رؤى

الحجاب بين الحشمة والخصوصية والمقاومة

بدأ العام الدراسي الجديد وتفجرت معه مجددا تلك القضية المتعلقة بإجبار تلميذات المدارس الإعدادية والثانوية على ارتداء غطاء للرأس «الحجاب» بوصفه قطعة من الزي المدرسي ببعض المدارس العامة والخاصة، ومع رفض بعض الفتيات وأولياء أمورهن لذلك القرار «غير الرسمي» وتصاعد الخلاف، توجه بعض أولياء الأمور إلى الإدارات التعليمية لتقديم شكوى ضد مسئولي تلك المدارس وناشد المجلس القومي للمرأة وزير التربية والتعليم الدكتور طارق شوقي بالتدخل لحل تلك الأزمة، ومن جانبها أكدت الإدارات التعليمية على أن «الحجاب» لا يعد جزءاً من الزي المدرسي وأنه لا يجب فرضه على تلميذات المدارس بأي حال من الأحوال.

تُرى لماذا عاد «الحجاب» ليصبح قضية مثيرة للجدل ولماذا باتت آلية الفرض والإجبار مطروحة بعد أن كان «الحجاب» ظاهرة ترتبط بالإقناع والتقليد والمسايرة فيما يشبه «الموضة»؟

الدكتورة فدوى الجندي الباحثة في مجال علم الأنثربولوجي والمتخصصة في دراسات الإسلام السياسي ومخرجة الأفلام الأثنوغرافية في كتابها المعنون: «الحجاب بين الحشمة والخصوصية والمقاومة» الذي نقلته إلى العربية الدكتورة سهام عبد السلام تتناول قضية «الحجاب» بوصفها ظاهرة اجتماعية مركبة تقع عند التقاء مفارق الطرق بين الملبس والجسد والثقافة، كما تطرح قضية «الحجاب» في الثقافة العربية المعاصرة كظاهرة تدور حول الهوية والخصوصية أكثر من كونها ظاهرة تنشغل بالحشمة والعزل كما دأب بعض الباحثين على تفسيرها.

الحجاب بين الحشمة والخصوصية والمقاومة
الحجاب بين الحشمة والخصوصية والمقاومة

الحجاب كحركة إجتماعية:

اعتمدت الحركة الإسلامية التي بزغ ضوءها مع منتصف سبعينيات القرن الماضي في مصر في تمييز نفسها على عدد من الرموز والطقوس، وقد لعب الملبس دوراً مفصليا في عملية التمايز تلك، حيث انتشر الحجاب داخل الجامعات المصرية والأمهات اللاتي اعترضن في البداية على ارتداء بناتهن للحجاب عدن وارتدينه وبات الزي «الإسلامي» الجديد ينتشر بشوارع القاهرة حتى أصبح جزءاً من نسيجها ومن ثم انتقل من القاهرة لباقي المحافظات ليسود أرجاء مصر.

الحجاب صار أداة تمييز لهوية النساء المصريات فمن صارت «محجبة» فقد أصبحت «متدينة» ومن ثم أصبحت تنتمي لعالم «المتدينين» الذي يشار داخله إلى أعضائه بلقب جديد «الأخت .. الأخ» ولا يمكن هنا الإشارة إلى أن حالة من الإجبار قد مُورست على أعضاء عالم «المتدينين» بل على العكس من ذلك حيث اعتمد هذا العالم على آلية «الإقناع» والإلحاح المستمر والتحفيز.

أثارت ظاهرة الحجاب مع بدايتها العديد من التساؤلات وانتابت الحيرة الكثير من الملاحظين للمشهد المصري بشأن طالبات الجامعة «المحجبات»، فبادر البعض بالتكهن بأسباب الظاهرة بوصفها أزمة هوية أدت إلى ظهور النسخة المصرية من حركة الهييبز الأمريكية، ورأى فيها البعض بدعة من بدع احتجاجات الشباب، وتناولها البعض بوصفها فراغ أيديولوجي أو تخلخل اجتماعي أو احتجاج على السلطة.

سخر البعض من الظاهرة الجديدة: «هؤلاء النساء يغطين شعرهن لأنهن لا يملكن تكلفة الذهاب إلى مصفف الشعر!» أو «إنهن يتحجبن ليخفين دمامتهن» غير أن تعبيرات السخرية تلك لم تغير من واقع الأمر المتعلق بتمدد الظاهرة وشيوعها.

بعض الباحثين في مجال علم الاجتماع أعادوا بداية انتشار ظاهرة الحجاب بالجامعات المصرية إلى الأصول الإجتماعية الريفية لغالبية الطالبات اللاتي قدمن من المناطق الريفية للالتحاق بالجامعات بالمناطق الحضرية، فما كان منهن إلا أن احتمين بالعودة للدين كسلوى تدعمهن في مواجهة تلك الصدمة الناجمة عن نمط حياة المدينة المختلف جذريا عن حياة الريف؛ والتخلخل الاجتماعي الإقتصادي الذي أبرز الفارق الرهيب بين الريف والحضر.

