ثقافة

الكتب العشرة المؤسسة للعنف.. “إدارة التوحش”.. “منفستو” الدماء والفوضي (٩)

يُنسب كتاب ” إدارة التوحش.. أخطر مرحلة ستمر بها الأمة” إلي “أبي بكر ناجي” وهو اسم مستعار لمصري على الأرجح، حيث يلاحظ أنه يسوق إفادات تبين قربه من حالة الجماعة الإسلامية والجهاد في مصر في التسعينيات من القرن الماضي وقربه أيضا مما أطلق عليه  الفتنة التي حدثت بسبب مراجعات الجماعة الإسلامية. ويُرجَّح أن مؤلف الكتاب هو ” محمد خليل الحكايمة “، وهو من منتسبي الجماعة الإسلامية في مصر من محافظة أسوان، خرج من مصر إلي السعودية عام 1987 م ومنها إلي أفغانستان وتعاون مع قادة الجناح العسكري للجماعة الإسلامية بالخارج  قبل أن يغادر الجماعة تماما وينضم لتنظيم “قاعدة الجهاد” عام 2006 م.  سافر الحكايمة إلي لندن ويُرجَّح أنه التقي “أبا قتادة الفلسطيني” هناك وتأثر بما كتبه، هذا فضلا عن أن رمزية  “أبي قتادة” داخل تنظيم القاعدة واستخدامه لغة جديدة علي  الجهادية المعولمة تمزج بين الفكر والفقه والواقع حققت رواجا كبيرا لأفكاره والتأثر بها من قبل قطاعات واسعة من المنتسبين للتنظيمات الجهادية.

أبو قتادة الفلسطيني
أبو قتادة الفلسطيني

أصبح الكتاب بمثابة منفستو للتوحش والدم والعنف خارج نطاق التصور الإنساني والأحكام الدينية والقوانين المدنية وحتي الفطرة البشرية عام 2007م، قبل أن تقتله طائرة بدون طيار في نوفمبر عام 2008 م في شمال منطقة وزيرستان بباكستان.

اتخذ تنظيم القاعدة كتاب “إدارة التوحش” أساسا لعنفه وتوحشه، خاصة بعد سقوط بغداد عام 2003م ، ثم ورث الكتاب من بعده  تنظيم داعش الذي حوّل ما ذكره الكتاب نصوصاً مكتوبة إلى استراتيجية وسياسة للحكم علي أرض الواقع في المناطق التي قُدر للتنظيم أن يستولي عليها في مرحلة صعوده الكبري ما بين عامي 2013 وحتي عام 2016

جذور التوحش والفوضي في عقل المؤلف

1-  المؤلف لم يقرأ ابن خلدون الذي يُعتبر أشهر من استخدم مصطلح “التوحش” بالمعني الاجتماعي الذي يشير إلي حالة  البداوة التي تعني اتخاذ نمط من العيش يقوم علي خشونة الحياة، ورفض الخضوع لسلطة قاهرة؛ فالبدو أهل انتهاب وعبث وفوضى، ولم يستخدم فقيه أو محدث أو أصولي مصطلح “التوحش” كتعبيرعن حالة اجتماعية أو بشرية، نعم استخدموا مصطلحات  الجاهلية والكفر والفسق والردة والظلم والعصيان والخروج والصيال، فمن أين جاء المؤلف بهذا المصطلح الدخيل علي قاموس الحالة الإسلامية الحديثة والمعاصرة منذ نشأتها ووجودها ؟

ابن خلدون
ابن خلدون

2- ظهر مصطلح “التوحش” لأول مرة في سياق الجهاد الإسلامي المعاصر في كتابين لأبو قتادة الفلسطيني ، يتضمنان مقالات كان ينشرها في ” نشرة الأنصار التي تصدر من لندن حيث كان يقيم منذ العام 1993م ، أحدهما بعنوان ” بين منهجين ” والثاني بعنوان ” الجهاد والاجتهاد .. تأملات في المنهج ”  ، وفي هذه المقالات تظهر مصطلحات التوحش وشوكة النكاية والإنهاك … وهي التعبيرات نفسها التي استخدمها كتاب ” إدارة التوحش ” للحكايمة ، وهو ما يدفعنا إلي الجزم بأن الأفكار التي وردت في الكتاب في جوهرها أفكار أبو قتادة الفلسطيني ” مع بسط وشرح لها ، بل إن المؤلف نفسه قد نقل نصاً عن أبوقتادة في مواضع متعددة ، مستشهدا به واصفا إياه بالعلامة.

3- في مقالته الثامنة والأربعين يتحدث “أبو قتادة الفلسطيني ” عن سقوط الحضارة الغربية دون أن يكون هناك من يملأ الفراغ الذي تتركه، وهنا فإن البديل لملء ذلك الفراغ هو “التوحش” الذي يفرض بناء تنظيمات مسلحة قادرة علي الترقي من مرحلة “شوكة النكاية والإنهاك” (بمعنى استمرار تصاعد العمليات الجهادية تدريجيا ومن منطقة لأخرى بهدف إنهاك الحكومة المركزية استعدادا لإسقاطها)  حتى مرحلة “التمكين” ، وهذا يجعلها بحاجة إلي السلاح والقدرة علي إدارة التوحش أو بمعني آخر علي إدارة الفوضي.

من شأن هذه الفوضي أن تجزئ الدولة الواحدة إلي تجمعات صغيرة بعضها قبلي وبعضها فكري وبعضها مذهبي وبعضها طائفي كما سنري في لبنان وأفغانستان والصومال ، وكما سنراها لاحقا في كثير من البلاد إما بصورة جماعية أو بصورة تتابع في سقوط متتال .

4-  ساق المؤلف في كتابه مشاهد للقسوة والقتل والدماء والعنف في أفغانستان  مبيناً أن هذا هو النموذج الذي يجب أن يكون مثالا يُقتدى به، ومن ذلك قوله مثلا “قد تتسبب موجات قصف جيوش الردة والصليب لقتل الآلاف وملايين المهجرين ويجب أن نحضر أنفسنا لذلك، حتي أن أحد القادة الأفغان كان يجلس مع الشيخ عبد الله عزّام فأتته رسالة فيها قتل أكثر من عشرين فردا من عائلته في أثناء قصف إحدي القري والرجل يستمر في الحديث فيقول له الشيخ ما الخبر الذي جاءك؟ فيخبره، يقول الشيخ عبد الله ينقل لي خبر مقتل أقاربه ويكمل ما كانا يتحاوران فيه وكأن شيئا لم يحدث وهذه هي الحرب”، وهذا يعني أن الحالة الأفغانية عسكرت العقل الجهادي العربي ونقلته إلي عقل دموي لا يعبأ بالقتل ويعتبر أن مصائر ملايين المدنيين من المهجرين والقتلي والمصابين هو أمر لا يهم في سبيل إقامة الدولة الإسلامية عن طريق التوحش والقتال وأحداث النكاية والشوكة من أجل التمكين– كما يذهب المؤلف، وهذه الفسائل التي غُرست  في أفغانستان وجدت مجالا للنمو والتوسع من  بعد علي جبهات القتال في البوسنة والشيشان ثم من بعد في العراق وسوريا.

سياسات التوحش والفوضي والنكاية

1-  نحن أمام كتاب في الاستراتيجية وليس في العقيدة أو الفقه أو الدين.. هو كتاب يحول الأفكار العامة الغائمة التي كتبها مفكرون وقادة سابقون لتصبح خطة وسياسات عامة للتنفيذ في الواقع.. إننا بإزاء كتاب يشبه  كتاب “الأمير” لميكافيللي فهو يضع للجهادية المعولمة أساسا  لتثبيت وجودها في سياق عالمي يتسم بالاضطراب والتفكك والتشكل من جديد علي أساس التجزئة والانقسام والحروب الطائفية والمذهبية والعقائدية .

