رؤى

شارلي إبدو والإرهاب الصاعد.. رد الفعل الإسلامي ما بين الغضب والاعتدال

نؤكد دائما على أن صعود الإسلاموفوبيا ومعها النزعات الشعبوية واليمينية المتطرف الراهن يتناسب طرديا مع عمليات الإرهاب وتصاعد ظاهرته، ولكن لا شك أن تفهم توظيفها ومخاطرها ضروري ليس فقط في إدارة العلاقة مع الغرب ولكن في مراعاة مصالح الجاليات المسلمة فيه وصورة الإسلام عموما في العالم.

لا شك أن ما فعلته الصحيفة مجددا أو تصريحات الرئيس الفرنسي الشاب ماكرون مثيرة للجماهير المسلمة، ويمكن توظيفها من قبل أطراف مختلفة، ولكن ترشيدا للغضب لا بد من فهم انفعالات الآخر وسياقات الغضب المضاد، حتى يمكن الوصول لكلمة سواء وخط الاعتدال الفاصل بين التقديس والتدنيس وبين الإساءة والإساءة المضادة أو القتل، وتوظيف هذا الغضب في مسالك بعيدة عن موضوعه كما يحاول الرئيس التركي رجب طيب اردوغان وخطابه الإعلامي.

https://www.youtube.com/watch?v=Qi4ctK1nJTY

التحول من الخاص إلى العام والحضاري:

لا شك أن اختبارا بسيطا لها فيما يتعلق بالجدل الثائر الآن، حول القرار المتعجل لصحيفة شارلي إبدو الفرنسية بإعادة نشر الرسوم المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، تزامنا مع محاكمة بعض المتورطين في عملية اقتحامها وقتل اثنى عشر صحافيا من صحافييها في حادث إرهابي مروع في يناير سنة 2015، وكما ذكر بيانها أنها كانت تتحين الفرص لإعادة النشر حتى جاءت فرصة هذه المحاكمة، وهو ما سبقه بأسبوع فقط في نفس الاتجاه مقتل مدرس التاريخ الذي عرض هذه الرسوم على طلبته في المدرسة ليتطوع شاب شيشاني- من خارج المدرسة- لذبحه ثم مقتل الأخير على يد رجال الشرطة!! ولكن بيان شارلي إبدو، الصحيفة الأسبوعية الساخرة، الذي نشرته وكالات الأنباء لم يربط بين إعادة نشر الرسوم وبين الحادث القريب! مكتفيا بالتركيز على إصرارها على رسالتها الساخرة وتخليد ذكرى قتلاها الإثني عشر على صورة غلافها في بداية محاكمة بعض قاتليهم.

تحول الجدل والتنافر من الخاص إلى العام في إطار حضاري بين فرنسا بعد أن تحدث الرئيس ماكرون على إصرار على علمانيتها الشاملة وعدم خوفه من نشر الرسوم وإعادة النشر، وعلى حديثه السابق أن الإسلام في أزمة، وبين المسلمين وبعض حكوماتهم من جهة أخرى…كما تحول إلى جدل فكري حول مسألتي حدود حرية التعبير ومسألة ازدراء الأديان والإساءة للمقدسات وما شابه من قضايا، تتنازعها الحداثة والعصر الحديث منذ بدايته في القرن السابع عشر حتى الآن.

وكجزء من ردود الفعل الإسلامي نشط المسلمون على المواقع التواصلية في الدفاع عن نبيهم وإعلان تبجيلهم له، كما نشط بعضهم الآخر في الهجوم على فرنسا ورئيسها ودعا الرئيس التركي وجماعاته إلى حملة لمقاطعة المنتجات الفرنسية، كجزء من أدوات الضغط والشجب الممكنة عمليا، ولكن ظهر في الواقع العربي أيضا من يرفض ذلك..

لا شك أن الدفاع عن النبي الكريم محمد – ص- أمر إيجابي ولكن وضعه في دائرة الغضب والانتصار للقاتل الشيشاني الذي قتل نفسه وآثار الكثير من المشاكل على ملايين المسلمين في فرنسا والغرب، وعدم إدارة الرد الفعل بحكمة أكبر تحرج الخصم وتخفف وطأة الخوف من الإسلام الذي سرقه الإرهابيون، وتجيد عرض المسافة الموضوعية بين الإرهاب المتهم والمجرم من جهة وبين الإسلام المساء إليه والبرئ من جهة أخرى، ورفع سوء الفهم الذي أنتج الإساءات التي عرضتها الصحيفة المذكورة أو الدنماركية سابقتها.

ما تجاهله الطرف الإسلامي:

الغريب في المسألة- بل موضع الغرابة المدهش- أن كلا الطرفين يتجاهل سياقات الإحداث، وطييعة مصدر الحدث، ف شارلي إبدو الساخرة غير الملتزمة وغير الوقورة، والتي كان ظهورها الأول بين عامي 1961 و1981 ثم توقفت وأعيدت مرة أخرى سنة 1992، وغطت أزمة الرسوم الكاريكاتورية سنة 2011 مما عرضها لهجوم، لم تترك مقدسا ولا مبجلا في الحاضر أو الماضي إلا وتناولته بسخرية.