الحجاب في الجامعات
الحجاب في الجامعات

لفتت دكتور فدوى الجندي النظر لدراسة «ماكلويد» التي أجرتها عام 1993 على خمس وثمانين من نساء الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى بمصر واللاتي كن يعملن بمجال الأعمال الكتابية بعدد من أحياء القاهرة والتي صاغت فيها حجة تتعلق بتعرض هؤلاء النساء لمأزق مزدوج واجهن فيه خيارين لتصف سبب إنتشار الحجاب بينهن، مشيرة إلى أن حجة هذه الشريحة الإجتماعية كانت تتعلق بحاجتهن للعمل لأسباب إقتصادية، ذلك أن المجتمع حين ذاك كان يعارض عمل النساء، ما أجبرهن على ارتداء الحجاب كوسيلة لقبول خروجهن للعمل.

غير أن الدكتورة فدوى الجندي قد حرصت على الإشارة إلى أن تلك النتائج التي خرجت بها بعض الدراسات الاجتماعية حول الانتماء الطبقي وعلاقته بظاهرة الحجاب غير كافية في حد ذاتها لتفسير سبب إنتشار الظاهرة، فالحجاب لم يعد قاصراً على ذوات الأصول الريفية أو أبناء الطبقة الوسطى بل أنه وصل حد الإنتشار بالفئات العليا فبعض طالبات الجامعة الأمريكية بالقاهرة  يرتدين الحجاب مثلهم في ذلك مثل مختلف طالبات الجامعات المصرية بمختلف أقاليم مصر.

بهذا السياق انتقدت دكتور فدوى دراسة «ماكلويد» وتساءلت عما إذا كان سبب ارتداء الحجاب لهذه الشريحة الاجتماعية من نساء الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى يعود للحاجة للعمل، فما هى حجة نساء الطبقات العليا اللاتي لا يتعرضن لضغط الحاجة للخروج للعمل؟!

والأمر هنا لا يقتصر على النساء، فماذا عن الرجال الذين انخرطوا داخل عالم التدين ومن ثم التحقوا بركب الحركة المرتبطة بدرجات متفاوتة بحركة الإسلام السياسي؟

الدولة وتصاعد ظاهرة الحجاب: 

مع تصاعد حركة الإسلام السياسي في مصر وزيادة مظاهر التشدد الديني وانتشار ظاهرة الحجاب سعى وزير التربية والتعليم  دكتور حسين كامل بهاء الدين عام 1993 إلى مناهضة انتشار تلك المظاهر المتعلقة بأنشطة الإسلام السياسي وذلك عبر فرض عدد من التغييرات المتعلقة بتغيير المنهج الدراسي، ونقل المعلمات والمعلمين من ذوات وذوي النشاط التابع لجماعات الإسلام السياسي مع محاولة فرض القيد على ارتداء الحجاب بالمؤسسات التعليمية، غير أن المحاكم قد أسقطت حظراً فرض على ارتداء الحجاب بالجامعات.

 دكتور حسين كامل بهاء الدين
دكتور حسين كامل بهاء الدين

بحلول عام 1994 بُذلت محاولة للحد من ارتداء الحجاب بالمدارس وقصره على الطالبات اللاتي يسمح أولياء أمورهن بذلك، غير أن هذه المحاولة لاقت نقدا شديدا من قبل أنصار الإسلام السياسي والتابعين له، ما دعا وزير التربية والتعليم إلى التراجع بعض الشيىء، وهو ما سمح بانتشار ظاهرة فرض الحجاب على تلميذات المدارس وإن كان ذلك يتم بشكل غير رسمي حيث مازالت الإدارات التعليمية تؤكد على أن الحجاب لا يعد جزءاً من الزي المدرسي.

على أي حال مازالت الفرصة مواتية أمام الباحثات والباحثين وبصفة خاصة المنتمين لإتجاه النسوية الإسلامية لإجراء دراسات معمقة حول ظاهرة الحجاب؛ والأبعاد الاجتماعية المرتبطة بها، وهل مازالت تمثل حالة من تمييز الهوية؟ ولماذا تخلى بعض الداعين إلى ارتداء الحجاب عن آلية الإقناع والتحفيز التي اعتادوا عليها وامعنوا في استخدام آلية الإجبار والنبذ الإجتماعي على غير ما عهده المجتمع المصري؟!

تساؤلات عدة مازالت في حاجة إلى من يجيب عليها من الباحثات والباحثين المتخصصين.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock