كثيراً ما نتحدث عن تجديد الخطاب الديني، سواء كان الحديث خارج من المؤسسة الدينية الرسمية أو من غيرها، حتى أن بعض الفصائل السلفية تبنت موضوع تجديد الخطاب الديني، وهي بعيدة كل البعد عن مفهوم التجديد والخطاب معاً، ولأننا نحاول جاهدين إيجاد نقطة البقاء بين هذه الفرق والجماعات والمؤسسات الدينية التي تنادي بالتجديد نطرح أمامهم هذه القراءة لعلها تكون بداية الالتقاط إلى الأصل في الإسلام، والذي لا يختلف عليه أحد، إلا من التأويل وتحميل الخطاب القرآني ما ليس منه طبقاً للمرويات التي يستندون إليها.
فقط نحاول في هذه الورقة الاقتراب من الهم العام، ومن المطلب الرئيسي لمعظم الثورات التي قامت على وجه الأرض “العدل الاجتماعي”، وكيف عالجها القرآن الكريم، لنقول لهؤلاء المتشدقين بالإسلام والذين ينصبون أنفسهم حماة الدين، أن لديكم كنوزا لم تكتشفوها بعد وإنكم بعيدون عن القرآن بالقدر الذي تدعون فيه أنكم قريبون منه.
فالقرآن الكريم قد عالج قضية العدل الاقتصادي الاجتماعي علاجاً يتلاءم مع الطبيعة البشرية ويستمد مقوماته من الأسس النفسية للعلاقات الانسانية الفردية منها والجماعية، وهناك ثلاثة مصادر تثبت هذه الحقيقة هي:
1- أن الآيات القرآنية التي تناولت مسائل الأموال قدوتنا ولها من حيث طرق الكسب وأوجه الانفاق، وأحاطت هذه الطرق بالمبادئ الدينية والقيم والأخلاق، وهذا ما نجده منتشراً في العديد من الآيات المكية والمدنية.
2- أن تلك المبادئ الواردة في القرآن تجعل من المصلحة العامة أساساً للتشريع.
ولقد حدد الأقدمون العلاقة بين الخطاب القرآني والمصلحة العامة، خاصة حين تتغير المصلحة بتغير الزمان، وحين يقتضي هذا التغير تقييد النص أو خلافه، أو يقتضي تفسير النص تفسيراً جديداً، أو يقتضي تعطيل النص تعطيلاً مؤقتاً يوقف به عند تلاوته والتعبد به.
وقد ضرب لنا عمر بن الخطاب مثلا لهذا في حد السرقة والمؤلفة قلوبهم.
3- أن الآيات القرآنية الواردة في هذا المجال إنما تدعو الناس إلى ممارسة الحياة اليومية على أساس من القيم الأخلاقية: “الحق، العدل، الخير، الجمال”
وكذلك تحذر من ممارسة الحياة على أساس: “الظلم والطغيان، والبغي والعدوان، والاستغلال، والغش، والخداع” وما شابه ذلك.
https://www.youtube.com/watch?v=PeJUdqNGmlY
كذلك هناك حقائق لا بد من تبيانها لتوضح لنا الطريق ونكشف عن تلك المبادئ الكامنة في الآيات القرآنية.
أولها: أن القرآن الكريم حين عالج قضايا المال قد راعى ظروف العصر الذي نزل فيه لا من حيث المبادئ وإنما من حيث التطبيقات، حيث تضمنت الآيات القرآنية مجموعة من القيم والمبادئ وكذلك دعت في الوقت نفسه إلى ألوان من التطبيقات المختلفة، وأن تلك المبادئ العامة لا يُختلف عليها، من حيث دعوتها للفضيلة بينما تطبيقات هذه المبادئ تختلف وتتغير باختلاف الناس وتغير المجتمعات.
وما يجب علينا فعله اليوم هو استخلاص تلك المبادئ والدعوة الى التعبير عنها بأسلوب جديد وإيجاد آليات لتطبيقها تتناسب مع العصر الذي نعيش فيه، فهذا هو الذي يجدد الدين والخطاب الديني ويربط بين المجتمع والدين من جديد.
وثاني هذه الحقائق أن القرآن الكريم إنما يؤكد دوما أن للأموال وظائف اجتماعية يجب أن تؤديها وإلا اختلت الحياة، وقد حرص القرآن الكريم على تأدية الأموال لوظيفتها الاجتماعية، هذا الحرص الذي دفع به إلى تهديد الذين يقضون في وجه تأدية الأموال لوظيفتها الاجتماعية أو الذين يتحرفون بالأموال عن طريق تحقيقها لهذه الوظائف فهددهم بالخزي في الدنيا وبالعذاب في الآخرة.
وثالث هذه الحقائق: أن القرآن الكريم حين عالج قضية العدل الاجتماعي حرص كل الحرص على إحداث توازن عادل ودقيق بين حرية الفرد من جانب وسلطة الجماعة ممثلة في الدولة من جانب آخر.
فللفرد حقٌّ في التصرف في أمواله، ولكنْ عليه في نفس الوقت واجبٌ يؤديه، هذا الواجب هو الذي يحد من حريته المطلقة في التصرف في أمواله.
هذه الحالة ما بين الحق والواجب هي التي تحدث التوازن العادل والدقيق بين حرية الفرد من جانب وسلطة الجماعة ممثلة في الدولة من جانب آخر.
وسوف نناقش الآيات القرآنية التي يدور موضوعها حول مسألة الأموال وهي عديدة ومتنوعة وما يعنينا من مضامينها من هذا المقال أمرين.
أولهما: ذلك الذي يتعلق بكسب المال وتحصيله.
أما الأمر الثاني: فهو الذي يتعلق بإنفاق الفائض من المال.
أما بخصوص الأمر الأول “كسب المال وتحصيله” فمن المعروف أن كسب المال غاية يستهدفها الناس جميعاً وللناس سبل شتى في كسب المال، وأن النظم الحضارية جميعها تؤكد على أن وسائل كسب المال يجب أن تكون مشروعة، وإلا كان الكسب غير مشروع، على أن الناس قد يختلفون في مشروعية الكسب، ولكن اتفق الجميع على أن للكسب طريقاً واحداً ليس غير وهو العمل.
ومن هنا جعلت النظم الحضارية جميعها العمل حقا وواجبا وشرفا، حتى أن بعض الفلاسفة أكدوا على أن ما يميز الإنسان عن الحيوان إنما هو العمل حيث أن الأنسان هو الكائن الوحيد الذي ينتج أدوات إنتاجه، وإنما الاختلاف بين هذه النظم من ملكية وسائل الإنتاج حيث الإطار المنظم لهذه الملكية.
ويذهب القرآن الكريم إلى أن أشرف الطرق في كسب المال هي العمل، وحتى اذا كان تحصيل المال عن طريق ميراث أو وهبة أو هدية، لا تؤتي ثمارها الحقة إلا عن طريق العمل.
ويقول الله تعالى في كسب المال وتحصيله:
“وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ ۚ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا”(سورة النساء).
وفي تفسير المنار “ص 60” وما بعدها من الجزء الخامس يقول الإمام محمد عبده معلقاً على هذه الآية:
“وهم الرجال لا يقف أمامهم شئ _ ولكن أكثر الناس غافلون عن استعدادهم أن يتكلموا على اجتناء ثمرة غيرهم. ولذلك نبهنا الفاطر جل صنعه _ بعد النهي عن التمني والتلهي بالباطل _ إلى الكسب والعمل الذي يُنال به كل أمل، فقال: “لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ” فشرع الكسب للنساء كالرجال.
وهذا ما يناهض تماماً فكرة هؤلاء المتنطعين من الشيوخ الجدد الذين يطالبون المرأة بالعودة إلى المنزل والتوقف عن العمل بادعاء إعطاء مساحة للرجل للكسب بحجة أنه قيّم عليها، وكأنهم يقفون في وجه شرع الله بينما يريدون تطبيقه من وجهة نظرهم بعد ما يلبسوه عباءة البداوة والتخلف.
ولا يعلمون أنهم بهذه الدعوة يعطلون نصف طاقة المجتمع ويهددون قواه؛ فتصبح المجتمعات الاسلامية أضعف وأوهن ولا تساير ركب الحضارة والتقدم.
ويقول الله تعالى:
“وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ” (سورة البقرة).
وهنا يقول رشيد رضا في الجزء الثاني “ص196” من تفسير المنار.
“يقول الاستاذ الإمام: إن روح الشريعة تعلمنا بمثل هذه الآية أنه يطلب من الإنسان أن يكتسب المال من الطرق الصحيحة المشروعة التي لا تضر أحدا. وإنما أوجز القرآن في الحديث عن الباطل لأنه من الأمور المعروفة للناس بوجوهه الكثيرة. وحسب المسلم أن يكف عن كل ما يعتقد أنه باطل.
ويدخل في باب الباطل التعدي على الناس بغصب المنفعة، بأن يسخِّر بعضهم بعضا في عمل ولا يعطيه أجره أو ينقصه أجره ونكتشف عيوب المجتمع كقصة سيدنا شعيب حيث نذكر أن يكون الهدف من العمل والانتاج هو الربح وزيادة الكسب بغض النظر عن الوسائل التي تؤدي إلى هذا الكسب.
فكانوا يبخسون الناس أشياءهم من كل أنواعها ويطففون الكيل والميزان وكان سيدنا شعيب ينهاهم عن ذلك وكانت حجتهم أن حرية الكسب مقرونة بحرية الاعتقاد وكما أوضح ذلك القرآن الكريم حيث قالوا:
” قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ..” (سورة هود)
وجاءت الآيات لتبين في الرد عليهم وكأنها تقول لهم: إنا لا نأمركم بإضاعة المال وإهماله، ولا بترك استثماره واستغلاله، وإنما نأمركم: أن تكسبوه من الطرق الحلال وتنفقوا منه في طرق الخير والبر، ويؤيد هذا قوله تعالى في سورة النساء:
” وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا..” (سورة النساء(
ومن هنا كانت الغاية في كسب المال وتحصيله في عرف القرآن الكريم ليست كنزه وادخاره، ولا تكون أبدا إنفاقه فيما يعود على المجتمع بالأضرار. وإنما هي في أبسط صورها إنفاقه في سبيل الله، وسبيل الله فيما يذهب المفسرون، هي سبيل الصالح العام بالنسبة للفرد والمجتمع، وبالنسبة للدين والدولة.
ولأن الغاية من كسب المال هي إنفاقه في سبيل الله؛ حارب القرآن الكريم كل أولئك الذيم يحولون بين الأموال وبين تأدية هذه الوظيفة، فحارب الذين يجعلون من كسب المال غاية.
وهم الذين يجمعون المال ويدخرونه، لأنهم يعطلون الأموال عن أن تؤدي وظيفتها الاجتماعية، فيقول:
” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۗ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35) ” (سورة التوبة(.
ويقول الله تعالى أيضاً:
” هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ۖ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ۚ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ ۚ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم (38)” (سورة محمد).
ويقول أيضاً:
” وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُم ۖ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ ۖ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ..” (سورة آل عمران).
وقد وقف القرآن الكريم موقفاً عدائياً آخر من الذين ينحرفون بالأموال عن وظائفها الاجتماعية إلى وظائف أخرى استغلالية تعود عليهم وحدهم بالنفع، وتعود على غيرهم من المواطنين بالضرر؛ فقد أنكر القرآن الكريم أن يصبح المال وسيلة مباشرة إلى كسب المزيد من المال. من غير أن يكون إلى جانبه عمل يعمل أو جهد يبذل.
فقد أنكر أن يستغل أصحاب رؤوس الأموال احتياجات الناس الضرورية، ويحاولون تلبيتها على أساس إقراضهم الأموال بربا فاحش، وفوائد باهظة وأنكر القرآن استغلال الإنسان حاجة أخيه الإنسان فعاداه وأعلن عليه حربا قاسية، وحرب القرآن مع هؤلاء كانت أكثر عنفا من حربه مع الأولين، ذلك أن الأولين قد وقفوا عند حدود منع الأموال تأدية وظيفتها الاجتماعية بسبب كنزها أو ادخارها، أما هؤلاء فقد أضافوت إلى منع الأموال من تأدية وظيفتها الاجتماعية؛ جعلها أداة لاستغلال الآخرين، أي جعلوها قوة في أيديهم يسيطرون بها على الحياة والأحياء ويخضعون بها رقاب الناس ويسخرونهم في قضاء حوائجهم وشهواتهم.