رؤى

بطول التايم لاين وعرضه: تبدلات “الوقاحة الإلكترونية”

في فيلم (سلامة في خير)، نشاهد مشهد “خناقة” بين جارين كالتالي:

_ نجيب الريحاني بشخصية سلامة: أنت يا راجل يا عديم التمييز يا مجرد..

_ شرفنطح بشخصية الجار: هُس يا راجل يا طويل اللسان يا صفيق الوجه يا فاقد الحياء، يا فراش التيل والدبلان والبفتا السمرا يا تافه.. ويتصاعد الاحتدام..

_ يامعلم القاذورات ياكناسة أشاشة لمامة ورق الامتحانات، لتنتهي “الخناقة” ببيت شعر:

“لو كلُّ كلبٍ عوى ألقمتُه حجرًا                                  لأصبح الصخرُ مثقالاً بدينار”

وفي فيلم (لو كنت غني)، يسب بشارة واكيم ابنه كالتالي: يا متهتك، يا متبحح، يا قليل الأدب!! (دي خناقة ولا درس عربي لأولى ثانوي)، حقيقة أعجبت بالسمو اللغوي حتى في اختيار الشتائم، وتساءلت عن تلك الحقبة الزمنية الجميلة التي كان فيها السباب يأتي من المجمع اللغوي، وأي انحطاط لغوي واجتماعي وصلنا إليه من خشونة ألفاظ، ووقاحة تعبيرات، ليس فقط في اللغة الدارجة بل في أثناء أي نقاش (هو احنا ليه ما بنعملش دورنا في السلسلة الغذائية ونسكت خالص؟ ليه عندنا أفكار عجيبة وألفاظ متدنية؟ عمرك شفت غزالة بتشتم عشان بتدافع عن الاشتراكية؟ ولا فيل بيلقح بالبلدي وبيذكر الأعضاء التناسلية؟ إحنا ما لنا ياجماعة؟ لاء بجد مالنا، بقالنا قد إيه بنحاول نرفع مستوى الانحطاط ونحقق السمو الأخلاقي بتاع أفلام الأبيض والأسود وبنفشل فشل ذريع، وبرضه مصممين ننزل للقاع أكتر، ما خلاص يا إنسان يا حبيبي give up بقى،  give up واسكت خالص).

وبالحديث عن الوقاحة، فلطالما كانت موجودة، روائيون كبار مثل شكسبير وأوسكار وايلد ونجيب محفوظ وغيرهم، وظفوها في الأدب بشكل فني، إلاّ أن تحديد مصطلح “الوقاحة” يختلف عبر الثقافات والتاريخ، في مصر الملكية كان النبلاء يقبلون يد النساء مع الانحناء كتحية لقاء، ويصفوها ب”الهانم”، الآن هذا التصرف يندرج تحت “التحرش”، بل تحولت كلمة “هانم” من لفظ للتقدير إلى دلالة على بدء العد التنازلي لاشتباكات بالأيدي.

ومع امتداد تفاعلاتنا اليومية إلى البيئة الرقمية، يظهر المتصيدون، والكارهون، فخورين بتعليقاتهم الوقحة، والمهينة، والمتبجحة، أصبحت الوقاحة هي الطبيعة الجديدة لتلك المواقع، لا أبالغ بالوصف عندما ألقي نظرة على جدالات السوشيال ميديا لأجد الناس فاتحة “المطاوي” على بعضها البعض بطول التايملاين وعرضه، صراع ديوك كالوحوش الجارحة يلتهم بعضهم بعضا، وبنظرة إلى الوراء عبر تاريخ الحضارة في مصر، أتساءل هل السمو اللغوي فقط هو المهدد بالانهيار، هل الوقاحة في النقاش هي القاعدة؟ هل يجب أن يحصل كلاً منا على الكلمة الأخيرة الحاسمة؟ ولماذا لا نقبل الاختلاف ببساطة بدون ثقافة الإهانة الشخصية؟ لماذا أصبح النقاش الإليكتروني بعيد كل البعد عن الكياسة والذوق لدرجة تكاد تسمع طرقعة “السنجة” الافتراضية بين المستخدمين؟.

السوشيال ميديا وتطبيع الوقاحة

يؤكد العديد من الخبراء أن السوشيال ميديا ساهمت بشكل كبير في تطبيع الوقاحة والفجاجة الإليكترونية، في دراسة عن دور السخرية على مواقع التواصل الاجتماعي وعلاقتها بتصورات الجمهور للواقع، تم رصد دور الغوغائيين الرقميين في إحداث ضوضاء داخل البيئة الرقمية، حيث إنها بيئة خصبة للتصيد والوقاحة بجانب عامل إخفاء الهوية والافتقار إلى الجانب البصري في التواصل، فالغياب الجسدي للطرف الآخر قد ينسي البعض معنى التهذيب، فمن ينعت الناس بالشتائم ويهين كرامة الناس ردًا على جملة أو “بوست” هو في الأغلب نفسية فقيرة تستل رضاها عن نفسها بتحقير الناس من خلف الشاشات، قد يكون الشخص بالغ التهذيب في الحضور الجسدي المباشر، لكن ما إن يتمترس خلف الشاشة يستقيظ ابن آوى في داخله، فليس شرط تعرضك للوقاحة أن يحدث في لقاء أو حوار على أرض الواقع، قد يكرهك البعض بدون أن يروك، من طريقة ردّك على بوست، من عرضك لوجهك نظر شاذة عن تفكيرهم، من دفاعك عن ميولك السياسية، أو تفسيرك لبعض القضايا من منظور مختلف عنهم، من كسرك للنموذج المفترض أن تكون عليه، فاستخدام الوقاحة اللفظية يتناسب عكسيًا مع متانة الشخصية.

تبادل السباب عبر وسائل التواصل الاجتماعي
تبادل السباب عبر وسائل التواصل الاجتماعي

وتعتبر ظاهرة الذباب الإليكتروني هي تعميم لظاهرة “الجحشنة الإليكترونية”، وهو مصطلح يوصف حسابات اللجان والخلايا الإليكترونية، التي يزعم أنها تستخدم للتأثير على الرأي العام الإليكتروني عن طريق الاختراقات الإليكترونية والتضليل والهجوم والوقاحة، يعتمد مبدأ تشغيلها على نظرية دوامة الصمت، فحينما يدعم الذباب الإليكتروني لقضية أو شخصية، يميل الأفراد المعارضون لوجهة النظر إلى الصمت خوفًا من العزلة الاجتماعية أو التصيد الإليكتروني، الفجاجة هنا تواكبها عبثية تامة؛ مستوى العدوانية يوحي بأن أصحاب الحسابات الإليكترونية يتحرقون شوقًا للدفاع عن مشروع إنقاذي، ويذودون عن عرض الحقيقة، بينما الواقع أنه مستوى آخر من الانحطاط الفكري واللغوي لسب الأشخاص بلا هوادة، ردّا على كلام بلا أثر، علامات التصنيف كذلك مثل #سمعني_صياحك، #just_saying، وغيرها تشجع الناس على إلقاء الإهانات دون التفكير في العواقب، الحقيقة الواضحة أنه سجال يلحق الأذى بالمتلقي ويزيد مستوى بشاعة المجال الرقمي، ويتضح من خلاله العلاقة المتبادلة بين الإنسان والآلة ومنسوب “الجحشنة” الذي ترفعه التقنية الرقمية.

شتائم من الجميع وإلى الجميع

لماذا يوجد شيء اندفاعي داخلي للتبجح لدى البعض لا يمكنهم السيطرة عليه، هل يستحق البعض البلوك بعد الهجوم الشخصي المسيء و”التلقيح البلدي” على الفيسبوك؟ هل أنت مع فكرة إعطاء فرصة تاسعة للناس؟ أم أنك تفضل التعلم من الفرصة ال 126؟، بالطبع هناك أسباب عديدة للسلوك الوقح للبعض على السوشيال ميديا، كما يوضح داني والاس Danny Wallace مؤلف كتاب ” I Can’t Believe You Just Said That: The truth about why people are SO rude  الحقيقة الصادمة عن وقاحة البعض”، أن البعض يشعرون أن عليهم  مشاركة آرائهم حول كل شيء وعن أي شيء وفي جميع الأوقات، حتى إن كانت مدعومة بمعرفة شحيحة، وهو ما يسمح لهم أن يكونوا وقحين مع مستخدمين آخرين، من وجهة نظر والاس أن الناس تقدر الدبلوماسية ويريدوا أن يُعامَلوا باحترام وتقدير، ولهذا السبب تؤثر الوقاحة علينا نفسيًا، نشعر على الفور بالرفض والابتزاز، وعدم الاحترام، وغالبًا ما تؤدي هذه المشاعر إلى الانتقام، فالوقاحة قاتل غير مرئي ضاعفت السوشيال ميديا شعورنا به، وإذا تم أخذه بجدية كافيه لنرى تأثيره يمكننا حينئذٍ فهم نوع الوباء الجديد الذي نواجهه.

كتاب الحقيقة الصادمة عن وقاحة البعض
كتاب الحقيقة الصادمة عن وقاحة البعض

ليسترجع معظمنا آخر 24 ساعة مضت، سيظهر لك أن بعضنا وقع ضحية لردّ كريه، أو كان هو الفاعل، أو شاهد حوارا وقحا، أو سمع عنه، الشيء الوحيد المؤكد زيادة الوقاحة، قد تكون التكنولوجيا أو الأجواء الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، ساهمت في تدهور حال الأسرة المصرية، كالأجهزة المحمولة الذكية وسماعات الأذن التي عززت الانعزالية وساهمت في تعلم سلوكيات وقحة في ظل غياب الأخلاق المكتسبة من الأسرة، وأصبح يتم التعامل مع القضايا المهمة على أنها “خناقات شوارع” وسجالات مصاطب، بسبب أنصاف المتعلمين وأرباع المثقفين، والتنويريين المزيفين، و”كشط قعر حلة” العلمانيين، فنرى رئيس مثل (ماكرون) *اللي عامل فيها جان جاك روسو*، يختزل قضية هامة كحرية التعبير تم دفع أثمان فادحة فيها من حياة آلاف البشر على مدار عقود، لينحط بها لمستوى أن الدولة نفسها تتبنى نشر رسوم مسيئة على سبيل الوقاحة والفجاجة وكيد النسا، ليرتد هذا الانحطاط على قطعان التطرف الديني ويتوالى الصدام والاحتدام، وتوقع المزيد من الوقاحة والخشونة الجماعية.

شاهد تغريدات “ترامب” على تويتر لتعرف بنفسك كيف أصبحت الوقاحة أمرا مفروغا منه حتى لو صدر من رئيس دولة، أو رئيس وزراء أو رئيس نادٍ رياضي، يروج لنفسه من خلال البذاءة والوقاحة واستعراض مواهبه المحدودة للهجوم على المنافسين والأعداء، عبر فيديوهات تفيض بها مواقع التواصل الاجتماعي، مما يعني أن النخبة السياسية/ الرياضية/ الفنية، قد يثيرون عمدًا انتهاج الوقاحة لإثارة سيل الدعاية والتغطية الإعلامية حولهم وتعزيز الشهرة، وتعذية الرغبة في الأهمية.

ترامب على تويتر
ترامب على تويتر

أخيرًا أمام الكلام البذيء والمستفز، يجدر بنا تخيل أن الكلام اختفى وصداه انتفى وقائله انعدم، ثم التأمل كم يتغير العالم حينها، وإذا اتضح أن شيئًا لم يتغير وأن ما استفزنا لا وزن له بالواقع، سيسهل حينها تجاهله، بثنائية الكلب والقافلة الشهيرة، فأي شخص من حقه يقول رأيه، ومن حقنا نطلب منه إنه “مايحزقش” أوي، ومن حقه ما يستجبش لرأينا، الموضوع أن السوشيال ميديا خلقت الانتصار اللحظي والإحساس بالحسم، الناس بتسخن على بعض أكتر من اللازم، على مواضيع من ما فيش، بينما المواضيع الأولى بالغضب ماحدش بيقرب منها، حقيقة أجد الحديث عن ضبط النفس في أثناء الخلاف أسهل بكثير من فعله، لا يدركه إلّا أصحاب النفوس الراقية، لكن فقط تذكر أن مفتاح سير القافلة هو إدراك “كلبية” الكلب.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock