عرض وترجمة: أحمد بركات
في الوقت الذي تنهي فيه إدارة ترامب الوجود الأمريكي في العراق، وتحافظ على موطئ قدمها الأصغر في سوريا، يواصل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا “داعش” إعادة بناء نفسه. لا يمكن أن يكون توقيت حدوث ذلك أسوأ مما هو عليه الآن، حيث تعاني كلتا الدولتان من تفشي وباء كوفيد – 19 وزيادة حالة الضبابية السياسية والاقتصادية.
وبينما تقبع انتخابات الرئاسة الأمريكية على مسافة أيام قلائل، يتعين على المسئولين عن السياسة الخارجية الأمريكية الاشتباك بعمق ووعي مع قضية منع عودة تنظيم الدولة، بغض النظر عن هوية القادم إلى سدة البيت الأبيض، سواء كان دونالد ترامب أو جو بايدن. بالرغم من ذلك، من غير المرجح أن تحظى هذه القضية باهتمام أي من المرشحين، خاصة في الأشواط الأخيرة من الحملات الانتخابية. لكن الفشل في مواجهة هذا البعث الداعشي المتسارع سيؤدي حتما إلى آثار كارثية على جهود احتواء تنظيم الدولة ومنعه من تنفيذ هجمات متطورة على نطاق عالمي. كما سيقلب طاولة المكاسب والاستثمارات التي تم تحقيقها بشق الأنفس من قبل أعضاء “التحالف الدولي لهزيمة داعش”.
ويحذر المفتش العام بوزارة الدفاع الأمريكية من تصاعد هجمات تنظيم الدولة بسبب تراجع الضغوط المباشرة عليه. لكن الرئيس الأمريكي يواصل تمسكه بمقاربة ’قدم في الداخل وقدم في الخارج‘، وبعد إعلانه فعليا دحر الجماعة الإرهابية، فليس من المرجح اعتبار هذه التحذيرات بمنأى عن الأراضي الأمريكية في الداخل أو المصالح الأمريكية في الخارج.
وفي العراق، يواجه رئيس الوزراء المؤقت، مصطفى الكاظمي، العديد من المشكلات إضافة إلى عودة ظهور تنظيم الدولة. فمن الهجمات الصاروخية الدورية التي تشنها الميليشيات المدعومة إيرانيا، وانحسار الوجود الأمريكي والعمل الدبلوماسي إلى الزيادة المفزعة في أعداد حالات كوفيد – 19 وتداعيات الأزمة الاقتصادية وأزمة النفط العالمية واستمرار الاحتجاجات والاضطرابات السياسية، يواجه الاستقرار العراقي تهديدات لا حصر لها. وبالرغم من أن الوضع الراهن في العراق لا يتشابه في كثير مع ما كان عليه في عام 2012 – 2013 عندما ظهر تنظيم الدولة الإسلامية لأول مرة، إلا أنه ينطوي على مفاعيل ستؤدي حتما إلى بعث داعشي أكثر خطورة. وفي حال ترك هذه الأوضاع دون تصحيح أو ردع، فستخرج حتما عن السيطرة.
وفي سوريا، يواصل تنظيم الدولة عودة ظهوره في مناطق تم اعتبارها في السابق محررة سواء من قبل الجيش العربي السوري بقيادة الأسد أو القوات الديمقراطية السورية المدعومة من التحالف (SDF). وتزداد حدة البعث الداعشي المتنامي في ضوء تقارير تفيد عن عمليات تهريب للبشر من مراكز الاحتجاز التابعة لتنظيم لدولة، إلى جانب ضبابية الأوضاع بشأن ما يُتخذ من إجراءات حيال المعتقلين لدى قوات التنظيم وأسرهم، واستمرار الحرب الأهلية في سوريا، وتصارع المصالح الاستراتيجية للقوى الخارجية.
وبالرغم من احتمالية عدم قدرة تنظيم الدولة على شن هجمات أو عمليات متطورة خارج حدود العراق وسوريا، في الوقت الراهن على الأقل، إلا أن البيانات تُظهر اتساع نطاق وجوده، وزيادة أعداد هجماته في كلتا الدولتين. ويواصل تنظيم الدولة تقدمه في عمليات التجنيد عبر الإنترنت وتلقي تمويلات ضخمة، فضلا عن امتلاكه احتياطات تُقدربـ 50 مليون إلى 300 مليون دولار. وتفيد تقديرات صدرت مؤخرا عن الأمم المتحدة بأن تنظيم الدولة يمتلك أكثر من 10 آلاف مقاتل، في الوقت الذي تشير فيه تقديرات المفتش العام للبنتاجون إلى أن القوة البشرية للتنظيم تتراوح بين 14 ألف إلى 18 ألف مقاتل.
وبالرغم من أنه من غير المرجح تكرار الظروف التي أدت إلى النمو الهائل في حجم وإمكانات التنظيم في عام 2014، إلا أنه يتعين على التحالف التخلص من هذه الأزمة ما دام ذلك في استطاعته، لأن عودة ظهور تنظيم الدولة في العراق وسوريا – حتى ولو على مستوى منخفض – ستؤثر بشكل حاسم على مكاسبه ومصالحه الاستراتيجية في كلتا الدولتين. ولدرء ما يبدو تمردا متزايدا من قبل تنظيم الدولة، يتعين على الولايات المتحدة – بغض النظر عن الحزب الذي سيتولى السلطة – انتهاج سياسات جديدة تعيد توجيه دفة التركيز بعيدا عن الاقتصار على مواجهة إيران ودعم شركاء التحالف للاستثمار في المنطقة إلى زيادة الجهود لتعزيز دورالشركاء العراقيين والسوريين وتبني نهج ’الدبلوماسية أولا‘ والاستثمار فيه.
