رؤى

سيرة الجلاد العاشق محمد أوفقير (2 – 2)

حكينا في الحلقة السابقة عن بدايات وصعود رجل الأمن القوي محمد أوفقير وكيف تميز هذا الجلاد شديد القسوة، بعاطفة قوية تجاه زوجته ورفيقة دربه فاطمة أوفقير، وكيف كانت مضرب الأمثال في العشق لدى الناس.

بالرغم من ذاك فإن جرائم الرجل شاهدة ومتداولة وموثقة ومكررة في كثير من الكتب والسير الخاصة بالمغرب خلال الستينيات وما تلاها.

لقد كان الجنرال محمد أوفقير رجلا غريبا شديد التأثر بجنرالات الأمن الفرنسي المتعاملين بوحشية وسادية مع مَن يعتبرونهم خصوما وأعداء لبلادهم خاصة في الجزائر. ومن هنا فإن الرجل تورط في قضايا اغتيال وتعذيب بالغة القسوة مازالت حكاياتها جديرة بالحكي والمتابعة.

مقتل المهدي بن بركة

ولا شك أن قضية المهدى بن بركة هى الأكثر شهرة فى مسلسل انتهاكات أوفقير للعدالة والرحمة، ذلك أن الطريقة التى اختطف بها المهدى والتى انتهت بتصفيته وضعت الحكومة الفرنسية فى حرج شديد دفعها إلى طلب محاكمة أوفقير ومساعده الجنرال محمد الدليمي وهو ما أدى الى أزمة بين المغرب وفرنسا حرم على إثرها أوفقير من دخول الأراضى الفرنسية حتى مصرعه عام 1972 .

المهدى بن بركة
المهدى بن بركة

ولد المهدى بن بركة عام 1920 وهو نفس العام الذى ولد فيه محمد أوفقير، وقد ظهرت عليه ملامح النبوغ مبكرا حيث أتم حفظ القرآن الكريم وعمره تسعة سنوات والتحق بكوليج مولاى يوسف ليحصل على البكالوريا عام 1938 وعمره لا يتجاوز الثامنة عشر. وارتبط  المهدى بالحركة الوطنية عن طريق الزعيم المغربي محمد اليزيدي الذى كان يقول عنه “أنه مستقبل الوطنية فى المغرب”، وقد تخصص المهدى فى علم الرياضيات وتخرج أستاذا لذلك العلم عام 1942 وشارك بقوة فى تنظيم مظاهرات المطالبة بالاستقلال عام 1944 ليتم اعتقاله من قبل السلطات الفرنسية فى سجن لعلو بالرباط، ثم يعتقل مرة أخرى فى معتقل تفيلالت منتصف الخمسينيات وبعد إطلاق سراحه والسماح بعودة الملك محمد الخامس من منفاه نظم المهدى أكبر استقبال شعبي للملك، وقد انتخب فى نوفمبر 1956 رئيسا للمجلس الوطني الاستشاري وكان واحدا من المقربين من الملك حتى أنه عهد اليه بتعليم ابنه الحسن الثاني .

وقد بدأت الكراهية بين بن بركة وأوفقير فى الظهور إلى العلن عندما طالبت حركة 25 يناير التى يتزعمها بن بركة بتطهير القوات المسلحة من الضباط الذين خدموا إلى جانب الاستعمار، وكان على رأسهم أوفقير وهو ما اضطر المهدي إلى مغادرة المغرب بعد اعلان الأمن المغربى عن محاولات لاغتيال ولى العهد وادعاء تآمر المهدي وعدد من قوى اليسار المغربي.

وفيما بعد عاد المهدي إلى المغرب بطلب من الملك نفسه عام 1962 واستقبل استقبالا شعبيا رائعا وترشح فى البرلمان ليفوز باكتساح ، إلا أن خلافاته مع الأجهزة الأمنية اتسعت وجعلته عرضة للمؤامرات ومحاولات الاغتيال المتكررة، ما دفعه للسفر مرة أخرى إلى فرنسا حيث منفاه الاختياري الذى قتل فيه على يد الأجهزة الأمنية واتهام الحكومة الفرنسية أوفقير صراحة بالمسئولية عن ذلك.

مقالات ذات صلة

وتتعدد قصص اغتيال المهدي بن بركة وتتباين، إلا أنها تتفق فى شىء واحد ،هو أن مدبر العملية ومنفذها هو الجنرال محمد أوفقير. وذكرت صحيفة لوموند أنَّه في اليوم الثالث والأخير للثورة التي اشتعلت في الدار البيضاء عام 1965، وأُخمدت بقمع دموي أوقع مئات الضحايا، اتخذ العاهل المغربي الحسن الثاني قرارا بالتخلص من بن بركة في أثناء اجتماع مع قيادات الأمن في 25 مارس 1965، ورصدت مبالغ مالية ضخمة آنذاك لتنفيذ الخطة بالإضافة لـ30 عميلاً لتعقب “المسافر الثائر” والقضاء عليه.

وكلف عملاء من الشرطة السرية بمهمات خاصة لإنهاء حياة المهدي بن بركة، الذي وُضعت مقراته في القاهرة والجزائر وجنيف تحت المراقبة 24 ساعة، وتمت مراقبة اتصالاته الهاتفية، وتم اعتراض بريده الشخصي وفضه، إلى أن ألقي القبض عليه في فرنسا في وضح نهار 29 أكتوبر عام 1965 بواسطة عسكريين فرنسيين متعاونين مع الجهاز السري المغربي، ليلقى بعد ذلك أشد أنواع التعذيب في منزل فخم يقع في فونتوني لا فيكونت على يد محمد أوفقير والقائد الدليمي.

وذكرت “لوموند” أن صمت بن بركة المطبق خلال الاستجواب أثار غضب القائد الدليمي فانهال عليه العسكريون بالضرب المبرح إلى أن فقد الدليمي السيطرة على أعصابه فعلق الأسير الصامت إلى حبل يتدلى من السقف، وكبل يدَيه خلف ظهره، فيما كان بن بركة يتصبب عرقًا وعاجزًا عن التنفس نتيجة الضرب الشديد على معدته، في الوقت الذي كان أوفقير يشرب قهوته بهدوء، قبل أن يهب واقفا ليصفع بن بركة.

وفي آخر المطاف كان المهدي بن بركة جسدا دون روح عندما راح الدليمي يحشر إسفنجة مبللة بماء متسخ في فم المعارض المغربي، ولم تجد نفعا بعد ذلك محاولات الإنعاش التي أجراها ممرضون لإفاقة بن بركة، ومن ثم بدأت مشاورات الجنرالات المغاربة للتخلص من الجثة التي لم يعرف مكانها حتى الآن.

وهناك رواية أخرى يرويها أحمد بخاري أحد مساعدى أوفقير والدليمي وقد نشرتها جريدة الشرق الأوسط في عددها الصادر بتاريخ 30 يونيو عام 2001 وفيها يقول إنَّ “العملاء المغاربة وشركاءهم الفرنسيين ـ من الشرطة والمرتزقة ـ تم تكليفهم باختطاف بن بركة ونقله حيا إلى المغرب”. ولكن “خرج الوضع عن السيطرة في جنوب باريس».ففي فيلا فونتناي ـ لو فيكونت، حيث اقتيد بن بركة بعد أن أوقفه شرطيان فرنسيان أمام حانة في وسط باريس، وصل أحمد الدليمي في بداية السهرة «مما أدى الى تغيير المعطيات». فالرجلان كانا يعرفان بعضهما شخصيا ويكرهان بعضهما. وما إن دخل الدليمي إلى الصالة، شتم بن بركة وكاد أن يخنقه عندما بدأ بالصراخ، وتم تقييد بن بركة بناء على طلب الدليمي ثم قام ممرض بحقنه لكن الجرعة كانت قوية جدا فغاب بن بركة عن الوعي.

عندئذ انقسم العملاء المغاربة إلى فئتين، واحدة تزعمها محمد العشعاشي تعارض تعذيب بن بركة وتريد نقله حيا إلى المغرب، بينما الفئة الأخرى بزعامة الدليمي أرادت تصفية حسابها مع المعارض المغربي، لكن وصول الجنرال أوفقيرعند منتصف الليل “لم يضع حدا لتمادي مساعده، الذي أغضبه الصمت المطبق لبن بركة”. فقام الدليمي بتعليق بن بركة بحبل، وأوثق يديه خلف ظهره، بينما قام أوفقير بضرب بن بركة على صدره وظهره بخنجر مضلع.. واستمرت عملية التعذيب ساعة كاملة. وعندما قرر العشعاشي التدخل ودفع الدليمي لتحرير المهدي بن بركة، كان قد فارق الحياة، بحسب شهادة بخاري.

وقال بشير بن بركة، الذي يرأس معهد (المهدي بن بركة.. الذاكرة الحية) إن شهادة بخاري مثيرة للاهتمام لكونها المرة الأولى التي تأتي فيها المعلومات من داخل أجهزة الاستخبارات المغربية.

وفى كتاب “ذاكرة ملك” يتبرأ الملك الحسن الثاني تماما من قضية اغتيال بن بركة حتى أنه يمتدح الرجل فيقول للصحفي الفرنسي إيريك لوران عن المهدي “كان يفيض ذكاء ، كما كان ذا ثقافة واسعة وشخصية جذابة وطبع هائج”. ويقول أيضا “أتذكر عندما كنت وليا للعهد أنه كان يمكث فى منزلي إلى ما بعد الثانية صباحا. وكان صديقا طيب العشرة، أنيسا لبقا لا يشعر المرء معه بالملل”. ويسأله الصحفي الفرنسي: كيف علمتم بما حصل لابن بركة ؟ فيجيب الملك الراحل: عن طريق الصحافة. ثم يشير الملك صراحة إلى دور الجنرال أوفقير وكأنه بعيد تماما عن الحادث فيقول “إن بركة كان يعتبر أوفقير من صنع الجيش الفرنسي، فيما كان أوفقير يرى أن المهدي رجل خطير يلقى الكلام على عواهنه”. ويسأله الصحفي مباشرة: هل تعتقدون أن الجنرال أوفقير كان متورطا فى المؤامرة ؟ فيجيب الملك: أجل. ويسأل مرة أخرى: هل هو وحده الذي كان متورطا؛ فيرد: بكل تأكيد.

الملك الحسن الثاني
الملك الحسن الثاني

ومما سبق فإن هناك شبه إجماع حول تورط أوفقير في التخلص من حبيب الشعب المغربي، وقد يكون متورطا في ذلك مع آخرين ربما أشهرهم الجنرال أحمد الدليمي مدير الأمن العام والذى سيقوم بعد ذلك بقتل أوفقير بعد ثبوت مشاركته في محاولة الانقلاب على الملك فى 1972 ، ومن غرائب القدر أن الدليمي نفسه سيقتل بعد ذلك فى حادث غامض. أما المهدي بن بركة فسيصبح علما من رموز الوطنية المغربية وسيسمح الملك محمد السادس ملك المغرب بفتح تحقيقات موسعة في جرائم الأجهزة الأمنية خلال سنوات الرصاص، وسيسمح بعودة أسرة بن بركة من المنفى ويقوم بتكريمهم واطلاق اسم المعارض الشهير على واحد من أبرز شوارع العاصمة الرباط .

نهاية جلاد

لقد عُرف الملك الحسن الثاني كواحد من أبرز الساسة الدهاة فى العالم العربي، وقد استطاع بفضل حنكته السياسية الحفاظ على عرشه بالرغم من تعدد وتكرر محاولات الانقلاب ضده. ففى صيف 1971 هاجمت دوريتان من طلاب المدرسة العسكرية الملكية قصر الصخيرات الملكى يوم عيد ميلاد الملك الحسن وقتل المتمردون مئات الضيوف من الضباط والشخصيات السياسية العالمية وموظفى البلاط، وقد اختبأ الملك وقتها فى غرفة المغاسل واستطاع بفضل مجموعة من شباب الضباط السيطرة على الموقف وكان الجنرال مدبوح وراء الانقلاب وقد قتل 138 ضابطا وحكم على عشرة جنرالات كانوا ضالعين في الانقلاب بالإعدام، وقد تدخل أوفقير لدى الملك لمنع عمليات انتقام يتم تدبيرها من أسر المتمردين. كما تشير ميشيل فيتوسي في تعليق لها على كتاب السجينة أن أوفقير تدخل من أجل العفو عن 1081 من الطلاب العسكريين المتمردين وتم له ذلك كما تحكي مليكة أوفقير أن أباها التقى مينا ابنة الجنرال مدبوح الذى قتله شريكه في الانقلاب عبابو وقدم لها بعض المال وجواز سفر لتذهب إلى فرنسا  كما التقى ابن الجنرال حبيبى أحد الذين أعدموا في الانقلاب وقدم له مالا .

محمد أوفقير يقبل يد الملك الحسن الثاني
محمد أوفقير يقبل يد الملك الحسن الثاني

ولا شك أن حادث الصخيرات وما تبعه من إجراءات قمعية وجهت ضد الضباط خاصة أصدقاء أوفقير قد أججت الشك والريبة بينه وبين الحسن الثانى الذى على غير المنتظر منح أوفقير سلطات أوسع وسماه وزيرا للدفاع ورئيسا للأركان الجوية إلى جانب سيطرته على الشرطة والجيش.

وفي العام التالي، وتحديدا في 16 اغسطس عام 1972 وخلال عودة الملك الحسن من باريس فوجىء الملك بعدد من الطائرات المقاتلة تطلق النار على طائرته واشتعلت النار بالفعل فى بعض المحركات وهبطت الطائرة مشتعلة فى المطار بعجلة واحدة ونزل الملك سريعا والتقى بالوزراء المنتظرين له وأخبرهم بالمحاولة والتي كان لديه يقين أن مدبرها هذه المرة هو محمد أوفقير استنادا إلى كونه وزيرا للدفاع وهو الوحيد القادر على إصدار أوامر بخروج طائرة أو ذخيرة. وحاول أوفقير طبقا لرواية الملك في “ذاكرة ملك” أن يقضي تماما على الحسن فأمر المقاتلات المعتدية بالإقلاع مرة أخرى ونسف المطار، لكنه كان قد غادر المطار إلى قصر الصخيرات حيث استحم وصلى شكرا واستدعى أوفقير .

يقول الملك عن مساعده الجلاد “كنت أعرف أن الامر يتعلق بإنسان طموح، لكن لم يخطر ببالى أبدا أنه يمكن أن يدبر مخططا جهنميا يتمثل في اسقاط الطائرة التى كانت تقلني فوق البحر المتوسط، واستغلال الدستور بعد ذلك للإعلان عن مجلس وصاية وتنصيب ابني البالغ تسع سنوات على العرش”. ويقول أيضا عن “أوفقير” “أن يختار المرء رمي أشخاص مكبلي الأيدى والأرجل فى آبار مليئة بالأفاعى والعقارب فذلك شىء فظيع، لكن أن يقرر المرء إطلاق النار على طائرة فذاك أكثر فظاعة، لأن الإنسان إذا كان يجيد الخير ويحسن السباحة فهو لا يستطيع الطيران .”

وتحكى فاطمة أوفقير في لقاء مع سامي كليب أجرى عام 2007 أن زوجها اتصل بها بعد الحادث وقال لها لا تخشي شيئا وإن كنت خائفة اذهبي إلى منزل المحافظ أو اذهبي إلى منزل الكولونيل. وتضيف قائلة: لم أطمئن لحديثه، فقد شعرت أن هناك شيئا غريبا في صوته لم يُرِد قول شيء ربما لأن النهاية قد اقتربت أو أن أحدا كان يتنصت عليه، فقد كان ذاهبا إلى قيادة الأركان عندما اتصل بي ثم عاد إلى المنزل، وارتدى ملابسه وحرق الأوراق التي أراد حرقها وتناول طعامه وأصدر أوامره ثم غادر ببذلته الرسمية من دون سلاح ومن دون حرس شخصيين.

وتستمر شهادة زوجة أوفقير: في الصباح نحو الساعة الثامنة جاءني أحد السائقين ليقول لي مات الجنرال، أمسكت رأسي بين يدي، وبقيت جالسة على طرف السرير لعشر دقائق مطأطأة الرأس أفكر، لكن بماذا؟ حاولت وقلت إن هذا مستحيل، اتصلت بابنتي وببرودة من لم يصدق النبأ، قطعت كل الطريق حتى وصلت إلى الرباط من دون أن أصدق، شغلت المذياع وكانوا يبثون القران الكريم، حتى تلك اللحظة كان قد مضى على موته حوالي اثنتي عشر ساعة وأكثر ولم يكن أحد يعرف كيف مات، قال الجميع أن أوفقير قد انتحر وكانوا يبثون القران على المذياع .

أما شهادة ابنته مليكة التي كانت يومها في مدينة الدار البيضاء فتقول إن والدها اتصل بها مساء الحادث في الساعة السابعة وقال لها إنه يحبها بشدة وقال لها: لا تتركي المنزل قبل أن يأتى الحرس لمرافقتك. ثم حدثها جدها وطلب منها العودة إلى الرباط وفيما بعد تلقت اتصالا من أمها تخبرها أن أبيها مات وأن عليها أن تأتي .

إن الملك الحسن يشير الى أن أوفقير جاء الى قصر الصخيرات والتقى بوالدته التى صرخت فيه لماذا تفعلوا ذلك بابني؟، وهو ينفي التهمة ويتبرأ منها، ثم انتحر داخل القصر. وهذه الرواية بعيدة تماما عن الصحة لأن فاطمة زوجة الجنرال ومليكة ابنته تؤكدان أن جثة الجنرال كانت مصابة بخمس رصاصات واحدة في كبده وواحدة في رئتيه، وواحدة في بطنه وواحدة في ظهره وواحدة في رقبته ، ومن ينتحر لا يمكنه أن ينتحر بخمس رصاصات وليس بمقدروه الانتحار بإطلاق رصاصة على ظهره. كما أن أوفقير ذهب إلى قصر الصخيرات بدون سلاح لأنه يعلم أنها النهاية .

فاطمة أوفقير
فاطمة أوفقير

مأساة أسرة

وعاشت أسرة أوفقير مأساة انسانية قاسية بعد التخلص منه. لقد خرجت زوجته عن أعصابها عندما قالت في العزاء: لقد قتلوه. وقامت ابنته باخفاء بزته العسكرية التى قتل فيها وعندما بعث الملك يطلبها قالت له فاطمة أوفقير “لقد أحرقتها” وكان الملك يرغب في إخفاء اسم أوفقير من الوجود تماما، فقام بسجن فاطمة وأولادها الستة في منطقة نائية لأكثر من عشرين عاما نجحوا بعدها في الفرار من السجن بأعجوبة والسفر من المغرب. إن الملك الحسن الثانى يبرر ذلك في حديثه لـ”لوران ” بأنه كان يريد تأمينهم لأنهم لو ذهبوا الى أي مكان لرجمهم الناس حتى الموت لأنهم ابناء اوفقير”.

وتقول فاطمة أوفقير: مر أربعة أشهر وعشرة أيام وهي فترة الحداد بعد أربعة أيام من انتهاء الحداد تم نقلنا إلى الجنوب أي ألف وثمانمائة كيلومتر جنوب الرباط، أمضينا أربع وعشرين ساعة في السيارة حتى نصل، وعندما وصلنا كانت صدمتنا كبيرة كنا قد تركنا منزلنا ذي التدفئة المركزية وكل هذه الأشياء لنجد أنفسنا في قلب الجنوب في كوخ صغير لم يسكنه أحد منذ عشرين سنة مليء بالدبابير، بالعقارب، بالسحالي، وكل أنواع الأفاعي، وصلنا في منتصف الليل فوجدنا طاولة من الفورمايكا عليها تسعة صحون وتسع علب سردين ورغيف خبز كبير كانت صدمتي هي إنني جررت معي إلى مأساتي ستة أطفال أكبرهم كان في الثامنة عشرة وأصغرهم كان في الثالثة، كانوا صغارا جدا، وتركزت المأساة بعد أن تم سجننا هنا في الأيام الثلاث أو الأربع التالية إلى أن تقبلت ذلك الوضع وبعد ذلك تتابعت الأحداث ككرة ثلجية فدفنت حياتي الشخصية وتناسيتها ولم يكن عمري حينها سوى 36 عاما.

ثم تقول في حوارها مع سامى كليب: في البداية صمنا طوال سبع سنين ليس بسبب معتقداتنا الدينية، فما من ديانة تسمح للمرء أن يصوم سبع سنين متواصلة لكن بسبب ما كان مفروضا علينا، إذ لم يكن لدينا ما نأكله بين الرابع عشر من كانون الثاني عام 1980 حتى التاسع عشر من نيسان لعام 1987.

ويسألها ” كليب”: ماذا كنتم تأكلون؟

فتجيب: كنا نأكل كل اليوم القليل الذي كانوا يجلبونه لنا، كيف أصفه لك. كانوا يجلبون لنا ما يأكله شخص واحد فقير، ففي أسبوع واحد كانوا يجلبون طعام تسعة أشخاص ليوم واحد مثلا كانوا يجلبون لنا وعاء – عندما أقول وعاء أقصد وعاء الحساء الصغير- مليء بالعدس النيئ.

وتحكي فاطمة أوفقير قصة الهرب فتقول كانت عملية طويلة. بدأنا التفكير بخطة للهرب منذ اليوم الذي احتجزنا فيه في بير شديد وانتظرنا إلى أن نضجت الخطة، باختصار وضعنا الخطط قبل فترة طويلة وما إن علمنا أننا سنبقى محتجزين طوال حياتنا حتى بدأنا بحفر النفق، وبدأنا محاولتنا في غرفة لا يدخلها الضوء أبدا وكان ذلك أفضل بكثير، كنا مضطرين لاتباع نظام غذائي من دون الزيت إذ أننا كنا نستخدم الزيت القليل الذي كنا نحصل عليه يوميا، لتبليل قطنه نستخدمها كمصباح للإنارة، استمرينا في ذلك لثلاثة أشهر وخلالها لم نكن ننام لكن ليس بشكل متواصل إذ كنا نخضع للمراقبة ثلاثة أيام في الأسبوع أيام الاثنين والأربعاء والجمعة، وما أن يخرجوا من التفتيش كنا نبدأ الحفر أحيانا بعد خروجهم مباشرة من الباب، كنا نبدأ الحفر وبإخراج الأكياس ونكمل النفق، في آخر يوم قمنا بحفر الطريق للأعلى إذ كان علينا بداية حفر ثلاثة أمتار وحوالي 75 سم للنزول، وخمسة أمتار لنعبر ثم ثلاثة أمتار وخمسة وسبعين سنتيمتر للصعود ولم نكن قد حفرنا طريق الخروج، يوم الجمعة رأيتهم يستعدون لوضع غرفة مراقبة فوق زنزانتي فأصابنا عندها الذعر، فقررنا أن ننتهي من العمل بسرعة إذ علينا الخروج خلال الأربع والعشرين ساعة القادمة لذلك أسرعنا في حفر طريق الخروج فإن الحفر بهذه الوضعية يجعلك تتلقى الرمل في وجهك، الصغير فقط كان قادرا على المرور والحفر فقط كان يتمتع بمرونة من هم بسن الثامنة عشرة، كان يتلقى كل الرمل على وجه لكنه لم يشتك أبدا وخلال يومين خرجنا من السجن.

وتضيف قائلة: خرجنا في الليل وكان أول ما شاهده عبد اللطيف هو قطة صغيرة فأصيب بالذعر ورجع إلى الخلف، وقال لنا إن هناك شيئا مخيفا في الخارج فهو لم يكن قد رأى قطة في حياته فقد دخل الزنزانة وهو في الثالثة وفي الزنزانة لا ترى القطط كل يوم، وبما أننا لم نكن نأكل جيدا لم تكن القطط من بين جيراننا عاد فقلنا له إن هذه مجرد قطة ويمكنك الخروج وهكذا خرجوا هم الأربعة وبدأوا الهرب، إنها قصة مملة حقا تماما كما في الروايات.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock