير ورفاقه.. “أن تنافس من منطقة المشروع الفنى المختلف والملتزم في آن” ويعتبر هذا المشروع الذى يمتد لأكثر من 40 عاما هو الأهم في نصف القرن الأخير من عمر الوطن.