رؤى

انحاز للقضايا العربية ولحق الشعوب في الحرية.. وداعاً روبرت فيسك

“مهمة الصحفي هي أن يكون رقيباً على السلطة”، بهذه الكلمات البسيطة لخص الكاتب الصحفي البريطاني الراحل روبرت فيسك رؤيته لما ينبغي للصحفي أن يكون عليه؛ وأي دور يجب أن يؤديه، وهو الدور الذي جسده فيسك بعمله في منطقتنا العربية على مدار أكثر من أربعين عاماً غطى خلالها حروباً وصراعات، وشهد على ثورات شعبية ونقل صورة حية لما تعيشه شعوب المنطقة.

بدأت علاقة فيسك بالحروب التي بدا وكأن قدره أن يغطيها كمراسل صحفي، حتى قبل مولده حيث كان والده كما ذكر هو لاحقاً جندياً من جنود الإمبراطورية البريطانية التي كانت حينها “لا تغيب عنها الشمس”، هؤلاء الجنود الذين شاركوا في الحرب العالمية الأولى متصورين أنها حقاً كما وعدهم قادتهم السياسيين “حرب من أجل الحضارة” وأنها “الحرب التي ستنهي كل الحروب”.
سرعان ما أدرك الأب، وفقاً لرواية فيسك، عقب نهاية الحرب عام ١٩١٨ وعقب عودته إلى بلاده أن تلك الحرب لم تنه شيئاً بل على العكس فقد أسست نهايتها لصراعات جديدة لا سيما في المنطقة العربية؛ حيث قسمت دول أوروبا المنتصرة أراضي الدولة العثمانية ما بينها، وبدأت في زرع الكيان الصهيوني في أرض فلسطين وتفتيت المشرق العربي على أسس طائفية وعرقية.

شغلت هذه القضية ذهن الشاب فيسك حتى بعد حصوله على درجة الماجستير في الأدب الإنجليزي عام ١٩٦٨ فاتجه إلى العمل الصحفي، وكان قدره أن تكون مهمته الأولى كمراسل صحفي هي تغطية الوضع الملتهب حينها في أيرلندا الشمالية بداية من عام ١٩٧٢ لصالح  جريدة “ذا تايمز” البريطانية.
ومن أيرلندا الشمالية انتقل فيسك إلى منطقة كانت تعيش وضعاً مشابهاً هي المنطقة العربية، حيث كانت محطته الأولى هي لبنان التي وصلها عام ١٩٧٦ بينما كانت تمزقها رحى الحرب الأهلية التي بدأت قبل ذلك بعام، وبدا وكأن العالم العربي برمته قد قرر تصفية خلافاته السياسية على تلك البقعة من الأرض.
على مدار سنوات (١٩٧٦-١٩٩٠) تمكن فيسك من تقديم صورة حية لتلك الحرب بكل بشاعتها، وبكافة مجازرها وجرائمها من عين الرمانة إلى الدامور، ومن تل الزعتر إلى صابرا وشاتيلا، ومن التدخل السوري عام ١٩٧٦ إلى الاجتياح الصهيوني عام ١٩٨٢ ونقلها للقارئ الأجنبي بكل أمانة.

تميزت تغطية فيسك الإخبارية عن بقية أقرانه من الصحفيين الأجانب المتمركزين في المنطقة العربية بانحياز واضح لصالح الضحايا سواء كانوا من الفلسطينيين أو اللبنانيين أو غير ذلك، كما غابت عن تقارير فيسك الإخبارية نبرة التعالي على العرب التي يلحظها المرء لدى مراسلين غربيين آخرين.
ومن لبنان انطلق فيسك ليغطي أكثر من حدث هز المنطقة مثل الثورة الإيرانية عام ١٩٧٩ والحرب العراقية – الإيرانية التي بدأت بعد ذلك بعام وحرب الخليج عام ١٩٩١، ومجزرة قانا في جنوب لبنان عام ١٩٩٦ ثم تحرير الجنوب عام ٢٠٠٠ وغيرها من الأحداث الجسام.

أكسبته هذه التغطية مصداقية جعلته من الصحفيين الأجانب المعدودين للغاية الذين حظوا بفرصة لقاء وإجراء حوار مع أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة، وهو الحوار الذي أحدث دوياً واسعاً في وسائل الإعلام الغربية.
وعلى صعيد مواقفه السياسية كانت مواقف فيسك واضحة وضوح تقاريره الصحفية، حيث كان في مقدمة المعارضين لغزو العراق عام ٢٠٠٣ الذي شاركت فيه حكومة بلاده وعرف بانتقاده على عكس كثير من زملائه لسياسات الدولة الصهيونية، وكشف خلال تغطيته لمجزرة قانا عام ١٩٩٦ عن تعمد الطيران الصهيوني قصف أهداف مدنية في جنوب لبنان في مقدمتها سيارة إسعاف، وفي ذروة الأزمة التي أشعلتها الرسوم الساخرة التي نشرتها جريدة دنماركية وأساءت إلى النبي الكريم قال فيسك في مقال بعثه من بيروت حيث كان يقيم إن مشاعر المسلمين الغاضبة مبررة تماماً، رافضاً الدفاع الأوروبي عن الرسوم المسيئة تحت مسمى “حرية التعبير”.

كما تميزت تغطية فيسك لأحداث ما عرف لاحقاً باسم الربيع العربي أو الانتفاضات الشعبية العربية بداية من عام ٢٠١١ بإدانة صريحة لدعم الحكومات الغربية لاسيما الولايات المتحدة وبريطانيا للأنظمة الديكتاتوريه العربية، التي انتفضت الشعوب ضدها.
أكسبت هذه المواقف فيسك سخط اليمين الأمريكي والأوروبي والدولة الصهيونية بطبيعة الحال، ولكنها في الوقت ذاته منحته احترام الشعوب العربية التي اعتبرته صديقاً مدافعاً عن الحق العربي وبكته يوم رحيله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock