تعجبت كثيرا من تلك الذاكرة المثقوبة التي أسقطت فيما يشبه المؤامرة شخصا بحجم عم علَّام صاحب محل تصليح الأحذية بحينا العتيق.. إن رجلا مثله لا بد أن يكون ماثلا بقوة في الأذهان طوال الوقت.. عَلَيَّ إذن أن أبحث في الأسباب التي أدت إلى هذا الخطأ الفادح الذي سيتم تداركه على الفور بإذن الله.. عم علَّام هو ذلك الشخص الذي جعل من مشوار إصلاح الحذاء أمرا يبعث على البهجة.. في المحل الضيق القريب من الجامع الأثري يجلس عم علَّام وخلفه جبل من المخلفات: علب فارغة، أحذية قديمة، قوالب خشبية من التي تستخدم في صناعة الأحذية، أكوام من الأربطة، حقائب سفر وأخرى مدرسية، قطع من الجلد تتمايز في الخامة واللون والحجم وعلب ورنيش ملأى وخاوية.. إن هذا الجبل يعد بمثابة ذخيرة الرجل التي يستعين بها في عمليات الإصلاح الدقيقة.. كان من اللافت أن الرجل لا يطيل البحث عن ما يريد وسط هذه الفوضى، فقط نظرة متفحصة تستغرق عدة ثوانٍ ثم يمد يده ليحصل على ما يريد.. كما أنه لا يصلح أي حذاء يُعرض عليه، هو متخصص في إصلاح الأحذية الجيدة الصنع ذات الخامة الممتازة والذوق الرفيع.. أما إذا كان حذاؤك خلوا من كل هذا فإنه يوجِّهك في أدب جمٍّ إلى المحل الكائن أمام مستشفى الحي، والذي يعالج تلك الأنواع بالماكينات لا يدويا.
فيما بقي من مساحة المحل وضع عم علَّام دكتين خشبيتين متهالكتين عن يمين وشمال.. من المفترض أنهما خُصِّصتا للزبائن.. لكن الحقيقة أنك نادرا ما ستجد فيهما مكانا خاليا إذا أنت ذهبت لإصلاح حذائك.. ستجد الدكتين مزدحمتين برجال في خريف العمر لهم أفواه تخلو تقريبا من الأسنان لكنهم لا يكفون عن الحديث والضحك.. يجلسون لساعات وينصرفون بشكل فجائي ليحل محلهم آخرون لهم نفس الأعمار وذات الأحاديث والضحكات وربما نفس الملامح والتجاعيد.. ليس بينهم ثقيل ظلٍّ واحد.. عينوهم راصدة يجيدون الوصف واستكناه الأشياء واستنباط الابتسامة من أشد المواقف حزنا.. إذا تكلم أحدهم صمت الجميع، فإذا انتهى كان لعم علَّام، دون سواه، حق التعليق الأول الذي دائما ما يأتي عميقا يفجِّر الضحكات.. هنا رأيت بعيني وسمعت بأذني كيف يكون “قصف الجبهة” بهدوء ودون أدنى انفعال.. كان ينتج عن ذلك –في الغالب- انسحاب تكتيكي للمتحدث، لكنه كان يعود في الصباح التالي وكأن شيئا لم يكن!
جلس أحدهم ذات صباح يحكي عن ارتباطه الشديد بجهاز الراديو الخاص به، وكيف أنه لا يحتمل فراقه، وهو منه بمثابة الابن البار، والصديق الحميم، والخل الأمين.. إنه يغدق عليه بصوت قارئه المفضل كل صباح، ويمتعه بالغناء العذب طوال النهار والليل.. كما ينبئه بأخبار البلاد والعباد وأحوال الخلق مما لا يستحب الجهل به.. ويسأله عم علَّام سؤالا وجوديا مباغتا: هل هذا الراديو يقول “وحوي يا وحوي”؟ ولمَّا كان الرجل قد اقتنى جهازه الحبيب بعد انصرام الشهر الكريم فلم يسمع منه هذه الجملة، ما جعله لا يستطيع النفي أو التأكيد، بل يقع في “حَيْصَ بَيْصَ” ولا يجد إلا أن يستأذن في الانصراف.
لم يضبط عم علَّام طوال فترة وجوده بالحي وهي الفترة التي امتدت لعقود- وهو يحكي حكاية أو يقص قصة.. مع أنه من المؤكد أن الرجل كان بحوزته مئات الحكايات التي تستحق أن تُروى.. لكنه التزم بدوره الذي ارتضاه لنفسه.. التعليق على الحكايات والقصص بتلك العبارات المراوغة التي تحمل بين طياتها الحكمة والسخرية والتشكك والتساؤل المشروع.. لكنه في أحيان كثيرة كان يعرض حذاءً على مجالسيه؛ ليتبينوا حجم الضرر الذي حاق به، وليقيِّموا بعد ذلك عملية الإصلاح التي سيقوم بها.. والحقيقة أن مهارته في إصلاح الأحذية لم تكن محل شك.. وبالرغم من علم أصحابه بذلك إلا أنهم كانوا كثيرا ما “يناكفونه” بأن إصلاح هذا الحذاء أو ذاك يصعب عليه.. وأنه مهما بلغ به الإتقان لن يستطيع أن يعيد إليه الحياة.. وكان هو يفهم ما يرمون إليه من استثارة روح التحدي لديه؛ ليبدع على نحو غير مسبوق في عملية الإصلاح التي ترتكز لديه على أمرين لا ثالث لهما: متانة الإصلاح التي تمنح الحذاء عمرا جديدا، وإخفاء العيوب وآثار الإصلاح تماما حتى لا يضر ذلك بجمال الحذاء.. وعندما سأله أحدهم ذات يوم بشكل مباغت: ما الذي استفاده من الانكباب على إصلاح أحذية الناس على مدى نصف قرن؟.. أجاب: لقد أغنتني هذه الحرفة عن العمل بالحلاقة مع الحصول على نفس النتيجة. فإذا بنفس الشخص يسأله: وماهي تلك النتيجة؟ فيجيب: أن كثيرا من الناس لا يخجلون من المشي حفاة الرؤوس!
لم يكن الأمر على أية حال يخلو من المشاغبات خصوصا عند ظهور العنصر النسائي على مسرح الأحداث.. فعندما دفعت إليه إحداهن بحذائها ذي الكعب العالي شاكية أنه لم يحتمل سوى “لبستين” بادرها برده المفحم: “بطل والله بطل”. فلقد كان حجم السيدة ووزنها مما لا يمكن غض الطرف عنه.. فإذا قال له زبون بعينه: هذا الحذاء يحتاج إلى إصلاح. كان يرد: في الحقيقة هو يحتاج إلى إصلاح وتهذيب.. في إشارة بليغة لأخلاق صاحبه.
وكان من أدب الرجل أنه لا يستخدم معرفته بدخائل حياة الناس في الرد عليهم.. كانت ردوده عامة لا تعريض فيها ولا تلميح بما يجرح جلساءه.. لم يخرج عن هذا النهج سوى مرة واحدة عندما أكثر أحدهم من الشكاية بحق ابن له لا يطيعه ولا يبرّه ولا يحرص على مراضاته مدعيا أنه أحسن تربيته متعجبا من سوء ما آلت إليه أحوال الولد.. أراد عم علَّام أن يُسكت الرجل الذي صار حديثه مكررا ومملا ولا ينطوي على جديد، فباغته بقوله: لكنك لم تدرك الصفعة بعد! فإذا بالرجل ينصرف إلى غير رجعة.. أما ما لم يحكه بطل قصتنا لرفاقه أن هذا الرجل قد بلغ به العقوق ذات يوم مبلغه لدرجة أنه صفع أباه على مرأى من الناس..
لم أشاهد عم علَّام إلا جالسا في ذات المقعد أمام صندوقه.. لم أشاهده واقفا ولا ماشيا.. لم أشاهده خارج محله قط.. كان من الصعب التنبؤ بأوقات حضوره أو انصرافه.. كانت لحظات الفتح والإغلاق خارج الزمن الذي يمكن رصده.. فإما أن ترى الباب مفتوحا وإما أن تراه مغلقا، أما لحظة التقاء المصراعين أو افتراقهما فهي لحظة، كما ذكرت، لم تُلمح.. لكن ما غلب على ظني أنه كان ينصرف قبل ذهاب آخر ضوء للنهار فلم يكن بالمحل مصباح كهربائي أو من أي نوع.. كان اعتماد الرجل على ضوء النهار القوي كحافظ لبصره فلم يرتد النظارات الطبية قطُّ.. وكان إذا اقترح عليه أحدهم عمل واحدة يرد: أخشى لو رأيتكم بشكل واضح أن أغتم لمرآكم فأطردكم جميعا وأبقى وحيدا وهذا مما يحزن بلا شك!
ثم كما جرت العادة وكما في كل القصص دون كبير اختلاف في التفاصيل؛ غاب الرجل لأيام وظل المحل مغلقا إلا أن ظهرت على بابه تلك الورقة التي تحمل نبأ النهاية المنتظر.. ليغيب عن عالمنا رجل كان آية في الظُّرف والوداعة.. وبالرغم من أن كاتب هذه السطور قد تردد كثيرا على محل عم علَّام إلا أنه لم يتبادل معه الحديث بالمرة.. فلقد كان الرجل ينصرف عن الحديث مع الصغار إلى الاستماع إلى حكايات الشيوخ، كما أن الكاتب حين شبَّ عن الطوق؛ فضَّل الذهاب إلى المحل الآخر ذي الماكينات توفيرا للوقت.. لكن الوقت تسرَّب رغما عنه محدثا ثقوبا هائلة في جوال الذاكرة.