حتى يرى الأمر على غير حقيقته؛ لم يصارح نفسه أنه يُقْتَلَعُ على نحو ما، وأنه يتألم بتقطع الجذور وانحسار ماء الأرض عن ذلك الجذع الذي جاوز عمره ربع قرن.. قال: ها أنت ذا يلفظك الوطن، ولا تجتبيك البلاد، ولا يفتقدك الأقربون.. فاذهب فأنت حر لوجه المتاهة.
أكثر من ثلاث سنوات قد ذهبت منذ فارق خدمة السلاح.. لم تجتمع في جعبته سوى الخيبات. لا شيء سوى السهر في ليل المقاهي النائية والاستغراق في القراءة وإحراق التبغ في الندوات وعلى طاولات مقرات الأحزاب العتيقة، وتلك النقاشات الطويلة العقيمة عديمة الجدوى المليئة بالفخاخ التي تنال المتبجحين بالعناوين التي انداح عنها الغبار توا.. ينهض “آدونيس” من رماد قصيدته البائسة “أغنية إلى حروف الهجاء” فيصيح فيهم: ها هو نبيكم يرتد! جُنَّ جنون القوم في مقر التقدمي الوحدوي.. ينتظر كشيطان نبيل حتى تهدأ ثورتهم الكاذبة لِيُلقي في وجوههم دليل الردة مفصلا في مصورات باهتة لحوار مطوَّل للشاعر أجرى قبل عام ولم يعرف به المريدون الأدعياء.. ثم ينسحب ظافرا.. لكن ذلك أورثه كِبرا جعله يسطو على تلك المجادلات بقسوة حتى جرؤ ذات ليلة على تحسس دماء “فرج فوده” في سجال صاخب بالناصري.. كيف بارك الحضور سطوته؟! وكيف اختبأ من روحه المتعبة لثلاثة أيام بعد أن قرأ “الحقيقة الغائبة” فلم يرفض عقله جملة واحدة مما أورده المغدور. قبل أن يفاجئه الرجل بعلاقة وثيقة بسفير الكيان في القاهرة.. فيطأ الأمر برمته لعقدين قبل حضور عرض مسرحي تجريبي بالغ الروعة عن حادثة الاغتيال عشية ثورة يناير.
لكنه سينهمك في الإعداد لجريدة حزبية محلية لن يشهد ميلادها بعد اختمار فكرة الخروج، لكنه سيسعد فيما بعد عندما يعلم أن الجريدة كُرست لفضح ممارسات مهنية شائنة لمحام كان على رأس التنظيم الإداري لجماعة الإخوان بالمدينة الساحلية.. كان قد عرف الرجل عن قرب واستمع إلى خطبه ودروسه وافتتن به وهو دون السابعة عشرة في الزوايا التي كان يؤمها للصلاة في الحي القديم. لا ينكر أن الرجل كان واسع الاطلاع منفتح على غير طبيعة أعضاء الجماعة.. لم يكن ليخفي ولعه بالنساء.. ولا أنه يشاهد أفلام السينما. يذكر جيدا أنه أول من ذكر أمامه “كتيبة الإعدام” فيلمه الأثير الذي ما زال يبكيه إلى اليوم.. لكن الرجل كان أفاقا بحق يطوّع كل شيء لمآربه.. صورة حقيقية واضحة جلية بل صارخة لوجه تواطؤ الجميع على إخفاء دمامته وقبحه حتى أطل علينا سافرا بُعيد الانتفاضة المغدورة.
أنقذه لبعض الوقت تعرفه بـ “إدوار الخراط” في “نزوات الهوى والتهلكة” وأمضَّه بنصٍ حاد كالنصل أدمى قلبه..قرأه في “إبداع” بعنوان “سوارات بائدة” يحكي تفاصيل العجز عن انتزاع طفلة من براثن الموت قبل أن تنهدم عليه “حيطان” إدوار العالية ؛ فيستسلم للمأساة الكاملة بأدق وصف لتجدد الخيبة وإعادة إنتاج اليأس والتأثم والألم في معتقده الأدبي الأصدق ..”الزمن الآخر”.
يذكر أنه في فبراير من عام الخروج كسرت “سراييفو” حصارها الذي دام لنحو من أربع سنوات، قبل أن تضع الحرب الشيشانية الأولى أوزارها أيضا في نفس العام.. استغلت الجماعة حرب البلقان في الترويج لأهدافها من خلال المتاجرة بمأساة شعب البوسنة.. والمخطط الرامي لاستئصال الإسلام من أوروبا.. ما روجت له بشكل أو بآخر المطبوعات العربية التي تصدر من العواصم الأوروبية.. يذكر منها “الفرسان” لرئيس تحريرها د. دريد الأسد وكانت تعلن عنها إذاعة “مونت كارلو” بأغنية السيدة فيروز “بكرة لما بيرجعوا الخيالة ترجع يا حبيبي” والتي قرأ فيها مذكرات “فينوغرادوف” سفير الاتحاد السوفييتي في القاهرة أثناء حرب 1973، والتي كشفت له بجلاء عن الأدوار التي لعبها الرئيس المؤمن لإهدار النصر الذي تحقق، وكذلك مذكرات الشاعر اللبناني “سعيد عقل” الذي عمّر لمئة عام اختلطت فيها روائع الشعر بالهوس والجنون والحب بالبغضاء العميقة والتهليل لاجتياح العدو للبنان؛ لينتهيالشاعر نعلا في أقدام الصهاينة.. وغيرها من الموضوعات الهامة إضافة إلى مقالات “نصري الصايغ” المكتوبة بلغة أدبية ولا أبلغ.
