كلما قرأت كتاب «توماس هوبز» (Thomas Hobbes) المعنون: اللفياثان الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، تأملت كثيرًا غلاف الكتاب وعنوانه، وبالأخص استخدام «هوبز» لمصطلح «اللفياثان» (Leviathan) ونظرت للواقع بناءً على هذا التأمل، وفي كل مرة يتأكد لي أن تسمية هذا الكتاب، لم يكن أمرًا اعتباطيًا؛ فاللفياثان مستوحى من اسم وحش ضخم أو تنين بحري ورد الحديث عنه في التوراة، وهى قصة تحكى عن وحش قوى جدًا كان يحكم بقية الوحوش الآخرى، ولكن ذات يوم، قررت هذه الوحوش التمرد عليه والخروج عن سيطرته، وزعزعة عرشه، إلا أنه استجمع قواه وقوته وكان لهم بالمرصاد، فأوقف عصيانهم، وقفز على ثورتهم، وأخضعهم لسلطته مرة أخرى.
وعلى الرغم من الاسم ودلالاته في التوراة، إلا أنني أزعم أن هذا المعنى لم يكن أبدًا في ذهن «هوبز»، فلا أعتقد أنه كان يريد أن تكون الدولة ضد المواطن أو الإنسان، ولكنه أرادها تنين ووحش قويأمام تسلط الكنيسة واستبداد رجالها ووحشية الحياة الطبيعية، وبالقدر الذي يمكنها من أن توفر أمن الإنسان وتحققه. إلا أن تاريخ ومسارات تطور الدولة كنظام للحكم والإدارة، شهد تحول الدولة في كثير من مناطق العالم إلى تنين قوي ومستبد لصالح الحاكم، وبعد أن كانت الدولة آلية يستبدل بها الناس سلطة الدين أو اللاهوت، ضمن عقد اجتماعي، أصبحت الدولة توقع العقد الاجتماعي مع الرأسمالية ضد الإنسان وإنسانيته وحرياته وخصوصيته.
أصبحت معظم الدول لا تفوت أي فرصة لتدعيم سلطتها، أو كما أشار «بول فيريليو» إلى أن السلطة هي الحركة، وعليه فإن كل جهد الدولة المعاصرة ينصب على كيفية السيطرة على الفضاءات العامة، والتحكم في حركة تدفق الشعوب، وانتقال الأفراد والسلع والأفكار. ولأجل ذلك، تجتهد الدولة والرأسمالية في اختراع كل ما هو ممكن من أجل صرف نظر الإنسان عن حريته، وكل ما هو ممكن من أجل رقابة المواطن، حتى ولو وصل الأمر لرقابة ما يدور تحت قشرة دماغ كل مواطن. ولذلكبدأ الحديث عن: الرقابة تحت الجلد، والمواطن المرقمن، والمريض المعقم، وكلها مفاهيم ترتبط بالتداخل الكبير بين الإنسان والتقنية الرقمية والذكاء الاصطناعي، وهذا التداخل من شأنه أن يسهل عملية الرقابة على المواطنين وضبط أجسادهم، وبالتالي ضبط أفعالهم. لقد جاء وباء «كوفيد-19» وجعل من كل ما سبق ممكنًا وشرعيًا.
وباء الكوفيد-19 وتحولات نظم الرقابة
أدى انتشار وباء «كوفيد-19» إلى انتشار غير مسبوق لأقنعة الوجه، مع تحول كبير في معظم الدول نحو تبنى أدوات المراقبة الرقمية، خاصة نظم التعرف على الوجه (Facial recognition systems). وبالرغم أنه من المتوقع أن تختفي أقنعة الوجه قريبًا، إلا أن نظم الرقابة الخاصة بالتعرف على الوجه، ليست مستعدة للبقاء فقط، ولكن للاستمرار والتوسع والانتشار، فكثير من الدول وجدت مبررًا للاعتماد على هذه النظم؛ لزيادة الرقابة على شعوبها، خاصة تلك الدول التي يترسخ فيها الاستبداد ونظام الحكم الفردي أو التسلطي.
طريقة عمل تقنية التعرف على الوجه
لقد أدى الوباء الأول في عصر الهواتف الذكية والبيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي إلى زيادة انتشار الأدوات الرقمية لمكافحة الأمراض المعدية؛ حيث يمكن استخدام التقنيات الرقمية لمراقبة المسافة الآمنة بين الأشخاص، وإجراءات الحجر الصحي، والتحكم فيها، ويمكنها أيضا تسهيل تتبع جهات الاتصال واكتشاف شبكات ومجموعات العدوى، كما يمكنها المساعدة في تتبع الحالة الصحية للأفراد. كل هذا يبدو مقبولًا، إلا أنه من ناحية ثانية، هو شكل من أشكال الرقابة، ويقدم للحكومات كمًا هائلًا من البيانات والمعلومات عن المواطنين، فمن المحتمل أن تعتمد بعض الحكومات على مثل هذه البيانات الضخمة، وأدوات الرقابة في إحكام السيطرة على مواطنيها.
الوجه كجزء من الهوية الشخصية
تعد الوجوه من الأنماط الأكثر شيوعًا التي يستخدمها البشر لتحديد هوية الآخرين عبر تفاعلات الحياة اليومية، كما أنها جزء من الوثائق الحكومية الخاصة بهوية كل مواطن، مثل: جواز السفر، رخصة القيادة إلخ، كما أنها جزء من إثبات هويتنا عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي، وهناك اتفاق ضمني بين غالبية المجتمعات على الكشف عن الوجه كشرط مسبق للعلاقات الاجتماعية. ومع ذلك؛ ولأن الوجه هو سمة مركزية للهوية وتحديدها، فنحن نريد التحكم فيه واستخدامه، ومن ثم، يجد معظمنا أنه من غير المقبول أن يلتقط شخص غريب صورة لوجهنا في الشارع دون تفسير قوي ومقبول.
نظام التعرف على الوجه: الرقابة عبر الوجوه
تعتبر تقنيّة التعرف على الوجه؛ تقنية متقدمة تساعد في التعرف على الوجوه البشرية وتحديدها من خلال صورة أو مقطع فيديو. يعتمد النظام المُستخدم في هذه التقنيّة على القياسات الحيوية لرسم ملامح الوجه من خلال الصورة أو الفيديو. تتمّ مقارنة هذه المعلومات مع قاعدة بيانات كبيرة من الوجوه المسجلة للعثور على تطابق صحيح. ويوصف نظام التعرف على الوجه بأنه واحدًا من أفضل ثلاث طرق للتعرف على الأشخاص من خلال علم وظائف الأعضاء أو التشريح. ويُعتبر التعرف على الوجه التقنية «البيومترية» الأسرع انتشارًا؛ يعود السبب في ذلك إلى احتوائها على مجموعة واسعة من التطبيقات التجارية سهلة الإعداد نسبياً. ويمكن استخدام هذه التقنيّة في كل شيء بدءًا بالمراقبة وصولًا إلى التسويق المستهدف.
يكتشف نظام التعرف على الوجه، وجوه البشر من خلال البيانات المخزنة للصورة «صورة الوجه»ويطابقها مع الصورة الواقعية، وعندما تحدث المطابقة بين الصورتين، يتم التحقق من أن هذا الشخص هو «فلان». هنا يصبح نظام التعرف على الوجه قادرًا على تحديد هويتنا بشكل فريد؛ بناء على بيانات المستشعر لخطوط الوجه.
ولقد حققت نظم التعرف على الوجه تقدمًا كبيرًا في السنوات القليلة الماضية، بسبب اعتمادها على الشبكات العصبية العميقة. وبشكل أكثر تحديدًاانخفض معدل الخطأ في تحديد هوية الأفراد عبر الوجه بنحو «27 ضعفًا» منذ عام 2014م، وفي الوقت نفسه، ينمو العدد العالمي لكاميرات المراقبة بنحو «300 ألف كاميرا» يوميًا، ومن المتوقع أن يتجاوز المليار كاميرا خلال عام 2021م.
واستخدمت الحكومات في جميع أنحاء العالم أنظمة التعرف على الوجه في المطارات لمراقبة الأشخاص الذين يدخلون بلادهم، وتستخدم الكثير من المؤسسات والشركات نظام التعرف على الوجه لأغراض مختلفة.. وقد جعل جهاز «iPhone» التعرف على الوجه مصطلحًا متداولًا بشكل شعبي لأول مرة. وتأتي معظم الهواتف الذكية – حاليًا – مع ميزة إلغاء القفل باستخدام الوجه. وتعتبر خاصية إلغاء القفل شكلًا من أشكال التعرف على الوجه،وتزيد من مستوى الأمان. يمكن القول إن جهاز«Apple Face ID» هو أقواها مع وجود فرصة خطأ تقدر بواحد من مليون.
وتستخدم وسائل التواصل الاجتماعي – الأكثر شعبية هذه الأيام – شكلاً من أشكال التعرف على الوجه. حيث يستخدم Facebook خوارزمية تسمى«Deep Face» لاكتشاف الوجوه عند تحميل صورة على النظام الأساسي الخاص به؛ يسألك التطبيق ما إذا كنت تريد الإشارة للأشخاص في الصور التي تم تحميلها. ويكتشف التطبيق الوجوه تلقائيًا وينشئ رابطًا إلى ملفاتهم الشخصية إذا سمحت بذلك. يزعم الفيس بوك أن دقة نظام التعرف على الوجوه الخاص به تبلغ ٪98.
تطورات المراقبة: الدولة التي ترى قشرة دماغ المواطن
تمتلك الحكومات تاريخ طويل من المحاولات في اتجاه أن تجعل المواطنين تحت السيطرة، وأكثر قابلية للمراقبة، وقراءة ما يدور في عقولهم، وما يقومون به من أفعال. وحاولت معظم الحكومات، أن تجعل الشعب تحت بصرها، بداية من نظام «العسس»؛ الخاص بالحراسة الليلية، و«البصاصة»؛ التي هدفت إلى جمع المعلومات والأخبار المتداولة في الشوارع والطرقات وفي الجلسات العامة والخاصة، نهاية بتقنيات الذكاء الاصطناعي.
وتعتبر أنظمة التعرف على الوجه استمرارًا لاتجاه الدولة نحو مراقبة مواطنيها وضبط سلوكياتهم، ومعه تتحول الدولة إلى «اللفياثان»الضخم الذي تحدث عنه «هوبز» أو التنين العملاق ذو الأذرع والعيون التي لا حصر لهم…