ينبغي أن ننتبه إلى أن نشر الأسبوعية الشهيرة السخرة للرسوم الدنماركية قبل العملية الإرهابية ب ثلاث سنوات، عام 2012، والذي جاء في إطار ردود الفعل على الهجمة على السفارة الأمريكية في بنغازي وسحل السفير هناك، مما اضطر الحكومة الفرنسية حينها لغلق سفاراتها في 20 دولة مسلمة حينها، ثم تعرضت الصحيفة التي تسخر من كل المقدسات، دينية وتاريخية ويمينية معاصرة، إلى الهجوم الإرهابي الذي قاده الشقيقان المنتميان للقاعدة شريف كواشي وسعيد كواشي، وكان من بين القتلى المصحح اللغوي المسلم مصطفى أوراد والحارس أحمد المرابط، مع 8 من كبار صحافيي ورسامي الجريدة ومحرريها وآخرين.

ولا شك أنه قد ارتفعت هذه الأسبوعية الساخرة” شارلي إبدو” مع استهدافها واستمرار استهدافها رغم أنها أعادت فقط نشر رسوم الصحيفة الدنماركية سنة 2006، ولم يمكن تجاهلها كما كان على مدى ثلاث سنوات، حتى أرد الشقيقان كواشي توظيفه لصالح القاعدة، ثم زاد مع ذبح إرهابي لمدرس التاريخ.

احتجاجات ضد ماكرون وصحيفة شارلي إبدو
احتجاجات ضد ماكرون وصحيفة شارلي إبدو

أزمة رد الفعل وغياب استراتيجيات الاعتدال والحوار:

تجاهل الكثيرون من المسلمين الغاضبين من إعادة نشر الرسوم المسيئة التفرقة بين صحيفة ساخرة وحكومة ودولة ك ” فرنسا” ذات هوية علمانية واضحة وصريحة منذ الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر، كما تتميز بصعود كبير للنزعات الشعبوية والتيارات اليمينية، التي تتزعمها ماري لوبين ابنة جاك لوبين، والتي اتضح حضورها في الانتخابات التي أتت بالرئيس ماكرون وكان فوزه فيها مفاجئا بشكل كبير لتنافس اليمين واليسار ويسار الوسط العنيف حينها.

ينبغي أن نستحضر الربط بين الشعبوية وبين صعود الإرهاب في فرنسا وأوربا، ف فرنسا التي هاجر منها ما لا يقل عن 2400 عنصر لداعش، شهدت عام 2015  وبعد يوم واحد من حادث شارلي إبدو عملية إرهابية قام بها كاميدي كاليبالي والذي قتل عددا من الأشخاص في جنوب باريس، بينهم شرطية، وفي سياق عالمي كان الإرهاب وعملياته قد بلغت أوجها عام 2014 حيث ” العام 2014- حيث ارتفع عدد قتلى الإرهاب فيها إلى 32.685 قتيلا بعد أن كان 18.111 فقط العام الأسبق( 2013) في زيادة تقارب التسعة أضعاف عن أعداد ضحاياه عام 2000 التي بلغت 3.329 قتيلا فقط.

وقد خلف حادث اقتحام الصحيفة واليومان التاليان 20 قتيلا في باريس وضواحيها، وذلك في عدة هجمات مختلفة، بينهم مرتكبي الهجمات الثلاث، سعيد كواشي وشريف كواشي وأميدي كوليبالي. 12 في هجوم شارلي إبدو، 4 في احتجاز رهائن بورت دو فإنسان، و1 في حادثة اطلاق النار في مونروج. هي أكبر حصيلة قتلى تتلقاها فرنسا منذ عقود، ولكن كان أوج الإرهاب في باريس هو أحداث ستاد باريس في نوفمبر سنة 2015، وقد شهدت أوروبا وحدها بين يناير 2015 وأغسطس 2016 أربعة عشر عملية إرهابية، منها هجوم عنصرين إرهابيين على كنيسة شمال غربي فرنسا يوم 26 يوليو 2016 وهجوما شنه عنصران مسلحان عنصران من الشرطة النسائية في بلجيكا بآلة حادة يوم 5 أغسطس الجاري سنة 2016. ومنذ أحداث يناير(جريمة شارلي إبدو الفرنسية) و13 نوفمبر الماضي ( تفجيرات باريس) سنة 2015، وتسعة عشر بلدا أخرى خلال نفس العام، بلغ عدد ضحايا الإرهاب في أوروبا أكثر من 1100 قتيل، وأكثر من 1700 جريح فقط خلال نفس العام 2015، في هذا السياق ينبغي أن يقرأ موقف الصحيفة الإسلاموفوبي في المرآة الإرهابية.

وهكذا يمكننا أن نفهم الأحداث السائرة في سياق سياسات الهوية الصارخة والصاعدة، و الواضح تأثره بالإرهاب الصاعد، وكذلك فيها بما كتبه جاك كيبل في كتابه “إسلام الضواحي” في سياق الخوف الأصولي وسؤال الهوية الصاعد في فرنسا وغيرها من الدول الغربية، والذي ينبغي التعاطي معه بحكمة استراتيجية تدرك ردود الفعل وتحرص على صورة الإسلام نفسه وعلى سلامة المسلمين في فرنسا وسائر المجتمعات الغربية، أكثر مما تنفعل غضبا غير مضبوط له، ولن يكون ذلك بالغضب فقط فالغضب ليس فعلا يستدعي سواه، ولكن بالبراءة الصريحة من الإرهاب وعملياته، وكذلك بنشاط مكثف وتشبيك مع المؤسسات الثقافية لفك الارتباط بين الإسلام ونبيه وبين الإرهاب وممثليه.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock