في زيارته الأولى للقاهرة عام 1959، روى إرنستو تشي جيفارا الثائر الكوبي الماركسي الأرجنتيني النشأة ذو الأصول الإيرلندية للرئيس جمال عبد الناصر إن فيدل كاسترو قائد الثورة عندما كان يجابه المصاعب والنكسات وهو يقود حرب العصابات في قمم التلال الكوبية سنة 1956، كان يستمد كثيرا من الشجاعة من الطريقة التي صمدت بها مصر للعدوان الثلاثي، وأخبره أنه هو -عبد الناصر- كان مصدر قوة روحية وأدبية لرجاله.
لم يكن عبد الناصر متحمسا في بداية الأمر للثورة الكوبية، وكان متشككا في رجالها الذين امتشقوا بنادقهم وأحزمة رصاصهم، بسبب التأييد الأمريكي لهم في ذلك الحين، «كان شكه في تأييد أمريكا لحركة كاسترو، وارتيابه في نزعة كاسترو المسرحية- فضلا عن انهماكه في أحداث الشرق الأوسط- هو الذى دفعه إلى العزوف عن التورط مع كاسترو وأتباعه أصحاب الذقون الطويلة والأحذية الثقيلة»، يقول الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل في كتابه «عبد الناصر والعالم».
في يونيو 1959 زار جيفارا القاهرة لمدة خمسة عشر يوما لدراسة تجربة الإصلاح الزراعي في مصر، وكانت هذه هى أول مرة يلتقى فيها بعبد الناصر.
في اللقاء دار حوار عن قوانين الإصلاح الزراعي وطرق تطبيقه، سأل الثائر الكوبي الرئيس المصري عن «عدد اللاجئين المصريين الذين أُجبروا على مغادرة البلاد؟ »، وعندما رد عليه عبد الناصر بأن عددهم لم يكن كبيرا وأنهم كانوا في معظمهم من المصريين البيض أي من فئة أصحاب الجنسيات الأجنبية الذين تمصروا بحكم إقامتهم في مصر، لم يسعد الجواب جيفارا، فقال معلقا: «هذا يعنى أنه لم يحدث شيء كثير فى ثورتكم.. إنني أقيس عمق التحول الاجتماعي بعدد الأشخاص الذين يمسهم ويؤثر فيهم بحيث يبدأون في الإحساس بأنهم لم يعد لهم مكان في المجتمع الجديد».
شرح عبد الناصر لضيفه الموقف وأخبره أن ما يفعله هو «تصفية امتيازات طبقة معينة وليس تصفية أفراد تلك الطبقة». وأضاف أنه يريد أن يفتت سلطة الإقطاعيين لكنه لا يريد أن يحرم أفراد هذه الطبقة الإقطاعية من أن يصبحوا أعضاء نافعين في المجتمع الجديد إذا شاءوا .
ومع ذلك أصر جيفارا على وجهة نظره، ولم تتمخض زيارته للقاهرة عن شئ يذكر، فقد كان الرئيس عبد الناصر حتى ذلك الوقت لا يولي الكوبيين وسياساتهم الكثير من الاهتمام .
نصيحة ناصر لكاسترو في نيويورك
خلال اجتماعات دورة الأمم المتحدة عام 1960، التقى عبد الناصر بالزعيم الكوبي فيدل كاسترو للمرة الأولى في نيويورك، وفي ذلك اللقاء كرَّر فيدل ما قاله جيفارا عن الشجاعة التي استمدوها من الطريقة التي صمدت بها مصر في وجه العدوان الثلاثي في معركة السويس عام 1956، وطلب من عبد الناصر أن يلخِّص له التجربة المصرية.
أعطى عبد الناصر تأييده لكاسترو في نيويورك، بعدما شن الأمريكيون ضده حملة تستهدف إجباره على مغادرة الولايات المتحدة. وكان قد حجز لنفسه ولأعضاء وفده في فندق شلبورن حيث تعمدت إدارة الفندق إهانته؛ إذ طلبت من الكوبيين تقديم بعض الضمانات المالية، ثم امتلأت الصحف الأمريكية بالقصص الفاضحة التي تزعم أن غرف المندوبين الكوبيين امتلأت بريش الدواجن التي زعموا أن هؤلاء كانوا يذبحونها فى غرفهم ويلتهمونها!
انتقل كاسترو إلى الإقامة في «هارلم» -حي السود- وذهب عبد الناصر لزيارته في ذلك الحي المعزول لإبلاغه برغبته في أن يقترح نقل الأمم المتحدة إلى بلد آخر إذا رفض الأمريكيون مشاركة كاسترو في دورة الجمعية العمومية.
حثَّ الزعيم المصري نظيره الكوبي – في اجتماعاتهما في نيويورك- على أمرين:
أولهما: ألا يُعلِّق اهتماما أكبر مما يجب على القاعدة البحرية الأمريكية في جوانتانامو في كوبا، وألا يسمح لنفسه بأن يُساق إلى نزاع عسكرى بسبب تلك القاعدة.
وثانيهما: أهمية وجود قاعدة للثورة في أمريكا اللاتينية كالوحدة العربية التي أعطت النضال المصرى عمقا عظيما وأمدت الثورة بالعمق الاستراتيجى والأدبي والسياسي.
جيفار يعود إلى القاهرة
في فبراير من عام 1965 كانت الزيارة الثانية لجيفارا إلى القاهرة، وفي ذلك الحين كان عبد الناصر قد نبذ تماما شكوكه في الكوبيين، وأخذ يعجب بهم لاندفاعهم فى تأييد مصر وقت حرب السويس، وفى صراعهم من أجل الحفاظ على ثورتهم.
كان عبد الناصر يرى في كفاحهم ضد الولايات المتحدة في معركة خليج الخنازير وأزمة الصواريخ الروسية، «صراع سمك السردين مع الحوت، وكان إعجابه كله لسمك السردين»، بحسب وصف هيكل في كتابه.
استقبل عبد الناصر جيفارا في اليوم الثاني من زيارته، وسأله: كيف تسير الأحوال فى كوبا؟ هل كل شيء على ما يرام بينه وبين كاسترو؟، لم يرد جيفارا على سؤال عبد الناصر، وأخبره بأنه سيذهب إلى تنزانيا لزيارة لجنة مساعدة حركات التحرر الإفريقية في العاصمة دار السلام.
عاد جيفارا بعد 10 أيام قضى بعضها في الكونجو، ليقول لعبد الناصر إن ما شاهده هناك أحزنه وحز في قلبه، وذكر أنه زار كتيبتين من السود الكوبيين تم إرسالهما للقتال من أجل أنطوان جيزنجا الرجل الذى حاول أن يرث زعامة لومومبا، وأبلغ عبد الناصر أنه «يفكر في الانضمام إلى الكفاح وفي تولي قيادة الكتيبتين».
دهش عبد الناصر مما سمع؛ فأوضح جيفارا موقفه قائلا: «إننى أرى أنه يجب أن نفعل المزيد من أجل الثورة في العالم، وقد فكَّرت في أنه يتعيَّن عليَّ أن أتوجه إلى إفريقيا لأفعل شيئا ما.. إن لى خبرة وتجربة في النشاطات الثورية وفي التنظيم الثورى وأعتقد أن الأسباب مهيأة في إفريقيا.. وأعتقد أنني سأتوجه إلى الكونجو لأنها أكثر بقاع العالم تفجرا، وأخال أننا نستطيع- بمساعدة الإفريقيين عبر لجنة تنزانيا وبواسطة الكتيبتين الكوبيتين- أن نؤذي الاستعماريين في قلب مصالحهم في كاتانجا».
طرزان ورحلة البحث عن الموت
ورد عليه عبد الناصر قائلا: «إنك تدهشني ماذا حدث لكل ما كنت تفعله في كوبا؟ هل تخاصمت مع كاسترو؟ لا أريد أن أتدخل لكنك إذا كنت تريد أن تصبح طرزانا ثانيا، رجلا أبيض يقحم نفسه بين الزنوج ليقودهم ويحميهم، فإن ذلك لن يفلح».
ضحك جيفارا من فكرة تحوله إلى «طرزان»، وأخذ يشرح له أسباب الخلاف بينه وبين فيدل كاسترو ودور شقيقه راءول في تأزم العلاقة بينهما، بالرغم من أن فيدل منحه الجنسية الكوبية وعينه وزيرا للصناعة.
ومضى جيفارا في الحديث عن المصاعب التي واجهت الثوار الذين أمموا 98% من كل ما وجدوه أمامهم «حتى دكاكين الحلاقة وبعد ذلك وجدنا أنه كان علينا أن نترك بعض الناس خارج نطاق التأميم».
وبعد أن تكلم، بمرارة، عن صعوبة تحقيق معادلة الثورة والدولة والأفكار والمعتقدات الثورية وإدارة المؤسسات والمصانع، والخلاف بين الثوار والفنيين والبيروقراطيين، انتقل إلى مناقشة دور كوبا في أمريكا اللاتينية وقال إن «الحركة الوحيدة التي قامت قبل الثورة الكوبية وكانت تستحق الاهتمام هي حركة بيرون في الأرجنتين.. بيرون حقَّق بعض الأشياء المهمة في ميدان التصنيع لكنه أخفق كليا في فهم دور البروليتاريا وقد أخفقت حركته وفشلت بسبب افتقارها إلى عنصر النضال الشعبي» .
واستطرد يقول: «وقد أخفقت كذلك لأن بيرون كان جبانا فلم يستطع أن يستجمع ما يكفي من الشجاعة لمواجهة الموت وعندما حان وقت إظهار الشجاعة آثر الهرب».
وأنهى جيفارا حديثه قائلا: «إن نقطة التحول في حياة كل إنسان تحل في اللحظة التي يقرر فيها أن يواجه الموت، فإذا قرر أن يجابه الموت يكون بطلا سواء نجح أم أخفق، إن في وسع الإنسان أن يكون سياسيا صالحا أو رديئا ولكن إذا كان لا يستطيع أن يواجه الموت فإنه لن يكون أكئر من مجرد رجل سياسي».
طلب عبد الناصر من جيفارا أن ينسى فكرة الذهاب إلى الكونغو، «لن تنجح وسوف يُكتشف أمرك بسهولة لأنك رجل أبيض، وإذا رافقك آخرون من البيض فإنك ستعطى الاستعماريين فرصة أن يقولوا إنه ليس هناك فارق بينكم وبين الجنود المرتزقة» .
وأضاف عبد الناصر موجها حديثه إلى ضيفه الثائر الكوبي: «أعتقد بأن الثورة ظاهرة عالمية النطاق لا تفرق بين مختلف الألوان والأجناس ولكن هناك أشياء معينة يجب أن تدخل في الاعتبار، إن ما ينبغى علينا عمله هو أن نساعد الإفريقيين. ولنحاول في هذا أن نعطى كل شعب الحق في أن يفعل ما يعتبره صائبا».
في ذلك الحين كان عبد الناصر يخوض حملة لتجديد فترة رئاسته للجمهورية العربية المتحدة، فكان يجول في المدن والقرى ملقيا الخطب على مسامع الجماهير، وعرض ناصر على ضيفه أن يرافقه إلى افتتاح مصنع جديد بعيدا عن القاهرة حيث سيكون فى وسعهما أن يشاهدا بعض النتائج العملية للثورة المصرية، ورد جيفارا بالإيجاب وانطلقا معاً في صباح اليوم التالى.
لقى عبد الناصر استقبالا جماهيرا كبيرا، اندفعت قرى بأسرها لتحية موكبه، وحاول الناس إيقاف سيارته بإلقاء أنفسهم أمامها، وفى ذلك المصنع تجمعت الألوف المؤلفة تهتف للرئيس؛ فدبَّ الانفعال الشديد في جيفارا وقال: «هذا ما أريده.. هذا هو الغليان الثوري»، فرد عبد الناصر: «حسنا… لكنك لا تستطيع أن تحصل على هذا – وأشار إلى الجمهور- دون ذاك – ثم أشار إلى المصنع»، مضيفا: «أنك لن تستطيع إدراك النجاح ما لم تنشىء ذلك المصنع».
بعد تلك الواقعة أخبر جيفارا مضيفه أنه كان يود لو كان بإمكانه أن يصوت له في الاستفتاء الرئاسي.
وفي حوار آخر سأل عبد الناصر ضيفه: «ماذا يشغلك؟»؛ فهزَّ جيفارا رأسه وأجاب: «في الحقيقة أشعر بأننى لست أهلا للقيام بما أقوم به وأنا أبحث عن مكان آخر أذهب إليه، لقد فكَّرت في الذهاب إلى الكونجو لكنني بعد أن رأيت ما يجري هناك وجدتني أميل إلى التسليم بوجهة نظرك بأن ذهابي إلى الكونجو قد يكون ضارا.. لقد فكرت في الذهاب إلى فيتنام، فأنا أكثر إعجابا وتأثرا بما يجري هناك مني بما يجري في أي مكان آخر.. ذلك أنه إنجاز خارق أن يكون هؤلاء الناس قد استطاعوا أن يحاربوا اليابانيين والفرنسيين والأمريكيين بشكل متواصل.. إن ما فعلوه بالأمريكيين بسيط وخارق الذكاء.. فقد أجبروهم على القتال في أمكنة وظروف تخالف أسلوبهم فى الحياة».
