مدونة أصوات

في صحبة العارف

أذكرُ أنَّ أكثر العبارات خفة ولطفا كانت إذا مرت بفمه تتحول إلى مقولة ذات حكمة وأثر.. كان له ابتسامة لا تشبه أي ابتسامة أخرى.. ترابط على وجهه لا تبارح في كل حالات الغضب والحزن والتربص والانكسار والألم.. إذا صادفته جالسا على مقهاه المختار على رأس الشارع سيجعلك ترهف السمع رغما عنك لتعليقاته على ما يلقيه على مسامعه الجالسون؛ ذلك لأن أبسط ملاحظة تصبح قادرة على إلهامه بحكاية مكتملة الفتنة إذا كان مزاجه رائقا.. أما إذا كان معتكرا – للحقيقة كان ذلك أمرا نادرا- فإنه لا يتوقف عن إطلاق النكات حتى تغرورق عيناه بالدموع.. مزيلة عن روحه غشاوة الكآبة.. فليست الدنيا وفق تقديره بالشيء الذي يؤبه له.. “هذه الحياة ورطة، وكثرة “المعافرة” تزيدها صعوبة، فيضيق الخناق على المناوئين”.. هكذا كان يقول، وأنا أشهد أنَّه في ملابسه الرثة كان موحيا بعظمة مفرطة. وأنَّ ضحكته كانت بمثابة إعلان متكرر عن استهانة صادقة بكل ما يهم الناس ويعكر عليهم صفو حياتهم.

قال ذات يوم لأبي: هل تظن أنَّك تملك حيلة؟ تعجَّب أبي؛ فأكمل صاحبه: لسنا أصحاب حِيَل، نحن أقل شأنا من ذلك، فلا تدع دورك إلى ما لا يُرتجى منه نفع.

قال أبي: عن أي دور تتحدث يا صديقي؟

قال: أن تتهيأ لأقدارك، فلا يخرجنَّك أمر من حال الرضا، وألا تضبط متلبسا بالفردانية، نازعا عنك مسوح المعية.

قال أبي: أنا متوكل على الله وهو حسبي. أجاب الرجل: إلا أن يفرغ القلب من عِلَّة التمني، فتستوي لديه الأحوال.

عجوز

هوة شاسعة رأيتها بين هذا الساعي لا يهدأ في طلب الرزق.. ثم هو لا يني في اصطناع المعروف ووجوه البر، يطرق أبوابه بالليل والنهار، فيريه الله من عجائب فضله ما يزيده رغبة في الكسب مع تحري الحلال، وذلك الرجل الذي يلازمه تاركا كل شيء خلفه لا يعتريه الاهتمام بأمر. لكنني بَصُرت بالروح بعد لأيٍ أن الهوة في رأسي.. وأن التباين  متوهم وأن التماثل جلي وأنَّي أجهل من أن أنظر في أمر الخلق أو أنشغل بهم.. لأن المُؤَدَّى واحد وحدة السبيل. وليس كما ظننت سابقا من افتراق أحدهما عن الآخر.. كانا اكتمالا على نحو ما.. لكنى رصدت من مقام الخوف، فأُرِّقْتُ بقصور عيني عن بلوغ المعنى.. أو هكذا ظننت.

استبد بي السؤال لماذا أتى الرجل إلى مدينة الماء واستوطن، تاركا خلفه قاهرة المعز بكل ما حوت من جمال وصخب.. صارحته ذات يوم بشكي فقال: سرت مع النيل يا ولدي.. فلا أحد له صدق النيل. وأنا لم أكن آنذاك على بعض حذري الآن. فكان علي أن أتوقف هنا. وكان في استطاعتي أن أتابع إلى حيث يستقي أهل الجزيرة في عرض البحر.. لكن بنت الماء أسرتني؛ فمكثت هنا أواسي النيل.. نعم كان عند المصب حزينا يحتاج إلى عزاء.. فقلت: أنا أفعل.

القاهرة
القاهرة

لم يتوقف الرجل عن الإنجاب لسنوات طويلة.. كنت أرى شابين بدينين يعملان بحرفته أحسب أن بينهما في العمر شهورا.. وجدت صورة أحدهما فوق عبَّارة في “البسفور” بعد ذلك بسنوات.. هذان هما ولداه الكبيران.. يصغرهما بسنوات ثالث في سن المراهقة.. هادئ  وصبور يعامله أخواه بقسوة بادية.. ثم أطفال صغار لا أحصيهم لهم أسماء تدليل مضحكة.. بينهم ولد وبنت لهما شعر فاتح وعيون ملونة.. رأيت هؤلاء الصغار مرارا ينسلَّون خلف أبيهم من الحارة الضيقة إلى الشارع الرئيس إلى الميدان الواسع دون وجل.. رأيتهم مثله تماما لطفاء لا يأبهون لشيء يبتسمون دوما ويبادرون بالمودة على عكس كثير من الأطفال الذين عرفتهم في الزمان الأول.. لا أذكر أني رأيت الأم سوى مرة واحدة.. لا يعلق بالذاكرة شيء عنها.. إلا انها كانت بدينة..  ربما كانت منتفخة البطن من أثر الحمل طوال الوقت.. ليس هذا بالأمر المهم على أية حال.. فحين صعدت إلى تلك الشقة ذات مساء تعجبت من ضيق مساحتها وكيف يعيش فيها هؤلاء جميعا.. كان السلم إليها ضيقا، وكان الأطفال يهبطونه جميعا كتلة واحدة باندفاع موجة من الصخب. بمجرد أن يعرفوا بوجود أبي.. فمعنى ذلك فسحة بالسيارة التي حُقَّ لها أن تشتكي من هذا التكدس الذي عانت منه كثيرا.. وأحيانا ما كانت تلك الفسح تبتعد إلى المدن المجاورة التي لا تطيق بعدا عن البحر.. كما كانت أسفار الصديقين تمتد لشهور وربما ضمت الرحلة الواحدة خمس دول.. وفي الإياب تنتحي الحكايات القديمة لتحل مكانها أخرى جديدة تزخر بالضحكات والمواقف العجيبة واستنتاجات لأمور غابت في حينا عن الإدراك.

سيصير مثيرا لبعض الضيق أن يسكن الرجل حكايات أبي كلما أراد أن يستشهد على صحة رأي أو فعل.. سيكون من المزعج أحيانا أن نلزم بإخلاء المقعد المجاور لمقعد أبي بالسيارة الصغيرة له، لنتكدس بالمقعد الخلفي في رحلة طويلة إلى القاهرة أو الإسكندرية.. لم يكن مما يثير الضيق أن سيجارة الرجل من نوع “فلوريدا” لا تنطفئ في يده أبدا.. وكان مما يثير الانتباه اختفاء الرجل لشهور اختفاء كاملا.. يخرج من الأحاديث، ويغادر الحكايات ولا يأتي له أحد على ذكر كأنَّه لم يكن في حياتنا يوما.. لكنه كان يعود للظهور بحضور قوي يغفر كل خطايا الغياب التي لم يرتكبها أحد.

عجوز وسيجارة

ثم إنَّ المدينة خلت من الرجل؛ فكأنما أعتقته.. لم يدخلها ثانية.. تحرَّر على نحو ما من قيد خفي كان يربطه بها.. كما أنه لم يعد إلى مسقط رأسه بالقاهرة.. رحل الرجل دون أن يخبر أبي.. عندما استفسر والدي عن أسباب غيابه أخبره أحد الأبناء أنه ذهب إلى الأراضي المقدسة معتمرا.. صحب معه طفله الأخضر العينين.. لكن أبي التقاه في الموسم في العام التالي.. كان قد تغير كثيرا. ربما لم تفارقه ابتسامته لكن ألما ما شاركها ملامحه المتعبة.. كبر الصغار وعرفوا الارتحال فكانوا يترددون بين الحين والآخر على تلك البقاع الطاهرة لرؤيته.. لكن أحدا منهم لم يحدثه بشأن العودة. كانت ثمة عُرى قد انفصلت.. ربما استقر في أذهانهم أن هذا ليس بالسفر الذي يُرجع منه.. هذه حياة بلغت بغيتها فاستقالت من أسبابها الظاهرة بكوامن الاكتفاء.. حينها تصبح الأحاديث القديمة ذات ثقل وبلا روح كمن يسامر سجينا عن مزايا العزلة والتوحد.

اختار الرجل مَكَّة رغم صعوبة الحياة فيها، وما يشاع عن أهلها من الغلظة وسوء الطباع.. وكان بيته بجبل أبي قبيس.. فلم يقعده سِنُّه عن الانحدار للوادي للصلاة في الحرم.. وكأني أراه وقد لبَّى ذلك النداء الذي سمعه ابن الفارض قبل نحوٍ من ثمانمئة عام أن ائت  البيت في غير الموسم وكن في حماه.. فكان إذا صعد إلى جبل أبي قبيس للتعبد لا يفتقد في المسجد فرضا واحدا.

وما شككت لحظة أن يقين الرجل بساعة النداء هي ما جعله في حال التهيُّؤ طوال الوقت.. وأنه عندما خرج إلى حيث أُمِرَ كان قد سبق بالخروج الكامل مما لا يستطيع الناس منه خروجا، وما كان اصطحابه لذلك الصغير إلا كوعد إبراهيم الخليل وأظنه كان أحب ولده إلى قلبه.. وأن الولد شب هناك ليكون له من الرؤيا نصيب أو هكذا ظننت فيما لم أحط به خُبرا.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock