عرض وترجمة: أحمد بركات
في أبريل 2019، وفي خطاب بالغ الأهمية، سعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تهدئة التوترات المجتمعية التي كشفت عنها الاحتجاجات العنيفة لحركة السترات الصفراء. وبعد التحدث بإسهاب عن الأزمة الاقتصادية التي تضرب فرنسا، عطف ماكرون على قضية أخرى بالغة الخطورة على مستقبل الدولة الفرنسية، وهي “الجماعاتية” (أي تحول المجتمع إلى جماعات صغيرة مستقلة). في هذا السياق أكد الرئيس الفرنسي: “إننا نتحدث عن الجماعاتية التي رسخت لنفسها في بعض المناطق من جمهوريتنا. إننا نتحدث عن أفراد يسعون، باسم الدين، وراء مشروع سياسي.. مشروع إسلام سياسي يرى أن ينفصل عن جمهوريتنا. لقد طلبت من الحكومة التصدي لهذا المشروع بكل ما أوتيت من قوة”. وعزز الرئيس ماكرون هذه القضية في خطاب ثان بعد عام تقريبا من هذا الخطاب؛ حيث فصًل فيه مجموعة من المبادرات لمواجهة الجاذبية المحلية للإسلام السياسي في فرنسا: “لا يمكن بحال أن نقبل أن تكون قوانين الدين فوق قوانين الجمهورية”. وأضاف: “إن النزعة الانفصالية عند الإسلاميين لا تتوافق مع قيم الحرية والمساواة، ولا تتوافق مع وحدة الجمهورية وعدم قابليتها للتبعيض أو التجزئة”.
بالرغم من أن ماكرون يحمل خصومة لدودة للشعبوية، إلا أنه – في الوقت نفسه – قارئ جيد للتيارات الخفية التي تعمل في بلده. لذا، فإن اختياره لإبراز التأثير السلبي للإسلاموية على المجتمع الفرنسي لم يكن مفاجئا لكثير من المعنين بالشأن السياسي الأوروبي. لقد عبر الرئيس الفرنسي، في واقع الأمر، عن المخاوف التي يعبر عنها بصورة متزايدة التيار الغالب من صناع السياسات في بلاد عديدة في جميع أنحاء القارة البيضاء. وإذا كانت السلطات الأوروبية قد وجَّهت جُلَّ تركيزها في السنوات القليلة الماضية – على نحو مبرر ومفهوم تماما – صوب التيارات الجهادية، فقد امتدت المخاوف مؤخرا إلى المظاهر اللاعنفية للإسلاموية.
لقد بات تأثير الجماعات الإسلامية على المجتمعات الأوربية محل نقاش متزايد في مختلف الدوائر والأوساط الأوروبية. فبينما تعمل هذه الجماعات داخل إطار القانون، إلا أنها تنشر آراء وسلوكيات مثيرة للجدل بدرجة كبيرة وتتعارض على خط مستقيم مع القيم الغربية والمؤسسات الديمقراطية. هذه المخاوف ليست جديدة على الأوروبيين؛ لكن اللافت للنظر هو أن التعبير عنها لم يعد قاصرا على تيارات اليمين وحدها. فاليوم، وأكثر بكثير من أي وقت مضى، يعبر السياسيون والمحللون من جميع ألوان الطيف السياسي عن قلقهم من الإسلاميين اللاعنفيين.
هذه التخوفات، التي تتفاوت حدتها في جميع أنحاء أوروبا، تتناقض بشكل صارخ مع طبيعة المخاوف في الولايات المتحدة. فالنقاشات الأمريكية تبدي اهتماما كبيرا بتنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة والحركة الجهادية بوجه عام، لكنها قلما تلتفت إلى التجليات اللاعنفية للإسلاموية. وعندما تفعل ذلك، فإنها تنظر إلى الموضوع من منظور السياسة الخارجية، وتركز على كيفية التعامل مع حركات الإسلام السياسي في الدول ذات الأغلبية المسلمة، مثل جماعة الإخوان المسلمين في مصر. في الوقت نفسه، فإن الخطاب المحدود حول الإسلاموية المحلية في الداخل الأمريكي يحركه إلى حد كبيرمجموعة صغيرة من النشطاء الذين تميل جهودهم إلى المبالغة حد السذاجة، ومن ثم فهم دائما خارج نطاق التيار السياسي السائد. من هنا يمكن القول إن الولايات المتحدة لا تواجه تحديا سافرا من الإسلاموية الداخلية، أو “الجماعاتية” بنفس الدرجة التي تواجهها العديد من الدول الأوروبية. رغم ذلك، فإن الغياب شبه الكامل لصناع السياسة الأمريكيين تجاه قضية الإسلام السياسي بالغة التعقيد يكشف عن قصر نظر حاد في السياسة الأمريكية، وسيكون له عواقب وخيمة على الأمن والسياسة الأمريكية بوجه عام.
شهد الأوروبيون على مدى زمني طويل التأثير الواضح للإسلاموية السياسية على مجتمعاتهم. ففي عام 1988، أثارت تنظيمات إسلاموية متنوعة في بريطانيا العديد من المجتمعات المحلية المسلمة ضد كتاب Satanic Verses (آيات شيطانية) للكاتب الهندي الأصل، سلمان رشدي. أعقب ذلك عمليات تعبئة بلغت ذروتها بحرق علني لنسخ من الكتاب في مدينة برادفورد. ونتيجة لذلك، أدركت المنظمات التي نسقت عمليات التعبئة والمؤسسة البريطانية أن الإسلاموية صارت تمثل قوة داخل بريطانيا لا يجب الاستهانة بها وأنها ستبقى كذلك لعدة سنوات قادمة.
وعلى نحو مشابه، في نهاية ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي شهدت فرنسا تحريضا مشابها ضد مختلف أشكال حظر الحجاب في المدارس والأماكن العامة. ودفع هذا بالدولة والشعب الفرنسي – على السواء – إلى الاعتراف بأن الإسلام المشحون سياسيا كان نشطا في الجمهورية، وأنه – من ثم – يشكل تحديا لمعاييرها.
وبدءا من هذه الأحداث الساخنة، عكفت أغلب الدول الأوروبية على مناقشة كيفية التعامل مع الإسلاموية. لقد اتسمت الإسلاموية التي واجهها الأوروبيون بالتنوع والإرباك. وبدا أن هناك خلافا على أن الجهاديين – الذين يمثلون التجلي الأكثر عنفا للأيديولوجية الإسلاموية – يشكلون تهديدا للدولة وللمجتمع الأوربي، بالرغم من عدم وجود إجماع يُعوَّل عليه بشأن العوامل التي تدفع بالشباب المسلم الأوروبي للانضمام إلى صفوفهم. ويزداد تشخيص هذه الظاهرة تعقيدا عند التعامل مع الجماعات الإسلاموية التي لا تدعو إلى العنف.
تنشط تيارات متنوعة تنتمي إلى الحركة السلفية في جميع أنحاء القارة الأوروبية. ويمثل الفاصل بين بعض هذه الحركات والعنف خطّاً حديّاً رقيقا. لكن معظم هذه الحركات – في الوقت الذي تتمسك فيه بالسلمية – ترفض الديمقراطية وتتهم المجتمع الغربي بأنه مجتمع لا أخلاقي، وتدعو المؤمنين إلى عزل أنفسهم عنه. وبالمثل، تنتشر أيضا في جميع أنحاء أوروبا شبكات تربطها علاقات تنظيمية وأيديولوجية بجماعة الإخوان المسلمين. وعلى عكس السلفيين، تدعو هذه الجماعات علانية إلى الاندماج في المجتمع، وتسعى بدأب إلى المشاركة السياسية والمجتمعية. بالرغم من ذلك، فإن قبول هذه الشبكات للديمقراطية، بحسب بعض المحللينن، لا يربو إلى مستوى القبول الحقيقي، وإنما فقط من قبيل العمل التكتيكي الذي يهدف في نهاية المطاف إلى تحقيق مزيد من التأثير من أجل تعزيز أجندات خاصة. في الوقت نفسه، فإن كثيرا من المعتقدات التي تؤمن بها هذه الجماعات بشأن قضايا من قبيل الحرية الدينية وحقوق المرأة والمثلية الجنسية مقلقة وغير متوافقة مع المعايير الغربية.
كيف يمكن التعامل إذن مع هذه الجماعات؟ على المستوى الإحصائي، تشكل هذه الجماعات عددا قليلا نسبيا لكنها، في الوقت نفسه، شريحة عرضية ممثِّلة لأي مجتمع مسلم في أي دولة أوروبية. وبنسبة كبيرة، تقع أنشطة هذه الجماعات داخل الأطر القانونية المسموح بها؛ وفي المجتمعات الديمقراطية، فإن حق هذه الجماعات في مناصرة “القضايا الإسلامية”، أو حتى “نظام إسلامي” والعمل من أجله يُعَدُّ حقا دستوريا أصيلا. من ناحية أخرى، يشدِّد كثير من المحللين والمراقبين الأوروبيين منذ وقت طويل على أن التسامح مع نشر الآراء الإسلاموية في أوساط المسلمين الأوربيين – حتى لو لم يعبر أصحابها عن أنفسهم بطرق عنيفة – يمثل رؤية منهجية غير فاعلة.
لورينزو فيدينو– مدير “برنامج التطرف” في جامعة جورج واشنطن
* هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي وهوامش الدراسة باللغة الإنجليزية من هنا