من بين أعمال فنية عديدة تعرضت للمجتمع الصعيدي لا يمكننا التوقف إلا أمام عدد قليل جدا من هذه الأعمال نجح صُنَّاعها في الاقتراب من هذا المجتمع بكل ما يحمل من خصوصية فيما سيطرت «النمطية» علي أعمال أخرى وكان من نتاجها ترسيخ صورة غير واقعية عن هذا المجتمع، والذي للأسف قُدِّر له أن يعاني التجاهل و النسيان على مستويات عدة ليس آخرها التناول الدرامي.
فمن المسؤول عن صعيد الدراما وهذا «التنميط» المتوارث؟ .. رجل بجلباب تقليدي، اعوجاج الفم بلهجة مختلفة، غباء متأصل، ثأر وتجاره أثار وسلاح و..، بينما الواقع الحقيقي بعيد بشكل كبير عما رسمته الدراما سواء ما قُدِّم عبر الشاشة الفضية أو من خلال الدراما التلفزيونية.
https://www.youtube.com/watch?v=obLFN7b6M8E
هل فشل أبناء الصعيد من المبدعين في التعبير عن مجتمعهم أم أن شروط السوق هي التي فرضت التعامل مع هذا المجتمع بشكل «فانتازي» أي بوصفهم مخلوقات من كوكب آخر؟!
المؤكد أنه لا يوجد صعيد واحد يمكن اختزاله بجرة قلم، و لكنه مناطق متعددة لكل منها لهجتها، مشاكلها، تراثها من العادات والتقاليد، كما أن صعيد القري يختلف تماما عن المراكز ومدن المحافظات، وهناك بالقطع «مسكوت عنه» في السلوك و العادات لم تقترب منه الدراما، و«مسكوت عنه أخر» تلامست معه بعض الأعمال بجديه فيما أعمال أخري تناولته بشكل ساخر؛ فلماذا غابت «خصوصية الصعيد» عن الشاشات رغم كل هذا الكم من الأعمال؟!
اللعب على المضمون
من جانبها ترى الناقدة خيرية البشلاوي أن الدراما الصعيدية سواء التي قُدِّمت على الشاشة الفضية أو الصغيرة لم تقترب في معظمها من جوهر الشخصية الصعيدية بكل ما تحمله من مورثات وعادات وتقاليد شكلت وجدانها وساهمت في تكوينها، بل للأسف أخذت من كل هذه المواصفات الشكل فقط و ظلت تكرر استخدامها بصورة أقرب للتنميط .
حتي الموضوعات التي دارت حولها هذه الدراما لم تخرج في معظمها عن المتداول من قضايا الثأر أو تجارة الآثار والسلاح وغيرها من «الكليشيهات» التي باتت محفوظة ومكررة وهي أبعد ما تكون عن الواقع، صحيح موجودة و لكنها ليست الأساس الذي يتشكل منه المجتمع.
البشلاوي ترفض الربط بين الجوده الفنية للعمل، و أن يكون صُنَّاعه (تحديدا مؤلفه) من أبناء الصعيد، مشيرة إلى أن الإبداع لا علاقه له بمسقط رأس المبدع، ولكنه مرتبط أولا بالموهبة و ثانيا بالقدرة علي الفحص والبحث والتأمل ليكون لدينا في النهاية شخصيات من لحم ودم، سيناريو يترجم أحلامها وهمومها وإحباطاتها وأفراحها وأحزانها وكل ما يؤرِّقها، باختصار إبداع حقيقي ينقل لنا بصدق و شفافية خصوصية أي مجتمع، ولا يتعامل معه ظاهريا كنوع من الديكور وهذه المواصفات قطعا لا تخص الأعمال التي تتعلق بالمجتمع الصعيدي فقط ولكن بأية دراما بشكل عام مع إضافه خصوصية هذا المجتمع الذي لا زال هناك الكثير عنه مجهولا لا نعرفه.
نفس الكلام يؤكده الناقد الشاب أندرو محسن أحد أبناء هذا المجتمع المظلوم جدا فنيا على حد توصيفه، حيث معظم الأعمال التي قُدِّمت لم تتمرد على القضايا التي قُتِلَت بحثا مثل الثأر، تجارة الآثار، السلاح، الصراع حول الميراث وغيرها، صحيح هناك كم قليل من الأعمال نجحت في كسر هذا الحصار وحلقت بعيدا عن المعتاد ولكن في المجمل هناك استسهال في التناول، ومحاولة حصر و تنميط هذه الشخصيات، كذلك تهميش قضايا أخري مثل صعيد المحافظات والذي لا وجود له علي الشاشات بالرغم من أنه مجتمع مختلف تماما عن مجتمع صعيد القرى، باختصار لكل مكان مشاكله وعاداته التي تختلف بالطبع، لكن للأسف لم يهتم معظم صنَّاع الدراما بإبراز تلك الاختلافات، أو نقل صورة حقيقية عما طرأ على هذه المجتمعات من تغيرات سواء علي مستوي الشكل أو المضمون، ليبقي الصعيد مثلا هو بلد المخدرات كما أظهرها فيلم «الجزيرة» وغيرها من الأعمال التي شوَّهت المجتمع الصعيدي و قسمته فإما بدا ممتلئا بالجهلاء، والرعاع، والأغبياء والمتخلفين والمتسخين، وإما بتجار الآثار والمهربين، أو بإقطاعيين يتميزون بالقسوة والبطش الشديد.
المرأة الصعيدية هي الأخرى، وكما يرى أندرو، مظلومة فنيا أو بالأحرى «محاصرة» في قضايا معينة أو«شكل» محدَّد لم يتم التمرد عليه إلا في عدد محدود جدا من الأعمال لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة والتي يمكن تلمسها كما في عدد من أعمال الكاتب عبد الرحيم كمال مثلا والذي لم ينصف فيها المرأة الصعيدية فقط ولكنه أنصف المجتمع الصعيدي برمته مثل « الرحايا» أو« شيخ العرب همام» أو «الخواجه عبد القادر» .
وعليه فإن الفيصل في تقديم صورة حقيقية وواقعية لأي مجتمع يرجع دوما لقدرة الكاتب على طرح قضاياه بشكل مختلف، صحيح من المهم جذب المشاهد ولكن وهو الأهم التعامل بجدية ومصداقية مع أية قضية بشكل عام وليس فقط الدراما الصعيدية التي تلقي عادة قبولا جماهيريا بدليل هذا الكم من الأعمال المنتميه إليها، بل عاما بعد الآخر لا تخلو الدراما التلفزيونية من تناول للمجتمع الصعيدي.
تنمية
علي الجانب الآخر يرفض السيناريست الكبير بشير الديك فكرة «التعميم» مشيرا إلى أن هناك بالفعل أعمالا درامية، سواء سينمائية أو تلفزيونية، تناولت المجتمع الصعيدي بصدق وواقعية وحلقت بعيدا عن السائد والمتداول وعلي الجانب الآخر كانت هناك أعمال لم تخرج عن التنميط المعتاد وكلها ترجع لصنَّاعها واختياراتهم، مؤكدا أن جيل الثمانينيات المعروف بجبل الواقعية الجديدة نجحوا في كسر الكثير من القوالب الثابتة والكليشيهات المتداولة فنيا ولسنوات طويلة وقدموا سينما مهمومه بالوطن والمواطن بغض النظر عن البيئة التي يدور حولها العمل ضاربا المثل بفيلم «الهروب» رائعته بتوقيع المبدع الراحل عاطف الطيب والتي تعرضوا فيها لمجتمع الصعيد بعيدا عن التنميط المعتاد، ما يؤكد أن المسأله أولا وأخيرا مرتبطه بماهية الموضوع و الفكرة التي يهتم صنَّاع العمل (المؤلف والمخرج) بطرحها ومناقشتها.
مرة أخرى، تنمية الصعيد شعار ترفعه الدولة ولكنه فيما يبدو سيظل مجرد شعار لا يُترجَم فعليا على أرض الواقع، بدليل أن كثيرا من المشاكل التي يعاني منها المجتمع الصعيدي لا تجد من يتصدى لها، وهنا تكمن أهمية الفن في إلقاء الضوء على هذه المشاكل في محاولة لإيجاد حلول لها، أو على أقل تقدير في الإشارة لها، إلا أنه، وللأسف، معظم صناع الدراما لم يهتموا بالتطرق لهذه المشاكل (جهل و فقر وتطرف بالتبعية و ..و..) وفضَّلوا اللجوء للأسهل، ما أسهم في ترسيخ تلك الصور النمطية والتي لم تتغير إلا فيما ندر، رغم أنها كانت وستظل بعيدة تماما عن الواقع.