عرض وترجمة: أحمد بركات
تسارعت وتيرة مراجعة الحكومة البريطانية لمواقفها إزاء الإسلاميين اللاعنفيين بصورة دراماتيكية في عام 2010 عندما وصل المحافظون إلى السلطة.
ففي خطاب مهم ألقاه بعد أشهر قليلة من توليه منصب رئيس وزراء بريطانيا، لخص ديفيد كاميرون بوضوح آراءه حول التعامل مع الإسلاميين اللاعنفيين:
يجب على الحكومات أن تكون أكثر ذكاء في التعامل مع الذين يشكلون في بعض الحالات – برغم عدم انتهاجهم العنف – جزءا أصيلا من المشكلة. علينا أن نفكر بمزيد من الصرامة بشأن من تفرض علينا المصلحة العامة العمل معهم. فبعض المنظمات التي تسعى إلى أن تقدم نفسها كبوابة للمجتمع الإسلامي تنهال عليها الأموال العامة، بينما لا تقدم الكثير على الإطلاق لمحاربة التطرف. وكما لاحظ كثيرون، فإن هذا يشبه التحول إلى حزب فاشي يميني لمقاومة حركة بيضاء عنصرية وعنيفة.
لذا يجب أن نحكم على هذه المنظمات بما يليق بها: هل تؤمن هذه المنظمات بحقوق الإنسان، بما في ذلك حقوق المرأة وحقوق الآخر الديني؟ هل تؤمن بأن الجميع متساوون أمام القانون؟ هل تؤمن بالديمقراطية وحق الشعوب في اختيار حكوماتها؟ هل تشجع الاندماج، أم تميل إلى الانفصال؟ تلك هي الأسئلة التي نحتاج إلى طرحها على أنفسنا.
في أعقاب ذلك، أوقفت حكومة كاميرون كافة أشكال التمويل للمنظمات الإسلاموية وألغت برامجها، وأقصتها عن أغلب الجهود التوعوية التي تبذلها الحكومة تجاه المجتمع المسلم في بريطانيا. وفي عام 2013، تعززت المخاوف الحكومية من هذه المنظمات على نحو أعمق، وذلك عندما برزت على السطح قصة مؤامرة مزعومة حاكها العديد من النشطاء في منطقة برمنجهام لشغل مناصب قيادية في المدارس المحلية، وتحويل هذه المدارس إلى منصات للفئات ذات الميول الإسلاموية من أجل إبراز أخلاقياتها. وعلى إثر ذلك، وجه كاميرون في العام التالي (2014) إلى إجراء مراجعة رفيعة المستوى تشمل جميع الجهات الحكومية لـ “فلسفة وأنشطة وتأثير جماعة الإخوان المسلمين، والسياسات الحكومية تجاهها، على المصالح الوطنية للمملكة المتحدة”، فيما يعد أول إجراء من نوعه في العالم الغربي ضد الإسلاموية اللاعنفية.
استمرت هذه المراجعات على مدى عدة أشهر، ولم تخل من جدل وصعوبات. وأسفرت في نهاية المطاف عن تقرير من مائتي صفحة تم رفعه إلى رئيس الوزراء. وبرغم أن هذا التقرير لم يُنشر بكامله لأنه يستند إلى معلومات سرية، إلا أن الحكومة البريطانية قامت، في ديسمبر 2015، بنشر ملخص واف لما توصل إليه من نتائج. وبصورة إجمالية، قدم التقرير تقييما سلبيا لأيديولوجيا جماعة الإخوان المسلمين، وأكد أنه “تتناقض أيديولوجيا جماعة الإخوان المسلمين في كثير من جوانبها، وطرق عملها، سواء داخل بريطانيا أو خارجها، مع قيمنا ومصالحنا الوطنية وأمننا القومي”.
بشكل أو بآخر توافقت جميع وكالات الاستخبارات في جميع أنحاء القارة الأوربية مع التقييمات التي توصلت إليها المراجعات البريطانية لأيديولوجيا وطرق عمل جماعة الإخوان المسلمين، والإسلاموية اللاعنفية بوجه عام. فعلى سبيل المثال، أدلت الاستخبارات النمساوية برأي سلبي في قضية منح اللجوء السياسي لأعضاء جماعة الإخوان المسلمين. وذكرت الوكالة أن أيديولوجيا الجماعة “تتناقض في جوهرها مع المفاهيم الديمقراطية الغربية للتعايش، والمساواة بين الرجل والمرأة، والنظام السياسي، والمبادئ المؤسسة لدستور جمهورية النمسا”.
وعلى المنوال نفسه، حذرت الاستخبارات الهولندية من أن المنظمات المرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين “تبدو متعاونة ومعتدلة في مواقفها من المجتمع الغربي … لكن هدفها النهائي – برغم عدم النص عليه صراحة – هو إنشاء كتلة إسلامية داخل أوربا الغربية، ثم العمل بعد ذلك على ترسيخها وتمديدها”.
ويمكن القول إن أكثر وجهات النظر “تشاؤما” في هذا السياق هي تلك التي تتبناها أجهزة الأمن الألمانية، سواء على المستوى الفيدرالي أو على مستوى الولايات. فبسبب تاريخها السياسي تمنح الحكومة الألمانية تفويضا عاما وواسعا للغاية حدد التشدد لأجهزتها الأمنية لمتابعة – بشكل لصيق – كافة الكيانات السياسية التي يمكن أن تعوق الحياة الديمقراطية في البلاد. وعند تبرير هذه الدينامية، سيقول المسئولون الألمان بصورة روتينية بحتة: “لقد استولى النازيون على السلطة بشكل ديمقراطي”. وتمتلك جميع الأجهزة الأمنية في ألمانيا بشكل صريح وحدات مخصصة لمراقبة الإسلاموية اللاعنفية. وتنتقد هذه الوحدات بشدة التأثيرات التي أحدثتها هذه الأيديولوجيا في المجتمع الألماني.
ويكثف تقرير صدر في عام 2005 عن “مكتب حماية الدستور” (وكالة استخبارات محلية فيدرالية في ألمانيا) المخاوف بشأن “الجماعات الإسلاموية القانونية” (وهي عبارة تستخدمها السلطات الألمانية للإشارة إلى الجماعات الإسلاموية التي لا تخرج أنشطتها عن الأطر القانونية المعمول بها في ألمانيا)، حيث يؤكد التقرير أن هذه الجماعات “تفرض تهديدا خاصا على التماسك الداخلي لمجتمعنا”. ويضيف: “من بين تهديدات أخرى، تستخدم هذه المنظمات مجموعة واسعة من الأنشطة التربوية الموجهة إسلامويا، خاصة مع الأطفال والمراهقين المنتمين إلى الأسر المهاجرة، لتعزيز إنشاء بيئة إسلاموية وتمديدها في ألمانيا. وتسير هذه المساعي في خط متعارض مع الجهود التي تبذلها الإدارة الفيدرالية وإدارات الولايات لدمج المهاجرين. كما يمكن أن تشكل هذه البيئات محضنا خصيبا لتفريخ مزيد من الفكر الراديكالي، وهو ما يمثل خطرا داهما على مجتمعنا”.
ويمضي تقرير صدر في عام 2018 عن أجهزة الأمن في ولاية شمال الراين – وستفاليا، وهي أكبر ولاية في ألمانيا من حيث عدد السكان، أبعد من ذلك، حيث يؤكد “على المدى الطويل، ستشكل التهديدات التي تفرضها الإسلاموية القانونية على النظام الديمقراطي خطرا أكبر من ذلك الناجم عن الأيديولوجيا الجهادية، حيث تتطلع الإسلاموية اللاعنفية إلى إنشاء نظام إسلاموي يسمح ببعض العناصر الديمقراطية. ولهذا السبب فإن تشدد هذه الجماعات يستعصي على الإدراك من الوهلة الأولى”.
لا شك أن هذه الآراء السلبية حول الإسلاميين اللاعنفيين التي تتبناها أجهزة الاستخبارات في معظم أنحاء القارة الأوربية تؤثر بعمق في السياسات الحكومية، لكن يبقى أنها لا تشكلها بالكامل في نهاية المطاف. فالمشرعون والبيروقراطيون على جميع المستويات – ناهيك عن منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام – لا يلزمون أنفسهم بحال بالنتائج التي توصلت إليها هذه التقارير ولا يعولون كثيرا على توصياتها، بل ويتبنون في الغالب أفكارا مغايرة حد التناقض. ومن ثم، فبرغم انتشار الآراء السلبية حول “الإسلاموية القانونية” في الأوساط الرسمية بصورة متزايدة، إلا أن دولة أوربية واحدة لم تتبن نهجا متماسكا لتحديد هوية التنظيمات الإسلامية – سواء في الداخل أو في الخارج – على وجه الدقة، وتقييمها، وتحديد موقفها منها.
يؤدي ذلك بلا شك إلى تناقضات عميقة في السياسات، ليس فقط بين دولة وأخرى، وإنما أيضا داخل الدولة الواحدة، حيث تتباين المواقف بين المؤسسات، بل وداخل المؤسسة الواحدة من إدارة إلى أخرى. فليس من غير المألوف – على سبيل المثال – داخل وكالة إنفاذ القانون أن تنظر وحدة التحقيق بعدائية شديدة إلى التنظيمات الإسلاموية، في الوقت الذي يتعامل فيه قسم الشئون المدنية داخل الوكالة نفسها مع هذه التنظيمات باعتبارها شريكا موثوقا به.
لورينزو فيدينو – مدير “برنامج التطرف” في جامعة جورج واشنطن
(يٌتبع)
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي وهوامش الدراسة باللغة الإنجليزية من هنا