سنتناول في هذا المقال أحد أهم الماكينات “العلمية” التي يستند عليها تسليع المعرفة المتعاطفة مع الإسلاموية في الغرب، وهو طلال أسد الأستاذ المتخصص في الأنثربولوجيا بجامعة مدينة نيويورك الأمريكي والذائع الصيت والتأثير.
ولفهم جيد لمدخل طلال أسد في إنتاج معرفة يمكن تسلعيها للتعاطف مع رؤية العالم الإسلاموي يجب البدء بتقديم سريع لوالد طلال أسد وهو محمد أسد، أو Leopold Weiss، اليهودي الذي أسلم عام 1926 واستقر في المدينة المنورة، ثم سافر إلى الهند وكان له دور مع محمد إقبال ومحمد علي جناح في تأسيس باكستان، لدرجة أنه تم تعينه وزيرها المفوض بهيئة الأمم المتحدة بعد أن منحته جنسيتها.
تذكرني حياته – الغامضة وكثرة ترحاله ومشاركته في أحداث كبرى (ثورات، إنشاء دول…الخ) بطريقة غير منطقية ما يظهر منها أقل بكثير من المخفي منها – بجمال الدين الأفغاني.
أسد الأب من منظري الإسلاموية الأوائل
يعتبر محمد أسد من منظري الإسلام السياسي الأوائل، والذي أخذت عنه فيما بعد كتابات كثيرة تنظر لفكرة “الدولة الإسلامية”، لكن دون أن تحيل عليه بشكل مباشر. فكتابه “منهاج الإسلام في الحكم” وأصله رسالة كتبها محمد أسد بعنوان: (بناء الدستور الإسلامي -Making Islamic Constitution) ونشرت بين عامي 1947 و 1948، وكان حينها رئيسا لدائرة (إحياء النظم الإسلامية) الحكومية، والتي كانت مهمتها وضع الأسس الفكرية والاجتماعية لبناء الدولة الناشئة بباكستان. ترجمت تلك الرسالة للعربية لأول مرة عام 1957 ببيروت. مع العلم بأن الطبعة المتداولة هي طبعة عام 1961ويجب أن يؤرخ لهذا الكتاب مثلما هو الحال مع الكاتب المؤسس للإسلاموية.
في هذا الكتاب يقول محمد أسد أن كل ما نريده من الدولة لكي تنال بحق صفة الإسلامية أن تدمج في دستورها وأن تستهدي في أعمالها تلك الأحكام الظاهرة المنصوصة في القرآن والسنة.
كما يطالب بالعودة إلى المصادر الأصلية للشريعة الإسلامية: القرآن والسنة، والنظر إلى نصوصها بشكل مستقل عن كل ما كتب، كما دعا فيما بعد سيد قطب، وأن هناك موادا شرعية يجب أن تحتل مكانها في أي دستور يسمي نفسه بالإسلامي.
يقول أسد أيضا، إن الدين الإسلامي يقدم مبادئ محددة لنظام سياسي خاص به، وأن هناك أسبابا خاصة بالغرب وحده جعلته على غير وفاق مع دينه. ولا يصح أن تأتي أمة من الأمم انتسبت إلى حضارة مختلفة، ومرت بتجارب تاريخية متنوعة فتقتبس النموذج السياسي الغربي ومصطلحاته كما استعملت في الغرب وتستخدمها وكأنها تحمل في ذاتها معاني مطلقة. ثم يكمل قائلا، إن هذا لتضليل مؤذي إلى أبعد الحدود، فلا يجب تطبيق المصطلحات التي لا صلة لها بالإسلام على الأفكار والأنظمة الإسلامية.
إن للفكرة الإسلامية نظاما اجتماعياً متميزاً خاصا بها وحدها، وله مفاهيمه ومصطلحاته الخاصة به. كما أن طاعة المجتمع الإسلامي “لأولي الأمر” مشروطة بطاعتهم لله ورسوله. ثم يختتم قائلا: إن غايات الدولة الإسلامية هي أن تجعل من شريعة الإسلام القانون المهيمن على شؤون الحياة، واحتضان تعاليم الإسلام ونشر رسالته في ربوع العالم. يحق لنا أن نطرح سؤالاً نادراً ما يُطرح على مائدة البحث، ألا وهو ما تأثير محمد أسد على ابنه طلال أسد وعلى اختيارته الإبستمولوجية والمنهجية في تناول الإسلاموية ؟ نشرح في السطور التالية السياق العلمي الذي ظهر فيه طلال أسد وأهم أفكاره التي يستند عليها لتسليع المعرفة المتعاطفة مع الإسلاموية في الغرب.
أسد الابن بين الاستشراق و الأنثروبولوجيا والإسلاموية
أوضح أنور عبدالملك في دراسته: الاستشراق في أزمة الصادر عام 1963 أن الاستشراق ميراث استعماري من جهة، و أنه لم يستفد من التطور الحاصل في العلوم الاجتماعية والتاريخية من جهة أخرى، ثم جاء إدوارد سعيد عام 1978 ليؤكد بأن الاستشراق تخصص استعماري نشأ في حضن الاستعمار ونقل اطروحاته، وأنه أطر الإسلام والشرق في صورة تلبي طموحات الغرب ومطامعه في امتلاك العالم الإسلامي عن طريق امتلاك صورة الإسلام. لتخطي عقبات إمبرياليته أو تخلفه عن ركب العلوم الأخرى أو لإعادة السمعة المفقودة له أو كل تلك الامور معا، ثم تطور وتحول الاستشراق وانقسم إلى مدارس عدة، هناك من يسميها بمدارس الاستشراق ما بعد الاستعماري (Post Colonial Orientalism وهي: المدرسة اللغوية التي تنزع إلى نقد النص كشكل من أشكال التفكيك، ومدرسة الدراسات الإسلامية أو الشرق أوسطية وهي المدرسة الأقرب لروح الاستشراق القديم. ومدرسة دراسات التاريخ والتي انقسمت إلى مدرسة الحوليات التي أعادت كتابة تاريخ أوروبا الوسيط من جديد رابطة ضفتي المتوسط، ومدرسة «التاريخ العالمي» أو شيكاغو للتاريخ والتي تقرأ تاريخ العالم من خلال ترابطه منذ القرن الثامن قبل الميلاد. وأخيراً المدرسة الأنثروبولوجية التي ربط ادوارد سعيد بينها وبين الاستشراق التقليدي في أنهما علمان استعماريان يعتمدان المادة ذاتها.
وعلى الرغم من أن علماء الإنثروبولوجيا لا يعتبرون أنفسهم من المستشرقين وغالباً ما ينتقدون بشدة المستشرقين التقليديين؛ إلا أنهم يقعون ضمن تعريف إدوارد سعيد للمستشرق:” كل من يدرس أو يكتب أو يبحث في أمور الشرق مفرقا أنطولوجيا وإبستمولوجيا بين “الشرق” وبين “الغرب” بهدف التمهيد للسيطرة عليه وحكمه والهيمنة على مقدراته. و أجمل باتريك وولف في كتابه الصادر عام 1999 بالإنجليزية تحت عنوان “Settler Colonialism and the Transformation of Anthropology” تاريخ النقد الموجه للأنثروبلوجيا الغربية، منذ القرن التاسع عشر، وعلاقتها مع المؤسسة الاستعمارية. بل أن هناك من الأنثروبولجيين من اتهم بتصعيد العنف والإتجار في السلاح بين القبائل محل دراسته ونشر الأمراض فيها مثل حالة Napoleon Chagnon مع قبائل “يانومامو” بغابات الأمازون.
في هذا السياق تبلور ما نسميه أنثروبولوجيا الإسلام، وفي القلب منه طلال أسد. ففي كتابيه “جنيولوجيا الدين” و”تشكلات العلماني” كما في كتابه الأخير “ترجمات علمانية .. الأمة – الدولة والذات الحديثة والعقل الحسابي”، يحاول طلال أسد تأصيل فكرة أن العلمانية تتطلع إلى تطبيق رؤيتها الخاصة للعالم على العالم، فلا تقنع بتقييد المعتقد الديني والممارسة الدينية في الفضاء الخاص، بل تبني العلمانية نفسها على تصور خاص للعالم محاولة فرض ترجمة “الديني” بلغة العقل العلماني أو “العقل الحسابي”، فتعيد بذلك رسم خرائط تصور الوجود وإدراكه. كما يشكك أسد بالمفهوم السائد للدين، وعلى نحو متلازم كذلك يشكك بمفهوم العلمانية. إنه يقول إن المفهوم السائد للدين هو مفهوم مقيد بشروط ظهوره الأوروبية، وليس منطقياً استخدامه في مكان آخر؛ بمعني أخر أن العلمانية أو تطور المسيحية فرضا نفسهما ومصلحتهما كمصدر معياري نقيس به دين الآخر. وهو نفس ما كان يطالب به والده محمد أسد كما رأينا منذ عام 1947.
وإذا طبقنا وجهة النظر تلك على مجالات أخرى بغرض الجدال، فإننا نستطيع أن نقول أن أسد يطالبنا أيضا بعدم بقبول المفاهيم المستخدمة في الاقتصاد والسوسيولوجيا والسياسة والأنثروبولوجيا في فهم ودراسة العالم العربي؟ من جانب آخر، يقول أسد -وكأنه ينظر بأن الإسلاموية هي الحل – بأن إضفاء الشرعية على العلمانية والدولة الوطنية كضامنين للسلم المجتمعي والتسامح ليس صحيح لأنهما لا يضعان حدا للصراعات ولكن فقط ينظماها.
أخيرا من أهم ما فعلته هبّة شعب مصر ضد حكم الإخوان في 2013 أنها أظهرت الكامن تحت القشرة “العلمية” من إيديولوجيات كانت هي المحرك الرئيسي لإنتاج المعرفة المتعاطفة مع الإسلاموية. سبب هذا الحدث الهلع لمنتجي تلك المعرفة، لأنه كشف هشاشة وسطحية وتسليع تلك المعرفة والتي يمكن وصفها بادعاءات ثقافوية تنظر لاستحالة العلمانية وجينية الإسلاموية في الحمض النووي للإسلام. إنها ببساطة تستكمل خطي الاستشراق في استخدام العلوم الاجتماعية والإنسانية في تفخيخ المجتمعات، للتمكن من السيطرة عليها وتوجيهها. أردوا بتنظيرهم ذلك أن يستكملوا العزلة الحضارية التي فرضها العثمانيون على العرب ولكن بشكل آخر، بسجنهم معرفياً في لحظة زمنية معينة من تطورهم لتأبيدهم فيها، واعتبار تلك اللحظة الزمنية هوية تقارن باللحظة الآنية للثقافة الغربية كأنهم قد ولدوا فيها ولم يعبروا تلك التي فيها الثقافة الإسلامية الحالية بإصرارهم على نهج خصوصية الإسلام تاريخا وثقافة، واعتبار المسلمين كائنات انثروبولوجية لا تاريخية كأنها لم تخضع قط للتطور التاريخي، منعت الأنثروبولوجيا من أن تتحول من علم الاستعمار إلى علم التنمية. في السطور التالية نعرض الأراء الكاشفة للأيدلوجيا المحركة لطلال أسد من خلال حوار له حول هبّة المصريين ضد حكم الإخوان في 2013.
الموقف الكاشف: طلال أسد وهبّة المصريين ضد حكم الإخوان في 2013
في مقابلته المنشورة في موقع جدليات باللغة الإنجليزية يوم 23 يوليو 2013 والتي أجرتها معه صفحة تركيا في “جدلية”، لا يتردد طلال أسد في وصف ما حدث في 30 يونيه علي أنه انقلاب نتاج مؤامرة بين كل الفاعلين في المشهد السياسي والاجتماعي ضد الإخوان.
و يردد دون أي تفكير كلام الإخوان دون أي قراءة نقدية لها. فيقول: “كل الأسباب المباشرة للتذمر الشعبي، من انقطاع للبنزين والكهرباء وغياب للأمن، قد اختفت فجأة. وبين ليلة وضحاها أصبح الوقود متوفراً في المحطات، وظهرت الشرطة في الشوارع إضافة لأشياء أخرى،كما يظهر أنه كان هناك تنسيق واضح لتأزيم الوضع (…) و لقد تناقش البرادعي مع أحمد شفيق قبل أشهر في السعودية، وهو المرشح القديم الذي خسر أمام محمد مرسي وكان آخر رئيس وزراء عهد مبارك، والذي يمثل (أو على الأقل هو أحد من يمثلون) مصالح عهد مبارك وبضمنها الجيش. وبالتأكيد فقد توصلوا إلى اتفاقات معينة كقادة لجبهة الانقاذ الوطني، ولا أتخيل أن الجيش لم يكن على علم بهذه الاتصالات. ويبدو لي أن أغلب الشباب من حركة “تمرد” لم يكونوا على علم بهذا، رغم أنه من المعروف الآن أن بعضاً من أشهر أصحاب الملايين، مثل نجيب ساويرس، كانوا يمولون الحركة ويدعمونها (…) رئيساً للمحكمة الدستورية العليا المؤيدة لمبارك أصبح الرئيس الجديد”. باختصار التفكير بالمؤامرة في أبهي صوره. هو لا يتصور قيام ثورة حقيقية ضد الإخوان، فهم الشعب وهم الإسلام!
متناسيا تماما كتباته عن الخصوصية الثقافية، ولا يجد أسد أي غضاضة في القول أن تصرف محمد مرسي أثناء حكمه بالنيابة عن حزب الحرية والعدالة لا عن البلد ككل هو الأسلوب الذي يجب أن تمارس به السياسة لأن هذا هو الوضع في الديمقراطيات الليبرالية. كما أنه تناسي تماما أن في الديمقراطيات الليبرالية لا تتصارع الأحزاب علي ماهية الدولة و لكن على كيفية إدارتها. فقد وصل الأمر به أنه حتى عندما ينتقد العقلية الجامدة للإخوان فأنه يعزي ذلك للقمع السياسي الذي عانوه طوال أكثر من ستين عاماً علي حد قوله و متناسيا أيدلوجيتهم المغلقة الجامدة و متناسيا أنه كان لهم تمثيلا في برلمان 2010 ب 88 نائبا.
ثم يقول إن اتهام الإخوان بالرغبة في سيطرة شمولية على المجتمع، وأنهم كانوا على وشك الحصول على ما يريدون، “هو كلام فارغ بطبيعة الحال وأن ذلك كان عملية تشويه ممنهجة لصورتهم من المثقفين القاهريين الموتورين ذوي الأفكار العلمانية الفظة”.
يدعي أسد أيضا أن المعارضة التي قلبت نظام حكم الإخوان تتكون أساساً من النخبة التي لم تغادر السلطة: رجال الأعمال الأغنياء الذين بنوا أنفسهم في فترة مبارك النيوليبرالية، قضاة المحكمة الدستورية العليا الذين حافظوا على علاقات وثيقة بالجيش، السياسيين الطموحين والسياسيين السابقين، مخرجي برامج التلفزيون ومقدمي البرامج الحوارية، الصحفيين المشهورين، بابا الأقباط وشيخ الأزهر والجيش ثم يعترف بخروج تظاهرات كبرى ضد حكم الإخوان ولكنه يقول إن كل هذا لا يمثل الشعب ويسائل في براءة كيف امتلك هؤلاء حق التحدث باسم الشعب؟
ثم لا يتردد لحظة في ترديد ما يقوله الإخوان عن الجيش وعن الإعلام، فيقول مثلا أن الإعلام كان مصمماً على تضخيم مظاهرات معارضي مرسي بالقول والصورة، وتجاهل مظاهرات مؤيدي مرسي. ثم يقع في شرك عدم العلمية بالمطلق عندما يقول إنه من المضحك أن نرى محاولة لبناء إجماع وطني بوجود السلفيين كممثلين عن “الإسلاميين” بشكل عام بالرغم من أن أعدادهم ليست بنفس حجم أعداد الإخوان المسلمين في مصر (…) وأن التحالف المعارض لمرسي كان يرتكز على الانتهازية التي تميز المعارضة المصرية للإخوان والسذاجة المنتشرة بشكل واسع في أوساط الشعب. ثم ينفي أسد عن الإخوان الإرهاب و يقول إنها مجرد حملة من وسائل الإعلام المعادية لهم، لأنهم أكبر معارضة منظمة، وأن هذا هو مجرد خطاب من قبل مؤيدي الحكومة للحفاظ على السلطة وتوسيعها.
كان لا يمكن أن تصدر كل تلك الأحكام و المعلومات المغلوطة أو التي بلا سند علمي أو هذا الانحياز الفج الغير عقلاني و الذهاب بعكس أهداف الإنثروبولوجيا ومن باحث بحجم طلال أسد دون أحداث 2013 في مصر. يجب إذا إعادة قراءة أعمال طلال أسد كمنتج “علمي” مؤدلج لصالح الإسلاموية.
خلاصة القول، إن الاختلاف في مستوى المنهج وتقدمه على مناهج المستشرقين التقلديين لم يستطيع التغطية على ارتباط الانثروبولوجيا الأسدية بالاستشراق الجديد وغاياته القديمة الجديدة والقائمة على إنتاج معرفة تسعي للهيمنة على الآخر ومقدراته، وبارتباطها بالمؤسسات الداعمة للبحوث؛ لهذا نجد رجال الاستشراق الجديد والانثروبولوجيا الأسدية يحتلون مكانة مهمة في الأكاديميا الغربية، وفي مراكز رسم الاستراتيجيات والمؤسسات الغربية الإعلامية والسياسية وهذا ما سنسلط عليه الضوء في المقالات القادمة.