2-   لا تبدو محاولة اصطناع غطاء ديني للتوحش  مقنعة أبداً؛ حيث يؤكد مؤلف الكتاب أن قصد المجتمعات المسلمة بالتفكيك وضرب لحمتها الوطنية وإثارة الانقسامات المذهبية والطائفية بين مواطنيها هدفٌ في ذاته.. وأن الهدف لم يعد الحضارة الغربية ولا أمريكا ولا روسيا ولا الحكام أو الطوائف المساندة لها فقط، وإنما يذهب ليوجه بنادقه لقلب المجتمعات الإسلامية عبر تفكيك الروابط الاجتماعية بين سكانها.

 3-  كان عمل المسلمين طوال تاريخهم  هو الحفاظ علي اللحمة الاجتماعية للأوطان التي يفتحونها؛ فكان الناس يعيشون بسلام وأمان، أما مفهوم “إدارة التوحش” فإنه يؤسس لسياسة “الموت.. الموت، الهدم.. الهدم”، نحن أمام حالة عدمية أشبه بالدعاوى الفوضوية التي ترفض الدولة والسلطة والعصر والعالم وتدعو للتوحش والتفكيك والفوضي حتي لو كان مثيرو تلك الفوضي من العصابات، فهو يقول مثلا “إن التوحش وعدم الأمان بسبب بعض العصابات أفضل شرعاً وواقعاً من سيطرة السلطات علي الأوضاع”.

4-  يُعرِّف المؤلف “إدارة التوحش” بأنها إدارة الفوضى المتوحشة، حيث يرغب أهالي المناطق التي تتعرض للفوضي لأي إدارة تحكم  التوحش الذي يحكمه قانون الغاب بصورته البدائية، وهو يري أن الطريق لإقامة الدولة الإسلامية والوصول لمرحلة التمكين يبدأ بمرحلة شوكة النكاية والإنهاك ثم مرحلة إدارة التوحش ثم مرحلة شوكة التمكين ثم قيام الدولة، ويرشح دولا لإمكان تطبيق مفهومه لإدارة التوحش مثل بلاد الحرمين والأردن وبلاد المغرب ونيجيريا وباكستان واليمن، وهو يرشحها لضعف السلطة المركزية فيها من ناحية ولوجود أنماط بدائية من الاجتماع الإنساني كالقبائل ببداوتها وأعرافها وتقاليدها .

5-  تعمل المناطق المرشحة لإدارة التوحش بوجود ملاذ آمن يمكنه مساعدة ودعم المناطق التي لا تزال في طور شوكة النكاية والإنهاك عبر عمليات مسلحة لا تتوقف في مواجهة القوات الأمريكية والنظم السياسية المتحالفة معها، وهو ما سيقود أمريكا إلي دخولها الحرب بنفسها ضد العالم الإسلامي، ومن ثم تتهيئ الفرصة أمام التنظيمات الجهادية المعولمة لكشفها ونزع الغطاء عن حقيقة قوتها وتبرير العمليات ضدها وتقديم نفسها علي أنها منقذة الشعوب الإسلامية التي ستدخل مع هذه التنظيمات المعركة الكبري في مواجهة أمريكا ونظم الردة علي حد قول المؤلف: “فعلي فرض أننا نحتاج في معركتنا حتي تنتهي كما نريد نصف مليون مجاهد فإن إمكانية ضم هذا العدد من أمة المليار أسهل من ضمهم من شباب الحركة الإسلامية بشبهات مشايخ السوء”.

 6- وضع المؤلف مجموعة من القواعد العسكرية في التعامل مع عدوه، كما نبَّه لضرورة فهم الإدارة والسياسة ووضعهما في مقامهما اللائق. يقول: “إتقان علم السياسة كإتقان العلم العسكري سواء بسواء”، وهو ما يُعد جديدا علي لغة التنظيمات الإسلامية التي تفتقر لمثل هذا الاهتمام ويغلب عليها عادة عمل الوعاظ والدعاة، بيد أن القواعد التي وضعها المؤلف لا ترقى لمستوي ما يُعد له من معارك ومواجهة مع أقوي قوة في العالم بل ومع العالم كله بل وحتي من الشعوب الإسلامية ذاتها التي يبدو مؤلف الكتاب متناقضاً في تعامله معها، فهو تارة يتحدث عن أهميتها وتارة يتحدث عن ضرب نسيجها الاجتماعي بلا رحمة إذا كان ذلك يفتح له نافذة ليضع موطئ قدم لتنظيمه وجماعته .

 7- أعطي  المؤلف أهمية كبيرة للمعركة الإعلامية، سواء لتبرير العمليات “الجهادية” وجعلها مقبولة في أذهان الشباب والناس العاديين، وأيضا للرد علي التشويه الإعلامي المتوقع من قبل الإعلام المضاد خاصة لو استهدفت العمليات قطاعات يعمل بها عدد كبير من الناس مثل قطاعى السياحة والنفط على سبيل المثال. وفي هذا يقول “أحب أن أنبه بعض المشفقين علينا من التشويه الإعلامي والحملات الإعلامية الموجهة ضدنا، أقول لهؤلاء هوِّنوا علي أنفسكم واستعدوا لما هو أكبر من ذلك”، وهنا يدخل عنصر الإعلام في معارك تلك التنظيمات المعولمة وهو ما يمثل تحديا حقيقيا يجب مواجهته بإعلام قادر على النزال والمواجهة علي أسس علمية واحترافية.

الحركات الإرهابية
الحركات الإرهابية

ذلك سبيل لا تريده الشعوب

ما يقدمه المؤلف كسبيل يستلهمه من فترات تاريخية سابقة أيام الصليبيين والتتار وبعد سقوط الخلافة وبعد انهيار حكم طالبان في أفغانستان وسياق ما جري في الشيشان والداغستان وحتي بعض الحركات اليسارية كحركة جون جارانج في السودان وبعض التطبيقات اليسارية في أمريكا اللاتينية – هو سياق مخيف للشعوب وللأمم. فإذا كنتم يا أيها التنظيمات الجهادية المعولمة تحملون لنا عبر هذا السبيل المواجهة مع العالم كله وتهييج الاستقطاب وتمزيق الروابط الاجتماعية للأمة، فذلك سبيل لا نريده ولا نحب أن نسلكه، وقد تم تجريب ما بالكتاب في سوريا والعراق علي يد داعش وقدم نسخة مخيفة وبائسة وفاشلة لإدارة مناطق التوحش باسم الإسلام، والإسلام منها بريء.

نحن أمام كتاب للتوحش والدماء والخطف والاختراق والاستقطاب وتحقيق الشوكة والإنهاك وتمجيد حكم العصابات والميلشيات واحتقار السلطة والدولة والحضارة والعالم، وهو بالرغم من استخدامه لغة جديدة علي التنظيمات الإسلامية إلا أنها بقيت محصورة فيما كتبته تلك التنظيمات في مجال العسكرية والاستراتيجية ولم ينفتح علي أي مؤلفات أخري خارجها، كما أن إحالاته الرئيسية بقيت في سياق  قصص عبد الله عزام وكتابات سيد قطب ومحمد أمين المصري وسليمان بن سحمان (من أتباع الوهابية النجدية)، وتبقي تجربة أفغانستان والقتال الدموي فيها هي التجربة المهيمنة علي مسار المؤلف والكتاب، وذلك كله لا يفتح نافذة لمسار فكري سوي يأخذ العصر والعالم والإنسان في حسبانه، ويفتح بابا لإمكان ثقة الشعوب في خيارات التنظيمات المغلقة سواء في مسارها السياسي الداخلي أو مسارها القتالي الخارجي.

كمال حبيب

أكاديمي مصرى متخصص فى العلوم السياسية
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock