“انا بمدح اللي يفوح المسك من قدمه”٫ بهذه الكلمات يتغني المنشد المصري الشهير الشيخ أحمد التوني وعلى انغام اغنيته التي يمدح فيها النبي الكريم يتمايل محبو المصطفى من بسطاء المصريين في حلقات الذكر وهم يصلون ويسلمون على محبوبهم.
تكشف كلمات الأغنية عن عشق من نوع فريد يكنه المصريون لنبي الإسلام؛ فهو كلٌّ مبارك طاهر من رأسه الى أخمص قدميه وعبقه لا يفوح من جسده الشريف فحسب بل يصل حتى أصغر أطرافه.
يمتاز حبنا نحن المصريين للنبي الكريم بميزة خاصة للغايه٫فالنبي حاضر في كل حوارتنا، في دعواتنا وفي عزائمنا٫ يستحلف باسمه بعضنا البعض ونطلب من الغضبان أن “يصلي عليه” حتى يهدأ ونعتبر اسمه حافظاً وحارساً لأطفالنا.
ويتجلى هذا العشق في أسمى معانيه في الفن الشعبي الذي صاغه المصريون٫ فالحبيب المصطفى حاضر أبداً في أذهانهم ولكنه حبيب بعيد٫ يلزم لزيارته السفر إلى أرض الحجاز.
وبالتالي ابدع المصريون عشرات الأغنيات المعبرة عن هذا الشوق اللامتناهي لزيارة الحبيب والتشرف بلمس أعتاب قبره وروضته المباركة٫ وهي الأغنيات التي ينشأ عليها الصغار لا سيما في ريف مصر حين تنشدهم امهاتهم:
“متى ازورك يا نبي
ياللي بلادك بعيدة”.
أما إذا نال المصري فرصة السفر لأداء فريضة الحج وهو ما يعني بالضرورة زيارة مدينة رسول الله (صلعم) فإن فرحته الشخصية بهذه الزياره تتحول إلى فرحة جماعية قد تشمل كافة أهل قريته حيث يسود شعور بأن هذا المحظوظ ينوب عنهم جميعاً في زيارة حبيبهم٫ ولذلك فليس من المستغرب أن تجد من بينهم من يطلب منه أن يقرأ النبي الكريم سلامه أو أن يدعو له في رحابه او حين يصل روضته.
ويتضمن الاحتفال بالحاج تزيين داره برسوم معبرة عن هذه الرحلة إلى أرض الحبيب وهي الرسوم التي تزين دور أغلب من أدوا فريضة الحج في ريف مصر.
وحتى وقت قريب كان الحاج يخرج في موكب مهيب محفوفاً بأهل قريته الذين ينشدون ما يعرف بأغاني “التحنين” وللاسم هنا دلالته٫ حيث يشعر أهل الحاج أن ذهابه إلى أرض المصطفى قد يغريه بالبقاء هناك في جواره الكريم؛ ولذا ينشدون هذه الاغنيات التي من شانها أن “تحنن” قلبه فيعود لأهله بعد انتهائه من أداء مراسم الحج.
ومن أمثلة أغاني التحنين التي يرددها الأهالي:
“بعيدة بعيدة
يا أرض الحبيب
بعيدة بعيدة
وإن أعطاني ربي
لاروحلك سعيدة”.
أما إن كان الحج من نصيب سيدة مصرية٫ فإن الاهالي يودعونها وكفوفهم تصفق وتضرب الدفوف وهم يرددون:
“رايحة فين يا حاجة يا ام شال قطيفة
“رايحة ازور النبي محمد والكعبة الشريفة”.
وكما يودع الحجاج بأغنيات فإنهم يستقبلونهم لدى عودتهم أيضاً بأغنيات تهنئهم بسلامة الوصول ونيل شرف زيارة المصطفى.
ولا تقتصر مظاهر العشق على الحج فقط وإنما تمتد الى كل ما له صلة بالنبي الكريم وفي مقدمتها بطبيعة الحال الاحتفال بذكرى مولده.
يخرج المصريون فرادى وجماعات للاحتفال بهذه المناسبة٫ وتتعدد فيها مظاهر البهجة من فنون تقديم الطعام المختلفة والتي برع فيها المصريون لا سيما فيما يتعلق بالحلويات المقدمة في ذلك اليوم أو الاستماع إلى الإنشاد وأشعار مديح النبي الكريم أو عشرات الالعاب المختلفه التي يستمتع بها الأطفال.
وفي حوار جمع كاتب هذه السطور بالكاتب الراحل ميلاد حنا٫ وصف الكاتب المخضرم احتفالات المولد النبوي بأنها مظهر من مظاهر الامتداد الحضاري على أرض مصر٫ حيث حول المصري أيقونات السيدة العذراء إلى “عروسه المولد” وحول أيقونة القديس ماري جرجس برمحه الطويل وحصانه الشهير إلى “حصان المولد” الذي يعتليه فارس يشهر سيفه.
أما المداحون الذين يجوبون قرى ومدن مصر من أقصاها إلى أقصاها فهم لسان حال المصريين وخير تعبير عنهم وهم يذوبون عشقاً كلما ذُكر النبي الكريم.
وهي المشاعر التي ترجمها “مداح الرسول” الراحل محمد الكحلاوي خير ترجمة وهو ينشد مردداً :
“حب الرسول يابا دوبني دوب
عن المعاصي يابا توبني توب
جاني فـ منامي يابا لبسني توب”.