وقال جيفارا إنه كان راغبا أشد الرغبة في الذهاب إلى فيتنام، لكنه لم يفعل لأن وجوده هناك قد يسبب لكوبا قدرا كبيرا من المصاعب.. واستدرك قائلا: «لكن ربما يكون في وسعنا أن نخلق فيتنام أخرى.. ما أشدَّ حاجتنا إلى عدد من تلك الفيتنامات!».
تحدي الموت
ويقول هيكل إن جيفارا ردَّد كثيرا قضية خلق فيتنامات أخريات في حوارته مع عبد الناصر؛ فالثائر الكوبي كان مؤمنا بالدفاع عن السلام بأي ثمن «أريد أن أفعل شيئا يهزُّ النظام العالمى لأنني لا أعتبر ما لدينا الآن سلاما.. إنه ليس بسلام وليس علينا أن ندافع عنه ونصونه.. إن ما لدينا هو سلام بأي ثمن.. سلام رتَّبته الحلول الوسط بين الدول الكبرى.. وإذا ما قبلنا بالسلام بأي ثمن فإننا نكون قد قبلنا في الحقيقة حربا مستمرة، حتى ولو كانت هذه الحرب خفية».
وبالرغم من الحورات التي استمرت لساعات لم يغير جيفارا من رأيه ومواقفه وقال في اجتماعه الأخير مع عبد الناصر إنه لن يبقى في كوبا، لكنه لم يحدِّد بعدُ إلى أين سيذهب، وأضاف: «سأقرر أين سأعثر على مكان أكافح فيه من أجل الثورة العالمية وأقبل تحدي الموت».
فرد عبد الناصر متعجبا: «لماذا تتحدث دائما عن الموت؟ إنك شاب.. إن علينا أن نموت من أجل الثورة إذا كان ذلك ضروريا، ولكن من الأفضل بكثير أن نعيش من أجلها»، لكن جيفارا كان أدرى بقدره، بحسب ما ذكر هيكل.
ذهب تشي جيفارا إلى الكونغو بالفعل، ومنها انتقل إلى بوليفيا، لكنه وجد هناك ما كان عبد الناصر قد حذَّره منه. «لم تكن هناك قاعدة ثورية.. لقد جاء بالشرارة ولكن البارود لم يكن جاهزا للتفجير بعدُ».
عندما كان يستعد للذهاب إلى بوليفيا كتب جيفارا رسالة إلى أطفاله الخمسة وطلب بأن تُقرأ بعد وفاته، أنهاها بوصية قال فيها: «فوق كل شيء كونوا قادرين دوماً على الإحساس بالظلم الذي يتعرض له أي إنسان، مهما كان حجم هذا الظلم، وأيا كان مكان هذا الإنسان، هذا هو أجمل ما يتصف به الثوري.. وداعاً إلى الأبد يا أطفالي، وإن كنت لا زلت آمل أن أراكم مرة أخرى لكم جميعا قبلة كبيرة كبيرة وحضن كبير كبير من بابا».
حُوصِر جيفارا ورجاله في أحراش بوليفيا بالمرض ونقص الإمدادت والسلاح والخيانات ممن كانوا يحسبون أنفسهم على الثورة وحركة التمرد هناك، وانتهى الأمر بإصابته في مواجهة غير متكافئة، وأُلقي القبض عليه وتم إعدامه رميا بالرصاص في 9 أكتوبر من عام 1967، ليتحول بعدها إلى أيقونة ثورية تنير سبيل الباحثين عن الحرية والعدل والمساواة والخلاص.
«أخفق جيفارا.. ثم تعرَّض للخيانة.. ثم التقى بالموت… وكان شجاعا في لقائه مع الموت.. ولم يهرب وإنما ذهب»، هكذا يقول هيكل في ختام الفصل الأخير من كتابه والذي اختار له عنوانا هو “عبد الناصر وجيفارا.. الحلم والثورة”.