وبالنظر إلى الأدلة غير القابلة للشك التي تمخضت عنها الفترة الرئاسية الحالية، فإنه من غير المرجح أن يعيد الرئيس ترامب – في حال إعادة انتخابه – النظر في السياسات الأمريكية تجاه تنظيم الدولة. على الطرف الآخر، يؤيد المرشح الديمقراطي، جو بايدن، خفض الوجود العسكري والعمليات العسكرية الأمريكية في كل من العراق وسوريا إلى الحد الأدنى الذي يسمح بقتال فلول التنظيم وضمان عدم عودته.
الوضع الراهن للعبة: تنظيم الدولة الإسلامية في العراق
على مدى السنوات القليلة الماضية، عانت العراق من أزمة اقتصادية حادة، وتهالك البنية التحتية، وصعوبة في الوصول إلى الموارد لإعادة البناء في مرحلة ما بعد تنظيم الدولة، واستشراء الفساد الحكومي، وتصاعد حملة قتل وخطف ميليشياوية، وتفشي موجة شرسة من الإصابات بكوفيد – 19. وبدلا من العمل على تخفيف أعباء هذه الأزمات، فاقمت إدارة ترامب من حدتها.
قامت إدارة ترامب، بناء على طلب مستشار الأمن القومي السابق، جون بولتون، بإعادة توجيه دفة السياسة الأمريكية صوب العراق وتغليفها بسياستها المعارضة لإيران. جاء هذا على حساب استراتيجية مواجهة تنظيم الدولة، خاصة بعد أن أعلن رئيس الوزراء السابق، حيدر العبادي، في عام 2017 استعادة السيطرة على الأراضي العراقية التي كانت خاضعة لحكم تنظيم الدولة. كما قامت إدارة ترامب ايضا بتفكيك وتقويض الجهود الدبلوماسية في العراق، وسحب الدبلوماسيين وخبراء الإغاثة متذرعة بالتهديدات التي فرضتها العمليات الميليشياوية والهجمات الصاروخية.
كما مارست الولايات المتحدة حملة تصعيد مستمرة ضد إيران، ومن ثم ضد الميليشيات المدعومة إيرانيا في العراق، أولا عن طريق الانسحاب من “خطة العمل الشاملة المشتركة” (JCPOA) ثم من خلال زيادة ضغوطها على إيران وإجبارها على الدخول في دوامة التصعيد. وفي معرض الرد، شرعت إيران في اتخاذ إجراءات ضد الولايات المتحدة في أماكن أخرى، وتحديدا في العراق. ففي نهاية العام الماضي وبداية هذا العام، بلغت موجة التصعيد بين الولايات المتحدة وإيران ذروتها، مما دفع بالولايات المتحدة إلى الانتقام باغتيال قاسم سليماني، ومؤسس كتائب حزب الله (KH) أبو مهدي المهندس. ومنذ يناير الماضي، واصلت الميليشيات تصعيد هجماتها الصاروخية ضد المنشآت والمواقع الاستراتيجية الأمريكية بوتيرة ثابتة. وأدى التوتر إلى انتشار دعوات صادرة عن عراقيين تطالب الولايات المتحدة بمغادرة البلاد، وقام مجلس النواب العراقي بالفعل بإجراء اقتراع لمطالبة الولايات المتحدة بالانسحاب. وأطلقت جماعات موالية لإيران، مثل كتائب حزب الله، عشرات الصواريخ باتجاه المنطقة الخضراء وغيرها من المناطق المحتلة أمريكيا، بالرغم من إعلانها مؤخرا وقف إطلاق نار مشروط ضد الأهداف الأمريكية في العراق في حال تقديم الولايات المتحدة جدولا زمنيا للانسحاب.
بعد ذلك بوقت قصير، حل وباء كوفيد – 19 بالبلاد، وتوقف على إثره كل شيء في جميع أنحاء العالم تقريبا. فأوقفت الدول الشريكة في التحالف، بما في ذلك كندا وجمهورية التشيك وفرنسا والمملكة المتحدة ونيوزيلندا وإسبانيا والبرتغال وهولندا تدريب القوات العراقية، وسحبت قواتها من العراق. كما أوقفت الولايات المتحدة التدريبات قبل أن تستأنفها مجددا، بينما استمرت في عمليات تسليم قواعد عسكرية مثل التاجي وبسماية كما هو متفق عليه كجزء من الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والعراق. كانت هذه الاتفاقية قد وقعت في شهري يونيو وأغسطس الماضيين عندما أعلنت كلتا الدولتان التزامهما بمواصلة خفض أعداد القوات الأمريكية في العراق.
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي وهوامش الدراسة باللغة الإنجليزية من هنا
إليزابيث دينت – باحثة في “برنامج مكافحة الإرهاب والتطرف” التابع لـ “معهد الشرق الأوسط”، والمساعد الخاص السابق للمبعوث الرئاسي الخاص لـ “لتحالف الدولي لهزيمة داعش”