في كل يوم أسمع فلان عذبوه/ أسرح في بغداد والجزاير واتوه/ ما اعجبش م اللي يطيق بجسمه العذاب/ واعجب من اللي يطيق يعذب اخوه” تلك الكلمات الخالدة البليغة للشاعر الراحل صلاح جاهين تسحبنا إلى بحار الدهشة من أولئك الذين ينغمسون في التعذيب، يتعلمونه، ويمارسونه، ويتفنون فيه، لتبقى أسماؤهم في كتب التاريخ العربي ملوثة بالدم إلى الأبد.
تتنوع الأسماء على الخريطة العربية وتتعدد الحكايات بين المصري حمزة البسيوني، والسوري عبد الحميد السراج، والعراقي علي حسن المجيد، وغيرهم المنشورة سيرهم وتاريخهم فيما وصلنا من شهادات.
لكن يبقى الجنرال المغربي محمد أوفقير نموذجا نادرا لفنان تعذيب رائد، كان محل حكايات لا تنتهي عن رومانسيته الغالبة وقصة غرامه الكبرى التي عاشت بعد رحيله منتحرا، أو منحورا برصاصات قاتلة في 16 أغسطس سنة 1972.
إن روايات عديدة صدرت في المغرب تقدم جوانب من سيرة الجلاد العاشق، ربما أشهرها تلك التي كتبتها أرملته فاطمة في روايتها “حدائق الملك”، أو ما قدمته من قبل ابنته مليكة أوفقير في رواية “السجينة”.
لقد كان اسم الرجل مفزعا طوال سنوات الستينيات، تلك الفترة الأكثر دموية فى تاريخ العالم العربى. كانت بدايات العالم العربى شاقة مريرة مؤلمة تنذر بكثير من الأخطار،خاصة أن الدول العربية كانت حديثة عهد بالاستقلال، وكان التخوف قائما من تيارات متنوعة تسعى الى السلطة، وتقتل في سبيل ذلك، ففى الجزائر مثلا لم يلبث وزير الدفاع هوارى بومدين أن أقال أحمد بن بله رئيس الجمهورية وسجنه ليقتنص الحكم، وفى سوريا تعددت وتكررت الانقلابات العسكرية حتى أن المقولة التى شاعت وقتها أن من يستيقظ أولا من الضباط يصبح الرئيس.
فى مثل هذه الظروف لمع الجنرال محمد أوفقير الضابط الشجاع الذى صار رمزا من رموز القهر والقمع فيما بعد فى ظل مملكة مستقلة حديثا تواجه اضطرابات لا حصر لها ومدا اشتراكيا جارفا ودعوات متكررة للتحول الى جمهورية.
البدايات
تقول الأوراق الرسمية للجنرال محمد أوفقير أنَّه من مواليد 29 سبتمبر عام 1920 فى ناحية عين الشعير بمنطقة بوذنيب، وهى مدينة شرق المغرب ينتمي معظم سكانها ألى الأمازيغ. وقد نقل البعض أن والد أوفقير كان باشا بوذنيب، الا أنَّ ذلك القول غير مدون فى البيانات الرسمية للرجل فى سجلات وزراء المغرب.
وذكرت مليكة أوفقير أن عائلة “أوفقير” قدمت من سيدى بلعباس بالجزائر، وعرفت العائلة بحسن ضيافة الغرباء واستقبالهم ومساعدة المحتاج، حتى أنَّ لقب “أوفقير” يرجع الى كلمة المفتقر التى تعني مساعد الفقراء. ولاشك أنَّ طموح الفتى اليافع دفع والده إلى إلحاقه بالمدرسة العسكرية فى دار البيدا بمكناس.وتخرج ملازما بالجيش الفرنسى عام 1941 وهو العام الذى بدأ فيه الفرنسيون حرب تحرير فرنسا من المانيا النازية وكان هتلر قد غزا فرنسا وانتصر عليها عام 1940 وسقطت باريس فى أيدى الألمان فى منتصف ذلك العام. فيما بعد تمرد الجنرال شارل ديجول على حكومة “فيشي” التابعة لهتلر ودخل فى معارك متعددة ضد المحتلين .
فى ذلك الوقت، وطبقا لما نشرته عائلة “أوفقير”عنه أنه شارك وهو ضابط مغامر وصغير شجاع فى حروب فرنسا وتحت علمها. ومن المعروف أنَّ فيالق مغربية شاركت تحت لواء فرنسا فى الحرب العالمية الثانية، كما شاركت فيالق من مختلف الدول التى كانت تعتبرها فرنسا ضمن نفوذها. وحصل وقتها محمد أوفقير على ميدالية حربية بعد معركة “غاريناليانو” بإيطاليا سنة 1944، كما نال ميدالية “سيلفير ستار الأمريكية” في إثر معارك تحرير “سيينا”.
https://www.youtube.com/watch?v=7th6h7RicYc
صعود ما بعد الاستقلال
ويحكي الملك الحسن الثاني للصحفي الفرنسي إيريك لوران فى الكتاب الشهير “ذاكرة ملك” كيف تعرف إلى أوفقير الذى كان فى خدمة والده محمد السادس وكيف أحسن به الظن ووثق به ومنحه سلطات واسعة. فقبيل مجىء الملك الحسن كان والده يعتمد عليه اعتماداً كبيراً نظراً لعمله السابق فى المخابرات الفرنسية وهى ما كانت تعرف بمصلحة التوثيق الخارجي الفرنسي. وقد اختير “أوفقير” رئيساً للمراسم فى مقر الحاكم الفرنسى فى إبريل عام 1953 وهو نفس العام الذى شهد خلع الملك محمد الخامس ونفيه إلى مدغشقر، وقيل أنَّ “أوفقير” لعب دورا كبيرا فى رحيل خليفة الملك بن عرفه والعمل على إعادة محمد الخامس إلى عرشه بعد أقل من عامين . وعندما حصل المغرب على استقلاله عام 1955 كان الملك محمد الخامس فى حاجة لضابط بارع قادر على جمع المعلومات والتعامل بدهاء مع التيارات السياسية المتصارعة على الساحة المغربية، ولم يجد أفضل من الجنرال الشاب الذى لم يكمل الثلاثين من عمره .
وكانت فترة الخمسينيات من القرن الماضى شديدة الاضطراب خاصة فى الملكيات القائمة بعد أن زالت تلك الملكيات فى دول محورية بمنطقة الشرق الاوسط مثل مصر والعراق. ولا شك أنَّ ذلك جعل من يتولى حكم المغرب مثل الملك محمد الخامس ثم ابنه الملك الحسن الثاني من بعده يلجأون إلى كثير من الشدة فى التعامل مع معارضيهم سياسيا تخوفا من زوال الملكية، وهو ما دفعهم إلى الاعتماد على أشخاص من عينة “أوفقير”.
إنَّ الحسن الثانى يبرر تلك الحدة بأنَّ “أسرته لم تسع للحكم وإنما طُلبت للجهاد وأدت رسالتها، وبأن طبيعة المغرب “الفسيفسائية ” تجعل من النظام الملكي النظام الأوفق والأنسب للبلاد.
ويعد عام 1960 عاما حاسما فى حياة أوفقير حيث تم تعيينه مديرا عاما للأمن الوطني خلفا لمحمد الغزاوي، وكان هذا المنصب بمثابة تكريم وترقية من الملك محمد الخامس الذى وجد فيه إخلاصاً كبيراً جعله يتدخل فى حياته الخاصة على حد رواية مليكة أوفقير فى “السجينة “. تحكى “مليكة ” الابنة البكر للجنرال محمد أوفقير كيف زارت القصر الملكى بصحبة أمها فاطمة وذهبت لتلعب مع الأميرة الصغيرة لالا أمينة وضربتها فاحتضنها الملك، ثم طلب من فاطمة أن تترك ابنتها لتلعب مع ابنته فى القصر ويتبناها على أن يسمح لها بزيارتها متى شاءت. والغريب أن الأم التي يهيم بها الجنرال الصاعد وافقت دون تردد .
وتحكى مليكة أيضا كيف انفصل والداها أوفقير وفاطمة وتزوجت أمها بضابط آخر كانت تحبه، وسعى الملك إلى تزويج ضابطه المخلص محمد أوفقير، وبالفعل اختار له فتاة أخرى تحمل الاسم نفسه فاطمة، لكن الجنرال الصارم الذي عرفناه جلادا قاسيا كان موصول القلب بفاطمة الأولى، فلم يلبث أن طلق زوجته الثانية وفعل كل ما بوسعه لتطليق طليقته من زوجها الثاني لتعود إليه في قصة درامية عجيبة.
وقد أُوكلت الى اوفقير مهمة تأسيس “الكاب” أو المخابرات المغربية والتى كانت منبع كل الأجهزة المخابراتية المغربية، فمنه انبثقت “الديسطي” و”لادجيد”، وقيل أنَّ “أوفقير” استعان بخبراء من المخابرات الأمريكية والموساد لتنظيم العمل به .
واعتمد “الكاب” في انطلاقته على جملة من عملاء المخابرات الفرنسية، وبعض المقاومين الذين انخرطوا في الأمن الوطني. وعند توظيف عناصر جديدة كان يتم الاعتماد على القرابة والعلاقات، فمثلا فإنه تم الاستعانة بشقيقه إبراهيم أوفقير وبعض صحبته تعبيرا عن الإخلاص المطلوب.
وفي البداية كان تمويل “الكاب ” يتم بتخصيص ميزانية توضع في صندوقه الأسود يتصرف فيها الجنرال أوفقير بدون حسيب ولا رقيب (وكان قد كلف أحمد الدليمي بتدبيره)، وموازاة مع ذلك كان “الكاب ” يستحوذ على 75 في المائة من دخل دور الدعارة التي كانت دائمة الاشتغال بفعل حمايتها من طرف عناصر الجهاز، ولعدم إثارة الشبهة كانت إدارة تلك الدور والفنادق تعهد لبعض الفرنسيين.
https://www.youtube.com/watch?v=wzduoF3-k1M
رومانسي رفيع
إنَّ قصة حب محمد أوفقير وفاطمة تثير دلائل غريبة عن الرقة والرومانسية التى كان يتمتع بها ذلك الجلاد المغربي. لقد وُلِدَ الرجل لعائلة ذات ثراء ومكانة تحيي حياة الترف واللهو المرادفة للحياة القاسية للعسكريين مثله فى ذلك مثل العسكريين الفرنسيين. وكان الرجل دمثا خجولا كما تشير مذكرات عائلته وقد تعرف بفاطمة شنا عندما كان عمرها خمسة عشر عاما وتزوجا فى شقة صغيرة بناها على السعادة والتحضر وكان يعلمها طرق التعامل مع المجتمع الراقى وكيفية الاعتناء بمظهرها واختيار الملابس حتى غدت واحدة من سيدات المجتمع المغربي فى تلك الفترة.
تحكى فاطمة أوفقير فى كتاب “حدائق الملك ” كيف كان أوفقير يحبها بجنون ويغار عليها حتى من أبيها وشقيقها، وكيف كان ذلك الرجل ذو القبضة الحديدية متسامحا معها الى أبعد الحدود. لقد تألمت فاطمة بشدة عندما اكتشفت خيانات زوجها لها وأصرت على طلب الطلاق ووافق إرضاء لها، ثم تزوجت من ضابط آخر وظل أوفقير على حبه لها حتى بعد تزوجه بأخرى، وتحكى ابنته مليكة كيف باح لها فى أحد الأيام بأنه لا زال يحب أمها، وكيف أصر على الاتصال بأمها حتى نجح فى اقناعها بالطلاق من زوجها الضابط والتزوج بها مرة أخرى .
إن الصورة التى ترسمها عائلة أوفقير عنه صورة غريبة تتميز بالتحضر والرقة والانسانية، وهى تؤكد صحة النظرية القائلة بمعاناة معظم الجلادين من انفصام حقيقى وواضح في شخصياتهم .
إن شخصية العسكري الأسود التى رسمها لنا الروائي القدير يوسف إدريس تتشابه مع تلك الشخصيات حيث توجد جوانب خير فى شخصية العسكري الأسود الذى يبكي ويتألم ويحب ويكره مثل باقي الناس.
لذا فإن علينا ألا نستغرب أن تذكر مليكة عن والدها أنه كان مرحا، محبا للحياة ، سهارا لليل، هاويا لأغانى الغرام ورقصات الغجريات، وكان كثيرا ما يطلب من ابنته الكبرى أن تعزف له موسيقى على البيانو، ثم يتركها تدخن أمامه.
ثم تقول الابنة عنه أيضا أنه كان يبكى كثيرا على موت أصدقائه، خاصة أولئك الذين حاولوا اغتيال الملك الحسن فى انقلاب الصخيرات الفاشل وتم اعدامهم. وكان شهما مع عائلاتهم وقدم لأبناء الضباط القتلى كثير من المال والمساعدات. كما كان رجلا شجاعا لا يهاب الموت وقال يوما لأمه – طبقا لرواية ابنته مليكة – لا تبكِ على ّ إذا مت، ما دمت أموت رجلا .
القمع والقهر
وعلى الرغم مما سردناه حول طباع طيبة للرجل تجعله مختلفا عن شخصيات جلادين آخرين فى العالم العربى، ربما بسبب التعليم الراقي أو الانتماء لعائلة ذات أصل طيب، إلا أن هناك كثيرا من الوقائع تشير إلى أن الرجل كان أحد أكثر أدوات الملك الحسن الثانى بطشا فى المغرب. لقد عين أوفقير رئيسا للشرطة أو مدير للأمن الوطنى عام 1960 كما سبق أن ذكرنا وقد عين رسميا وزيرا للداخلية فى 13 نوفمبر عام 1963، ثم تجدد تعيينه عام 1967 ثم أضيفت له وزارة الدفاع بعد انقلاب الصخيرات عام 1970. وخلال تلك الفترة فقد تعرضت حقوق الإنسان فى المغرب لانتهاكات واسعة نتيجة قمع حركات التمرد والثورة من جانب جماعات اشتراكية ويسارية مختلفة، واعتبر أوفقير المسئول الأول عن كثير من هذه الممارسات. لقد تلقت لجنة المصالحة المغربية التى تم تشكيلها فور تولى الملك محمد السادس عرش المملكة خلفا لوالده أكثر من 4200 شكوى انتهاك لحقوق انسان جرى معظمها خلال ترأس “أوفقير” لجهاز الأمن الوطنى، وكان من بينها مائتى حالة هى الأكثر فظاعة .
وتنشر جريدة “لوموند ” الفرنسية بعضا من تلك الوقائع، فتشير إلى أنَّه كان يتم إلقاء بعض المعارضين فى بئر عميق ملى بالثعابين والعقارب، وكان يتم تعليق الضحايا فى الأسقف لأيام متتالية. وفى بعض الأحيان كان يشرف أوفقير بنفسه على عمليات التعذيب فيجرح الضحية بخنجر ويتركه ينزف لعدة أيام. ومن ضمن الشهادات لأحد المحررين بأنه كان يتم تعليقه في السقف بيدَيه لساعات طويلة يُمعن السجانون خلالها فى بضربه على أصابع يديه ورجليه بشكل وحشي، ليعودوا إلى إجباره على الركوع لساعات على ركبتيه وقد كبلت يداه خلف ظهره، ثم يبدأ أحد السجانين بالضغط الشديد على معدته في الوقت الذي يُدخل سجان آخر أصابعه في البلعوم ويضغط بعنف. واعترف محرّر آخر بأنه تعرض للتعذيب نفسه لكن السجانين كانوا يتلذذون بإطفاء أعقاب السجائر في ظهره عقابًا له على مشاركته في المظاهرات.
ومن المعروف أن السنوات التى شهدت وحشية النظام المغربي فى التعامل مع خصومه عرفت تاريخيا بسنوات الرصاص وقد بدأت بتمرد الريف نهاية الخمسينيات من القرن الماضى وأوكلت مهمة المواجهة إلى أوفقير الذى تعامل مع سكان الريف بوحشية فظيعة حتى أنَّ عشرات القتلى سقطوا بدون جريرة سوى المشاركة في التظاهر ضد النظام. وقد اُعتبر أوفقير مسئولا عن اختطاف وقتل كثير من المعارضين هو ومساعده الجنرال أحمد الدليمي وكانت أبرز الشخصيات المعارض الشهير المهدي بن بركة والذى سنتعرض لقضيته بكثير من التفصيل، بالإضافة إلى كل من عبد الحق الرويسي الذى أختطف في أكتوبر 1964، ومحمد بوفوس أختطف في يوليو 1967 وغيرهم .
وفى 1965 قامت مظاهرات الدار البيضاء الشهيرة بعد تردي الأوضاع الاقتصادية وقد أُوكلت مهمة اخماد تلك المظاهرات إلى أوفقير، وكان الملك الحسن الثاني حاسما معه اذ طلب منه إعادة الأمن بأي ثمن، واستخدم أوفقير سلاح الإرهاب فى قمع المظاهرات وقتل المئات من المتظاهرين حتى توقفت المظاهرات تماما بعد ثلاثة أيام. وقتها أصبح الناس لا يطيقون سماع اسم محمد اوفقير، ونعتته عائلات الضحايا بالسفاح أو القاتل البارد. ويبدو أنه كان يعلم ذلك ولا يعنيه الأمر من قريب أو بعيد، حيث كان يسير فى طريقه ومخططه للوصول إلى الحكم مهما كلفه ذلك من دماء وخطايا.
ويذكر الكاتب الفرنسى جيل بيرو فى كتابه الشهير “صديقنا الملك” والذي ترجمه الى العربية ميشيل خورى عن أوفقير أنَّ معارضى النظام أطلقوا عليه “رجل الدم” وأنه اشتهر بدمويته وتعذيبه للسجناء السياسيين المعارضين للحكومة الأجنبية أيام الاستعمار، وبعد أن رحل الاستعمار قام بعملية التعذيب نفسها وإنما ضد المعارضين أو المناضلين في سبيل كرامتهم وحريتهم الشخصية.