رؤى

جماعات فرض الوصاية على الناس: الإكراه بزعم المحبة

من أطرف وربما أسوأ المقولات التي يستخدمها المتزمتون في مجتمعاتنا العربية لتبرير رغبتهم في إكراه الآخرين على اعتناق معتقداتهم الشخصية أو رفض ان يخرج أي فرد عن إطار هذه المعتقدات٫ هي أنهم ببساطة يخشون على هذا الفرد وأنهم يريدون أن يحموا هذا الإنسان من مصير مظلم في العالم الآخر.

وبالتالي فإن هذه الرغبة في “إنقاذ” الاخرين من جحيم الآخرة هي ما يدفعهم لفرض ما يؤمنون به عليهم بل وإلزامهم به٫ حيث إن هذا٫ وفقاً لمنطقهم٫ هو الطريق إلى الخلاص والنعيم في الآخرة.

من الطريف حقاً أن من يستبيحون دماء الاخرين يبدون هذا القدر من الاهتمام بمصيرهم٫ بل ويبررون عنفهم الدموي برحمة مصطنعة.

ولكن الأهم أن تهافت هذا المنطق يتضح حين يتأمل المرء سيرة النبي الكريم الذي لا يكف المتزمتون عن ذكر اسمه صباح مساء دون استدعاء من جانبهم لسيرته وكيفية تعامله مع الآخرين.

كان النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) يكن حباً عميقاً لعمه ابو طالب الذي آواه واحتضنه صغيراً والذي نصره وحماه كبيراً٫ إلا أن هذا العم وبالرغم من نصرته لابن أخيه ولدعوته لم يعتنق دينه بل ظل على معتقداته السابقة على نزول الوحي.

لم يسعَ النبي الكريم إلى فرض دينه الجديد على عمه تحت أي مسمى٫ سواء كان “الحب” أو غير ذلك٫ لإدراك النبي التام أن الخالق تعالى الذي أرسله بالحق لا يرضى أن يساق الناس إليه مكرهين مرغمين على غير إرادتهم٫ وهو ما أوضحه الخطاب القراني بنص قاطع : “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ” (البقره -٢٥٦)

لم يتبع النبي مع عمه أي سبيل سوى الدعوة٫ تلك التي أمره الخالق في نص الوحي الذي كان يتنزل عليه أن تكون ب “الحكمة والموعظة الحسنة”.

وحين كان العم على فراش مرضه٫ سعى النبي الكريم مرة أخرى إلى اقناعه باعتناق دينه قبل أن يرحل عن هذا العالم٫ لكن لم يتوعده بجحيم ينتظره في العالم الآخر كما يحلو للبعض أن يفعل.

رحل العم دون أن يعتنق دين ابن اخيه الذي بادله حباً بحب على مدار أربعين عاماً وأكثر٫ بكاه النبي الكريم حتى واساه ربه بآية قرآنية اخرى: “إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين” (القصص-٥٦).

إن فكرة فرض أي معتقد على أي شخص تحت مسمى الحرص على هذا الشخص هي فكره رفضها النبي الكريم شكلاً وموضوعاً كما تؤكد سيرته٫ والحقيقه أنها لا تعبر عن أي واجب شرعي كما يحاول البعض أن يصور بقدر ما تعبر عن عقلية فاشية لا تتقبل الاختلاف ولا تحتمل أن يغرد الفرد خارج السرب أو أن ينهج نهجاً مغايراً لمجتمعه.

والأهم من هذا أن أصحاب هذا المنطق يعتبرون أنفسهم مسؤولين عن محاسبة الأفراد وهو الحق الذي اختص الخالق تعالى نفسه به دون أحد من خلقه “إن الينا إيابهم٫ ثم علينا حسابهم” (الغاشية ٢٦-٢٧).

ويوجه الخطاب القرآني النبي الكريم بشكل واضح أن وظيفته هي إبلاغ الرسالة لا أكثر “فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ٫لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ” (الغاشيه ٢١-٢٢).

وبالتالي فإن تصور البعض أنهم يمسكون بمفاتيح الجحيم والفردوس وأن واجباً يقع على عاتقهم ل”إنقاذ” الأفراد من العذاب هو تصور لا ينكره المنطق فحسب بل ينكره أيضاً كلٌّ من الخطاب القرآني وسنة النبي الكريم الذي بُعث بهذا الكتاب إلى العالم هادياً.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock