في أيام سيطرة تنظيم “الجماعة الإسلامية” نسبيا على المجتمع في صعيد مصر قام أفراد تابعون له بقطع يديَ ورجليَّ رجل ربطوه من خلاف في سارية وسط إحدي الأسواق، ولم تمض سوى أيام قلائل حتى جلدوا رجلا اتهموه بالزنا على مرأى ومسمع من العابرين، وبتروا يد رجل آخر اتهموه بالسرقة.
هكذا تعتقد الجماعات والتنظيمات السياسية المسنودة إلى الإسلام أن من واجبها أن تقوم مقام الحاكم في تنفيذ الحدود، رافضة التعزير، أو انتظار قرارات المحاكم الرسمية. وتؤمن جماعة الإخوان أيضا في قرارة نفسها بهذه المسألة، وإن كانت لا تجاهر بموقفها هذا حتى لا تصطدم بالسلطة والمجتمع. لكن ما إن وصل الإخوان إلى الحكم في مصر حتى سمحوا لهذه الجماعات بأن تسعى من تلقاء نفسها في تنفيذ الحسبة، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فحوصرت محاكم، وطورد إعلاميون، واستبيحت أعراض الرافضين لحكم الجماعة.
وفي تاريخ “جماعة الإخوان المسلمين”، فكرا وممارسة، هناك دوما حظ وافر للتحايل، الذي تركز بالأساس حول ثلاث مسائل مترابطة، أو ينفتح بعضها على بعض ويكمله، وهي: السلطة والحسبة والعنف. ففي الأولى رفعوا تمويها شعار “لسنا طلاب سلطة”، وفي الثانية نفوا تبنيها وتركوها لـ “أهل الحكم”، أما الثالثة فتنصلوا منها، وأنكروا دون انقطاع كل ما نسب إليهم من أحداث اغتيالات وتخريب وإرهاب ومهاجمة دور سينما وملاهي وحانات قبل ثورة 1952، والذي قاد إلى حريق القاهرة.
والارتباط بين هذه المسائل واضح عيانا بيانا، إذ إن الحسبة بمعنى “تغيير المنكر” يحتاج تطبيقها إلى أشكال متدرجة من العنف الرمزي واللفظي والمادي، لاسيما عند جماعة لا تتصرف كناصح أمين أو بشير وداعية، إنما من منطلق أن ما هي عليه وما تقوله وما تفعله هو الدين، وهو الحق، وهو الطريق المستقيم.
وفي مسعى تحايلي تجنبت جماعة الإخوان ذكر الحسبة صراحة حتى لا تصطدم بالسلطة والمجتمع، ودارت حولها، لكن هذه القضية لا تبدو ملغاة في فكر الإخوان، وليس بوسعهم أن يقروا بإلغائها أو يظهروا إرجاءها ويقولون هذا بصيغة صريحة.
وإلى جانب التحايل هناك أمر آخر يؤثر على إظهار حقيقة فكر وموقف الإخوان من مسألة الحسبة، يتعلق بتوزيع الأدوار داخل الجماعة، لاسيما في وقت كانت فيه الساحة السياسية مؤهلة لخطاب مختلف للإخوان يواكب الحديث المفرط عن التغيير، الأمر الذي عزز من الحاجة إلى أفراد أو تيار ضيق كان يتفاعل بإيجابية نسبية مع التصورات السياسية والفكرية المدنية في مصر، وزادت هذه الحاجة مع ارتفاع الطلب العالمي على مثل هذا الخطاب، ولذا حرصت الجماعة أكثر على إخفاء حقيقة أفكارها، وتركت فرصة لأفراد منها يقومون بحملات علاقات عامة، حتى تقبلها القوى الاجتماعية والسياسية المحلية والدولية.
وعقب الإطاحة بحسني مبارك سارعت بعض الجماعات الدينية المسيسة، المتحالفة مع جماعة الإخوان، إلى المطالبة بتطبيق الحسبة، إذ طالب الدكتور عصام دربالة، عضو مجلس شورى الجماعة الإسلامية، بإنشاء “شرطة حسبة” تكون مهمتها تغيير المنكر والأمر بالمعروف، ومنع الاعتداء والبلطجة وارتكاب الفواحش، على أن تكون جزءا من جهاز الشرطة العام.
وما إن أعلن عن فوز محمد مرسي برئاسة مصر، وقبل أن يضع قدميه في قصر الاتحادية، حتى ظهرت جماعة أعلنت أنها ستقوم بتطبيق “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” وطالبت الرجال بإعفاء اللحى والنساء بارتداء النقاب.
ولا يعني تبرؤ الإخوان من هذه الأفعال، أبدا أن الحسبة كانت غائبة عن إدارة الصراع السياسي بينهم وبين ومنافسيهم وخصومهم بل والأغلبية الكاسحة من المجتمع المصري بعد وصول الجماعة إلى الحكم. فقد تم استدعاؤها، دون إعلان ذلك صراحة، في دفع بعض شباب التنظيم الخاص للجماعة ومجموعات من السلفية الجهادية المتحالفة معها وعلى رأسها “حازمون” لممارسة العنف، الرمزي واللفظي والمادي، لردع خصوم حكم الإخوان، وإحكام القبضة على مؤسسات الدولة.
ويبنما كانت هذه المجموعات تتحرك في الشارع كان الإعلام التابع للإخوان وآلة الفتوى الموالية لهم تضع هذه التحركات في سياق “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بغية إقناع أكبر عدد من شباب السلفيين بالإنضمام إليها، ونزع أي شرعية أخلاقية ودينية عن القوى المناهضة لحكم الجماعة، والتي صوروها وقتئذ بأنها مجموعات علمانية كارهة للإسلام، لا تريد أن تصدع لـ “الحق” وترضى بـ “حكم الشريعة”.
وبهذه الذريعة حاصر مئات من شباب الإخوان وبعض أتباع التيار السلفي مقر المحكمة الدستورية العليا في القاهرة، وحاصروا مدينة الإنتاج الإعلامي، وطاردوا إعلاميين وسياسيين وخبراء أمام أسوارها.
لم يكن بالطبع من المتوقع أن يتبني الإخوان قضية الحسبة بصيغتها المتواجدة في القاموس الوسيط، إن تمكنوا تماما من الأمر، بل ربما يطلقوها مبثوثة في قوانين ولوائح ضبط، تنساب تدريجيا في أوصال العملية التشريعية التي تنتجها مؤسسات الدولة المعنية بصناعة التشريع في البرلمان ومجلس الدولة ووزارة العدل إلى جانب ما لرئيس الجمهورية من حق في إصدار القوانين.
ففور حصولهم على الأغلبية في مجلس الشعب عقب ثورة يناير المصرية سارعوا إلى تكوين نظام تقاضي موازي للنظام الموجود، باسم “المحاكم الشرعية” وذلك بتدريب كوادر إخوانية على الحكم بين الناس بالاستناد إلى “الأحكام الشرعية” والآراء الفقهية، وليست القوانين المطبقة في البلاد.