رؤى

كعب بن الأشرف وحادث باريس الإرهابي: إشكالية حرية التعبير في الإسلام

السياق التاريخي للدليل والحادثة كلاهما مهملًا في قراءة وتبرير تيار الإسلام السياسي لكثير من مسائلنا المعاصرة.. فالروايات عالقة في الهواء تنزل في سياقات غير سياقاتها متى نريد وكيف نريد، وهكذا يطير ويتطير بأي نتفة لينفثوا غضبهم وينثروا دماء الأخرين دون وعي ضابط وحقيقي مسؤول بالمآل للواقع أو بالسياق للدليل.. على الرغم من وجود علم إٍسلامي عميق وراسخ اسمه أسباب النزول…

هكذا، كان اغتيال أو تصفية كعب بن الأشرف بأمر النبي محمد صلى الله عليه وسلم السند والدليل الأبرز لقتل من أساء للنبي الكريم- ص-، وهكذا حضرت قصته وسيرته وتم استدعاؤه للتبرير والدفاع عن الشاب الشيشاني (عبدالله أنزوروف- 18 عامًا) الذي ذبح مدرس التاريخ الفرنسي سامويل باتي (47 عاما)   بعد أن انتظر، حسب شرطة الإرهاب الفرنسي،  منفذ الهجوم وطلب من التلاميذ أمام باب المدرسة أن يدلوه على المعلم الذي عرض عليهم الصور المسيئة، قبل تنفيذ جريمته، فهو ليس من طلاب المدرسة ولكن حسب الداخلية الفرنسية كانت لديه فتوى بقتل من عرض الرسوم المسيئة للنبي الكريم.

لا شك أن ما استند إليه القاتل أنزروف 18 عاما والذي قتلته الشرطة الفرنسية مساء الجمعة الماضية، هي ذات الحجج التي يستند إليها من يبررون له، وهم بالتالي يبررون للحادث الأصل، الذي استهدف صحافيي شارلى إبدو ورساميها عند اقتحام ملثمين اثنين مقر الصحيفة الساخرة في باريس صباح 7 يناير 2015 بتوقيت وسط أوروبا. وقد أدى هذا الهجوم إلى مقتل 12 شخصاً وإصابة 11 آخرين، رجح ساعتها انتماؤهم للقاعدة التي أعلنت التبني للعملية الإرهابية.

لعل الدليل الأبرز في تبرير قتل المسئ للنبي هو قصة كعب بن الأشرف وجارية ابن خطل اللتين كانتا ضمن التسعة الذين أحل النبي دمهم في فتح مكة، وعفا عن أكثرهم واستؤمن لإحدى الجاريتين وقتلت الأخرى..وسنناقش صحة الاستدلال بذلك وفقدان سياقه في سياق مفقود أيضا عند المستدلين والفاعلين فيه المبررين له.

تصفية كعب بن الأشرف..سياق حرب وليس سياق إساءة

كعب بن الأشرف تنسبه كتب الأنساب والتاريخ ل قبيلة طيئ- أصل شمر الحالية- وقيل أمه من بني النضير اليهود اللاويين، الذين أرادوا قتل النبي -ص – وقيل تزوج منهم بنت سيدهم ابن أبي الحقيق، وكانت له مكانة وسط العرب وكانت له- كما يروي البلازدري- فخامة وضخامة في الحضور والجسد والعقل كما كان شعره ساخر لكن لم يثبت منه الكثير..

ولعل ارتباطه ببني النضير الذين أكدت المصادر محاولتهم قتل النبي بعد أحد، عبر إلقاء أحدهم الرحى فوق رأسه، وأجبرهم النبي الكريم على الجلاء عن المدينة فيما بعد، لا يمكن تجاهله في تفسير علاقة المسلمين بزعمائهم أمثال كعب بن الأشرف أو حيي بن أخطب..

يبدو أن كعب بن الأشرف كان أكثر وضوحا وجسارة في إعلان العداء للإسلام والمسلمين في المدينة، فهو لم يزجره أو يخيفه انتصار المسلمين في بدر، بل نكث بعهده وغادر المدينة إلى مكة ونزل عند بعض أصدقائه هناك، وأخذ يرثي قتلى قريش، وينتقد المسلمين ويؤلب عليهم ويدعو لغزوهم ويعد كفار قريش بأنه سيكون معهم في أخذهم ثأرهم، وكتب الشعر في ذلك..

جاء في البخاري أن الرسول اجتمع يوماً ما مع مجموعةٍ من أصحابه، فذكر لهم خبر كعب وما كان منه من هجومه على الإسلام، فعرض محمد بن مسلمة، وكان صديقاً قديماً لكعب في الجاهليّة، أن يقوم بقتله، مع مجموعةٍ من قبيلة الأوس، فوافق الرسول على ذلك، ورخّص له في أن يبدي امتعاضه من الإسلام أمام كعب لطمأنته وتهدئته، وكيلا نطيل نجح ابن مسلمة ومن معه- قيل ثلاثة وقيل خمسة- في قتل الرجل الجسيم الوسيم الكاره، الذي تذكر الرواية حوارا بينه وبين زوجته لا نعلم من أين أتى به الراوي في هذه الحال..ولكن هذا ليس موضوعنا، ولكنه يكشف عن ضبابية القصة والتفاصيل رغم ثبوت تصفية الرجل وقتله، قيل على يد ثلاثة من الرجال وقيل خمسة حسب صاحب فتح الباري.

ابن تيمية ..وفهم حادثة ابن الأشرف

كان ابن تيمية- رحمه الله- أكثر ذكاء ودقة في فهم القصة فهو يقول في الصارم المسلول أن كعب بن الأشرف غدر بعهده مع النبي بعد بدر، وترك المدينة وذهب لمشركي مكة، ثم عاد للمدينة، يعلن المعاداة الصريحة للمسلمين، وكان يؤلب على المسلمين ويحفز الكفار والمشركين وقبائل العرب على قتالهم، وكونه كتابيا كان حديثه عن فساد دين المسلمين وأن دين الكفار خير منهم لا شك حرب معنوية ودعائية أخطر، فالسياق سياق حرب وتحريض على قتل المسلمين وخيانة وغدر بالعهود وليس فقط إساءة للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم.

يقول ابن تيمية: “إن كعب بن الأشرف لم يكتف بإظهار لوعته وحزنه على قتلى المشركين ببدر، بل إنه “استجاشهم على النبي وأمرهم أن يغزوه وقال لهم أنا معكم فقالوا إنكم أهل كتاب وهو صاحب كتاب ولا نأمن أن يكون مكراً منكم فان أردت ان نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما ففعل”، كما انتقد الدين الإسلامي، فلما سأله بعض المشركين هل دين المكيين أفضل أم دين المسلمين، رد عليه كعب قائلاً “دينكم خير وأقدم، دين محمد حديث”..هكذا كانت حربه الدعائية أيضا…

وبعد عودته للمدينة نزل فيه قرآن يعيب عليه تفضيله دين الكفار على الإسلام، ويبدو أن الغضب والحنق ملك الرجل وكان يجن به، فأخذ يسئ للمسلمين ونسائهم ويشبب بهن، كما يذكر ابن تيمية وغيره، مما أغضب النبي الكريم، الذي كان في أوج وقلق انتصاره الأول في بدر، ويعي خطورة الوضع وانتقال المركزية الروحية من يهود المدينة إليه، وكذلك سيادة العرب من قريش إلى أتباعه، وتأثيره النفسي عليهما بعد هذه الحرب.

من هنا نرى أن مقتل ابن الأشرف كان سياق الحرب والغدر ودعاية الحرب كما كان الحال مع عدد من زعماء اليهود الآخرين، كـ حيي بن أخطب الذي قتل في خيبر..

الصارم المسلول ابن تيمية
الصارم المسلول ابن تيمية

رد القصيدة بالقصيدة والهجاء بالهجاء

دأبت قريش وشعراؤها على هجاء النبي وصحبه، ومنهم ابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعمرو بن العاص وضرار بن الخطاب وعبد الله بن الزبعري، وهند بن عتبة كانت تستأجر عليه وتنشر الكلام فيه، فكانت الحاجة للرد على القصائد بالقصائد، الرد بالسلاح نفسه، وقد ورد في صحيح مسلم: “اهجوا قريشاً فإنه أشد عليها من رشق النبل”، وبرز من شعراء المسلمين كعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت، ويشير مسلم إلى أن النبي أرسل إلى كعب وإلى ابن رواحة ولكن هجاءهم لم يرضِه حتى جاءه حسّان الذي أخرج لسانه من فمه وحركه، ثم قال: “والذي بعثك بالحق لأفرينهم بلساني فري الأديم”، فرد النبي: “لا تعجل فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها وإن لي فيهم نسباً حتى يخلص لك نسبي”، أي حتى لا يصيب هجاء حسّان لقريش نسب الرسول. فذهب حسان إلى أبي بكر وتعلم أنساب قريش وعاد فقال: “يا رسول الله، قد لخص لي نسبك، والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين”، وحين خشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يسئ حسان في هجائه لابن عم النبي ابو سفيان بن الحارث رد حسان على النبي مطمئنا..” “والذي أكرمك لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من الخمير” “

https://www.youtube.com/watch?v=bp5Y5DyGl6A

العفو العام..ورد الإساءة بالإساءة

في مكة كان العفو العام هو القانون الذي اتسع للجميع، وكان كذلك العفو عن بعض المخصوصين الذين كانوا أكثر عداء وإساءة وتعديا على النبي وآله، فممن أحل النبي صلى الله عليه وسلم دمه ابن خطل وجاريتيه اللتين كانت تغنيان في سب النبي وآل بيته، ولكنه صلى الله عليه وسلم عفا عن إحداهما حين استؤمنت، كما عفا عن هبار بن الأسود الذي كان قد عرض لزينب بنت الرسول محمد حين هاجرت، فنخس بها حتى كما استؤمن لسارة الجارية التي تسلمت رسالة حاطب بن بلتعة، وهي مولاة لبني عبد المطلب.

في ظل حرب الدعاية والسخرية المتبادلة بين النبي الكريم-ص- والمسلمين من جهة والكفار والخصوم من جهة أخرى كان الساخرون كثرا وكانت الحرب مفتوحة بالسلاح نفسه، ولكن سياق الحرب كان فاصلا كما هو في الشرعة المعاصرة التي تضع تحفظات على حرية النشر والتعبير اثناء الحروب، ولكن لكثرة المسيئين لم تكن الحرب بالسيف على الكلمة ولكن الكلمة على الكلمة والفعل على الفعل والقتل على القتل والدعوة للقتل.. وهكذا لا يصح استناد المبررين والداعين لقتل من يسئ للإسلام، كما في قصة إرهابي باريس في قتل مدرس التاريخ أو قاتلي الرسامين في شارلي ابدو، على قصة كعب بن الأشرف أو غيره، وكان الأصوب شرعا وعقلا الرد على الإساءة بالإساءة أو الترفع والتجاهل ..ولكن هكذا تهمل السياقات في السند والحادثة على السواء.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock