أصبح تسليع المعرفة أحد مظاهر السلطوية الليبرالية التي يحركها السوق قبل كل شئ. وصل تأثير “السوق” إلى مستويات متعددة كان آخرها المجتمع الأكاديمي الغربي نفسه، حيث شهدت العقود الأخيرة تحول جزء وازن من البحوث والدراسات في مجالي العلوم الإنسانية والاجتماعية من رسالة سامية تحكمها المبادئ الفكرية والأمانة المنهجية إلى سلعة تجارية استهلاكية يتم إنتاجها حسب رغبة “العميل”، وتباع وتشترى في “سوق الأفكار” حسب قانون العرض والطلب.
في هذه الحالة، يصبح الهدف الأسمى لذلك النوع من البحث هو تحقيق الربح بكافة أشكاله المباشرة وغير المباشرة ( التربح المادي، الترقي، الحصول علي منح دراسية، المشاركة في مؤتمرات مدفوعة الأجر، الظهور في وسائل الإعلام… إلخ)، وليس فهم الظاهرة محل البحث و لا البحث عن حلول للمشاكل التي تنتج عنها ولا حتي المساهمة في تطور البحث العلمي.
في هذا السياق “الأكاديمي” – بين أقواس – والذي غلبت علي مستويات عديدة منه المعايير والاعتبارات والقيم الكمية والزبائنية، تم تسليع المعرفة الأكاديمية المتعاطفة مع الإسلاموية من قبل شركات لوبي ومعاهد دراسات تعمل لحساب جماعات الإسلام السياسي مباشرة أو لحساب دول أو منظمات.
قبل أيام قليلة وتحديداً في الرابع والعشرين من سبتمبر الماضي (٢٠٢٠ )، صدر في باريس كتاب مهم بعنوان ” ” حراس العقل: تحقيق في التضليل العلمي”، “Les gardiens de la raison Enquête sur la désinformation scientifique“
الكتاب ألفاه معا “سيلفان لورينز” “ستيفان فوكارت” و “ستيفان هوريل” . “سيلفان لورينز” هو أستاذ علم الاجتماع بالمدرسة العليا للدراسات الاجتماعية بباريس، أما “ستيفان فوكارت” و “ستيفان هوريل” فهما صحفيان يعملان في جريدة لوموند الفرنسية و كانا قد حصلا على الجائزة الأوروبية للصحافة الاستقصائية في عام 2018 عن سلسلتهما عن “أوراق مونسانتو” . الصحفي ستيفان فوكارت نشر عام 2013 كتاب “صناعة الأكاذيب La Fabrique du mensonge”. أما الصحفية “ستيفان هوريل” فهي متخصصة في تأثير جماعات الضغط وتضارب المصالح على القرارات السياسية. في عام 2017 ، حصلت على جائزة لويز فايس للصحافة الأوروبية. يتناول الكتاب بالتحليل كتابات نوع من الباحثين الذين نصبوا أنفسهم أوصياء علي العقل بإسم العلم، ويكشف عن استراتيجيات التلاعب التي يستخدمها هؤلاء، والذين أسماهم الكتاب ب “تجار الشك” للترويج لعلمهم علي أنه العلم “الصحيح الوحيد”. يؤكد الكتاب أن هؤلاء الباحثين يتم تمويلهم من كبار المصنعين الليبراليين في إطار مشروع سياسي ضخم، يهدف للسيطرة علي “سوق العلم”.
التزامن بين صدور هذا الكتاب وتلك السلسة من المقالات حول ظاهرة تسليع المعرفة المتعاطفة مع الإسلاموية في الغرب كشف لي أن تغلغل اللوبيات و المال السياسي في الأكاديميا الغربية بات ظاهرة تستحق بالفعل دراسات معمقة، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالظواهر المرتبطة بالعالم العربي.
المقاومة المعرفية
ويمكن وصف هذه السلسلة من المقالات بأنها نوع مما أسميه “المقاومة المعرفية”-أو الإبستمولوجية بالمصطلح الغربي – أو محاولة لإنتاج معرفة تعمل على تحرير ذلك الإنتاج الخاص بالإسلاموية والذي يتخذ مظهرا أكاديميا ممن يسلعها لصالح الإسلامويين ومؤيديهم على المستويين الإقليمي والدولي.
من أهمّ أركان هذه “المقاومة بالمعرفة” تفكيك و نقد الخطاب المتعاطف مع الإسلاموية، وذلك بأسلوب منهجي علمي يثبت عدم صحة المقولات التي يعتمد عليها هذا الفريق من الباحثين في الأكاديميا الغربية، ثم تبيان خطورة تلك الجماعات علي الأفراد والمجتمعات والدول الوطنية كما حاولت أن أفعل في سلسلة المقالات التي سبق أن نشرتها لي “أصوات أولاين” من قبل حول تفكيك ونقد الخطاب المتعاطف مع الإسلاموية في الأكاديميا الغربية.
أما هذه السلسلة الجديدة من المقالات فستحاول الإجابة على السؤال: كيف تم تسليع المعرفة المتعاطفة مع الإسلاموية في الأكاديميا الغربية؟ وهو السؤال الذي يمكن أن يساعد على الانتقال للخطوة الثانية في تلك المقاومة المعرفية وهي مرحلة إماطة اللثام عن دوائر اللوبي المسعر للمعرفة غير العلمية المتعاطفة مع الإسلاموبة وعن آلياته وطرقه في تشكيل رأي عام مؤيد للإسلاموية و خلق حلفاء لها في الأكاديميا الغربية و في مراكز البحوث التابعة للجامعات أو للأحزاب السياسية أو تلك التابعة لهيئات حكومية أو لمؤسسات خاصة كبري أو لمؤسسات أخري تتبع بعض الهيئات الدينية والإعلامية؛ الرسمية وغير الرسمية، وبعض الأقليات القومية والعرقية واللغوية.
بين شِقَّيّ الرَّحي : الإمبريالية “العلمية” و “النسبية المتطرّفة”
ويجب الإشارة هنا إلي أن مشكلتين رئيسيتين تواجهان الباحث المتخصص في الإسلاموية وتُفرضان عليه من قِبَل هذا اللوبي المروج للإسلامية في الأكاديميا الغربية. تتمثل المشكلة الأولى فيما يمكن أن أسميه “الإمبريالية العلمية”، بمعني فرض التفسير المتعاطف مع الإسلاموية علي أنه الحقيقة، ونفى التفاسير الأخري خصوصا الناقد منها للإسلاموية والمفكك للأفكار المتعاطفة معها)، أما المشكلة الثانية فهى “النسبية المتطرّفة” التي تفرض تقبل كل التفسيرات بغض النظر عن مدى علمية وجدية المنهج المستخدم، و ذلك للتشويش علي التفسيرات الجادة الناقدة والمفككة للإسلاموية.
“المقاومة المعرفية” هدفها إذاً ألا تترك الساحة الأكاديمية الغربية فارغة دون كشف و نقد للوبيات الأكاديميًة التي تسعي من خلال تسليعها للمعرفة لنشر حالة من الفوضى والهيمنة المعرفية في آن واحد، بهدف احتكار الفضاء الأكاديمي لفرض أبحاث تتتوافق فقط مع مصالح الجماعات الإسلامية وحلفائها الاستراتيجيين، أو للتشويش علي التفسيرات الجادة الناقدة والمفككة للإسلاموية.
وبالرغم من أنه لا يمكن إنكار حقيقه التأثير الذي تلعبه جماعات الضغط والمصالح في تسليع المعرفة الأكاديمية المتعاطفة مع الإسلاموية في الأكاديميا الغربية بشكل عام؛ فإن الدور والتأثير الذي يلعبه هذا اللوبي يختلف بالطبع من بلد غربي لآخر، وتبعا للظروف السياسية والثقافية والاجتماعية السائدة، وبحسب طبيعة تكوين المجتمع، فضلا عن العوامل الأساسية المتعلقة بالسلطة وطبيعة توزيع اختصاصاتها و بنظام الثنائية أو التعددية الحزبية السائد في الكثير من تلك الدول. لذا ستركز المقالات القادمة ضمن هذه السلسلة علي محاولة فهم كيفية تحول بعض الأكاديميين من إنتاج المعرفة العلمية المحايدة والمنصفة حول موضوع الإسلاموية إلى الإتجار به في بلدين فقط وهما الولايات المتحدة الأمريكية و فرنسا، لما لهما من أهمية ومكانة خاصة في مضمار الإنتاج المعرفي المتعلق بالإسلاموية في الغرب، وهو الإنتاج الذي يؤثر بقوة على فهم الظاهرة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية دون شك… وللحديث بقية في المقالات التالية من السلسلة.