بالإضافة إلى “الشاهد” التي انتزع منها حوار “آدونيس” المذكور آنفا و”هنا لندن “والعالم” اللندينة صوت “إيران” للعالم العربي.. التي قرأ على صفحاتها لمطر “بلاد ما بين النحرين” القصيدة التي نعى فيها بلاده للعالم عقب حرب الخليج الثانية.
لم يكن في استطاعته في تلك السفرة حمل الكتب.. لنقل أنه لم يمل إلى ذلك.. سافر أعزل من أي كتاب، بعد أن جمعها في حقائب أغلقها جيدا حتى لا تمتد إليها يد عابث.. خبأها في الحجرة العلوية التي ضمت العديد من مسامرات الرفاق المحتدمة حول “زبرجدة الخازباز” لحسن طِلب، ونثريات عبد المنعم رمضان الحاضرة بصورة دائمة في “أخبار الأدب”.. ربما راود نفسه على حمل “الدون الهادئ لـ “شولوخوف” تلك الرواية الخالدة بمجلداتها الأربعة التي داوم على قراءتها مرات لتكشف له عن كنوزها في كل مرة فيتجدد بها الشغف.
في شهر الخروج رحل “عاطف الطيب” دون مقدمات ودون أن تشبع منه عين السينما.. لقد وعاه مبكرا جدا بسبب أن فيلمه الأروع “سواق الأتوبيس” كان عن قصة حياة إنسان يعرفه شخصيا لعلاقة صداقة وطيدة جمعت بين خال بطل القصة وأبيه، كما لا ينسى أنه بات في بيت المعلم سلطان بحي بولاق ليلة، وهو بعد لم يبلغ التاسعة.. ثم تجددت المعرفة بـ “كتيبة الإعدام” ثم توطدت بـ “البريء” و” ضد الحكومة” “وناجي العلي” و” دماء على الأسفلت” و” ليلة ساخنة”.. لم ينتبه وقتها أن رحيل الطيب كان في اليوم التالي لرحيل أستاذه العظيم “صلاح أبو سيف”.. سيذكر بعد ذلك بكل الحب أنه شاهد الأفلام المصرية في الغربة أولا بأول على شرائط فيديو تحمل نسخا رديئة الصوت والصورة.. أحب “يادنيا يا غرامي” لكنه أحب أكثر فيلم “رومانتيكا” الغريب لزكي فطين عبد الوهاب، قبل أن ينبهر بـ “عفاريت الأسفلت”.. ويذكر أنه لم يشاهد “ناصر 56” إلا عند عودته لعدم توفره على شرائط فيديو.
أما رحلة الخروج فكان عنوانها الشقاء لتكتمل فيها معاني الاقتلاع من الجذور.. فما بين الرحلة الأرضية والرحلة البحرية مرت الساعات في “نوبيع” في مكان لا يصلح لبقاء البشر.. إذ تجرد من كل ما يحتاجه الإنسان من خدمات ومستلزمات.. ليصاب المغادر بالصدمة من حال الاستسلام المرغم التي تطل من العيون فيما يشبه الاستجداء.. وكأن القوم قد اتفقوا على كونهم بلا حقوق، فليس لهم الشكوى أو طلب الحصول على مكان آدمي يقطعون فيه ساعات الانتظار الطويلة.. قبل وصول العبَّارة ورسوها استعدادا لحمل هذا العدد الكبير من الملفوظين من قلب الوطن وروحه بصور شتى لا يجمع بينهم إلا الرضوخ التام على أمل الخلاص من دم الوطن وثأره.. أو هكذا تخيل ذلك المغادر إلى المتاهة التي ستتعطل فيها حواسه فتختفي الصور والأصوات إلا قليلا من مشوشات تنشب بضعف أظفارها في ذاكرة غارقة في الانشغال بالوطن وناسه.. فيشعر وكأن روحه تخمد وتسوخ إلى أغوار بعيدة.. إلا أن يذكر الوطن أو يفوح عطره من خلال أغنية قديمة يرددها أحدهم قرب مسامعه بقسوة فيجرح تجلده البليد الذي لم يصمد طويلا.. فبعد ثلاثة أشهر فقط سيغمره الدمع عاتيا مع كلمات عبد الرحيم منصور ولحن بليغ البالغ القسوة والعذوبة.. “وانا على الربابة باغني وعاشق ومغني وإيه أكون جنب عشاقك يامصر”. فيوقن أن لا ثمة خروج من وطن يستعمر أبناءه بالروح فلا ينتزع مهما كانت قسوة التجربة.. أو نحو ذلك مما يصعب تفسيره، أو فهمه.
أصابني الدوار أثناء مطالعة مقالكم أ. ماهر
الأسلوب والمفردات المتميزة وكم المعلومات الواضحة الجلية والمبهمة (نوعا ما ربما بالنسبة لي)، ومازال قلمك شيقاً للقراءة
وعلي أن أعيد القراءة مجددا ومرارا وتكرارا في كل مرة لا لأستوضح ما بين السطور ولكن لأستعيد حالة الشغف والمتعة التي تعتريني كلما قرأت لك شيئا.