عرض وترجمة: أحمد بركات
بينما توجد قواسم مشتركة على مستوى القارة الأوربية بشأن الإسلاموية اللاعنفية، إلا أن الجدل داخل كل دولة يحتفظ بدينامياته الخاصة ووحدته المغايرة.
رغم ذلك، تظل الإسلاموية وتأثيراتها على المجتمعات محل نقاش حيوي ومتزايد في جميع دول أوربا، وعلى طرف النقيض تقف الولايات المتحدة الأمريكية، حيث لا يوجد أي اهتمام بالإسلاموية المحلية، على الأقل عندما يتعلق الأمر بالتيار السائد. لقد كانت الإسلاموية العنيفة في قلب اهتمامات الولايات المتحدة منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتجددت طاقة هذا الاهتمام مع وصول تنظيم الدولة الإسلامية إليها. ومع ذلك – ومع التأكيد على وجود استثناءات قليلة – يتراوح الاهتمام بمتابعة الشبكات الإسلاموية اللاعنفية داخل البلاد وتحليل أنشطتها في دوائر السياسة وإنفاذ القانون والإعلام بين قليل إلى معدوم.
من المؤكد تماما أن أمريكا تناقش الإسلاموية وتعنى بتطورها، إلا أن هذا لا يحدث في الغالب إلا خارج حدودها فقط. وقد بلغ هذا النقاش ذروته في السنوات الأولى من اندلاع ثورات الربيع العربي، عندما وجدت إدارة أوباما والمستشارون في واشنطن أنفسهم في مواجهة صعود مفاجئ للقوى الإسلاموية إلى سدة الحكم في مصر وتونس ودول عربية أخرى. لكن هذا الجدل لم يعترف بوجود شبكات إسلاموية في الداخل الأمريكي.
علاوة على ذلك، تضع المخاوف الأمريكية من الإسلاموية نفسها في إطار المنظور الأمني فقط، وليس أدل على ذلك من أن الفترة بين عامي 2014 و2017 قد شهدت تقديم خمسة مشاريع قوانين منفصلة في الكونجرس الأمريكي لتصنيف جماعة الإخوان المسلمين كجماعة إرهابية، إلا أن أيا من هذه القوانين لم يحظ بدعم خارج دوائر الجمهوريين، ولم يحقق أي منها تقدما يذكر على المستوى التشريعي. وعلى نفس المنوال، أعلنت إدارة الرئيس دونالد ترمب في مايو 2019 أنها بصدد بحث تصنيف محتمل لجماعة الإخوان المسلمين، ولكنها لم تحقق أي تقدم ملموس في هذا الاتجاه.
وفي أوربا، من الناحية الأخرى، ورغم عدم تجاهل الجوانب الأمنية المحتملة للإسلاموية غير العنيفة، لم تصنف أي دولة – أو حتى تناقش على نحو ملموس – فكرة تصنيف جماعة الإخوان المسلمين والجماعات المماثلة باعتبارها جماعات إرهابية. إذ يبقى التصور العام لدى الأوربيين أن هذه الجماعات – برغم لجوئها إلى العنف في بعض الأحيان – لا تشكل تهديدا أمنيا مباشرا على الغرب. ومع ذلك، فهي تشكل في الوقت نفسه تحديا سياسيا واجتماعيا لمجتمعاته.
تنحصر المخاوف من التأثير الاجتماعي للإسلاموية في الولايات المتحدة إلى حد كبير في مجموعتين؛ تتمثل الأولى بالأساس في دائرة محدودة نسبيا تضم عددا من مراكز الفكر والنشطاء الذين جعلوا من الكشف عن الأنشطة الإسلاموية داخل الولايات المتحدة مهمة أساسية لنشاطاتهم. ويتهم بعض المحللين والمنتقدين هذه الشبكة غير الرسمية بالتعصب والوقوع تحت تأثير الإسلاموفوبيا.
كما يؤكدون أن هؤلاء النشطاء يسعون إلى فرض قيود سياسية على الأصوات المسلمة النشطة على نحو غير عادل من أجل تعزيز أجندة يمينية موالية لإسرائيل. في بعض الحالات، يكون هذا الاتهام بالتطرف والتعامل على أسس إسلاموفوبية – أي انتقاد الإسلام والمسلمين ككل على نحو غير موضوعي – عادلا وفي محله. فعلى سبيل المثال، اتهمت الأصوات الأكثر تطرفاً في هذه الدائرة فعليا كل ناشط أمريكي بارز، أو مسئول حكومي رفيع المستوى، ينتمي إلى خلفية إسلامية بأنه إسلامي منغلق. ووسع البعض دائرة الاتهام حتى طالت الرئيس أوباما.
لكن، في حالات أخرى يكون هذا الاتهام غير منصف وفي غير موضعه. كما يمكن القول إن توزيع الاتهامات بالإسلاموفوبيا يؤدي حتما إلى قمع مخاوف مشروعة تتعلق بأصول إسلاموية لا سبيل إلى إنكارها، وميول لدى بعض النشطاء والمنظمات المسلمة البارزة داخل الولايات المتحدة.
وبغض النظر عن مكمن الحقيقة في هذا الجدل، يبدو أن هؤلاء المنتقدين قلما يحظون بأي قدر من الجاذبية في الجدل الإعلامي والسياسات السائدة.
وحتى برغم نجاح بعضهم في الحصول على عدد من المناصب في إدارة الرئيس دونالد ترمب، إلا أن تأثيرهم يبقى محدودا وغير لافت.
أما المجموعة الثانية التي تستثير الإسلاموية قلقها بقوة فتتألف من شرائح عرضية كبرى من المسلمين الأمريكيين. فكثير من المسلمين الأمريكيين الوطنيين أو العلمانيينن – بما في ذلك السُنة المحافظين والجماعات المسلمة التي تشكل أقلية، مثل الصوفيين والأحمديين – يساورهم قلق بالغ حيال تأثير الشبكات الإسلاموية على الإسلام في الولايات المتحدة الأمريكية. في الحقيقة، لا تنبع أغلب هذه المخاوف من الراديكالية الجهادية، وإنما من التأثير العميق للشبكات الإسلاموية اللاعنفية في الأنشطة الاجتماعية والدينية على المستوى القاعدي، إضافة إلى النظر إلى الإسلاميين باعتبارهم ممثلين مجتمعيين مُنصبين ذاتيا عن المسلمين الأمريكيين. لكن، تبقى هذه الآراء الناقدة الصادرة عن المسلمين الأمريكيين هامشية، فضلا عن أنها تميل إلى عدم التنظيم وتفتقر إلى قدرات التعبئة والموارد التي تمتلكها الجماعات التي يسيطر عليها الإسلاميون.
هناك – في حقيقة الأمر– فجوة عبر أطلسية واضحة تتعلق بتناول الإسلاموية. فمع وجود استثناءات قليلة، لا تشعر الولايات المتحدة بأي قلق حيال الإسلاميين، ولا تتحدث عنهم على غرار ما يحدث في القارة الأوربية على الشاطئ الآخر من الأطلسي. يمكن تفسير ذلك في ضوء عوامل مختلفة ومتداخلة. فمن الناحية التاريخية وحتى اليوم لم تواجه الولايات المتحدة نفس التحدي من الإسلاموية المحلية، في صورتيها العنفية واللاعنفية، الذي واجهه معظم نظرائها الأوربيين. ومع ذلك، لم تكن صورتا الإسلاموية غائتين عن المشهد الأمريكي.
لقد نشط الأفراد والشبكات اللذان يتبنيان الأيديولوجيا الإسلاموية منذ بلوغ الحركة الجهادية ذروتها في الغرب، بدءا من حفنة من الأمريكيين الذين انضموا إلى الجهاديين في حربهم ضد السوفيت في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي، ووصولا إلى خلية نيوحيرسي / بروكلين التي كانت تدور في فلك “الشيخ الكفيف” عمر بن عبد الرحمن وخططت لشن هجمات في نيويورك في بداية التسعينيات. وبمرور الوقت تعمقت هذه الظاهرة، وتفاقمت بشكل ملحوظ في العقد الأخير، حيث ألقى مكتب التحقيقات الفيدرالي القبض على حوالي 200 فرد لقيامهم بأنشطة مرتبطة بتنظيم الدولة الإسلامية، وغادر عدد مشابه إلى سوريا والعراق للقتال مع التنظيم. وبرغم أن هذه الأعداد تبدو قليلة عند مقارنتها بمستويات الراديكالية والتعبئة في بعض البلدان الأوربية، إلا أنها لا تزال مقلقة للغاية. ربما تراجعت ظاهرة الجهادية في الوقت الحاضر بشكل لافت في الولايات المتحدة، لكنها في كل الأحوال لا تزال موجودة.
(يُتبع)
لورينزو فيدينو – مدير “برنامج التطرف” في جامعة جورج واشنطن
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي وهوامش الدراسة باللغة الإنجليزية من هنا