رؤى

رحلة البحث عن اللغة الأم

المثل الشعبي الإفريقي «إلى أن يتعلم الأسد الكتابة .. فكل القصص ستمجّد الصياد» يعد خير معبرعن تاريخ الكاتبات العربيات …  فربما لا يعرف الكثيرون أن هناك من النساء العربيات من شاركن في كتابة ونشر أعمالهن الأدبية منذ القرن التاسع عشر حيث مازال تاريخ الأدب العربي يحفظ لنا ذكرى ثلاث رائدات شاركن في مجال الكتابة الأدبية منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، وهن: زينب فواز «1860-1914» ولبيبة هاشم «1880-1947» ومي زيادة «1886-1941» من لبنان وعائشة التيمورية «1840-1902» من مصر، وقد شهد النصف الأول من القرن العشرين تنامي عدد الأديبات العربيات، غير أن أعمالهن ظلت قيد التجاهل من قبل نقاد الأدب حتى منتصف ثمانينيات القرن العشرين حين بدأت عملية الترجمة لكتابات بعض الأديبات العربيات وجاءت أول محاولة جادة لتصنيف الكاتبات العربيات والاحتفاء بهن عام 1986 حين أصدر يوسف زيدان قائمة بلوجرافية تضمنت «486» امراة كتبن باللغة العربية في الفترة ما بين ثمانينيات القرن التاسع عشر وثمانينيات القرن العشرين، وكان أكثر من نصفهن قد أصدر كتابين على الأقل، وتوالت الرحلة حتى أصبح عدد الأديبات العربيات لا يعد ولا يحصى.

الباحثة المتخصصة بمجال دراسات العالم العربي والنسوية الإسلامية الدكتورة ماريام كوك في كتابها الذي يحمل عنوان: «النساء يطالبن بإرث الإسلام … صياغة نسوية إسلامية من خلال الأدب» تتناول بالتحليل كتابات بعض النساء العربيات اللاتي ينتمين لسياقات فكرية وجغرافية مختلفة تمتد من منطقة الخليج العربي وصولا لبلاد المغرب العربي ومرورا بمصر ولبنان.

ماريام كوك
ماريام كوك

الحرب والهجرة والبحث عن اللغة الأم

حددت مريام كوك مؤلفة الكتاب عاملين شكلا من وجهة نظرها خبرة النساء العربيات الفكرية والثقافية ألا وهما: «الحرب والهجرة»، إلا أن مترجمة الكتاب دكتورة راندة أبو بكرة أستاذة الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة في تقديمها للكتاب انتقدت تحديد المؤلفة لعاملي «الحرب والهجرة» كمحددين وحيدين لتشكيل خبرة الكاتبات العربيات، ذلك أنها رأت أن هناك عدد من العوامل الأخرى التي أثرت على رؤية الكاتبات العربيات ربما بصورة أكثر حدة من عاملي «الحرب والهجرة» مثل الاستعمار والتبعية الإقتصادية والاضطهاد الطبقي والاجتماعي.

توقفت مريام كوك مطولا أمام أعمال الكاتبة الروائية والمؤرخة الجزائرية آسيا جبار وقدمتها كنموذج فريد للكاتبات العربيات اللاتي خضن رحلة البحث عن «اللغة الأم» ففي روايتها التي تحمل عنوان: «ما أوسع السجن» تتناول كفاح النساء الجزائريات إبان فترة المقاومة ضد الاستعمار وعزوف هؤلاء النساء عن الحديث عن ذاك الدور، وتربط آسيا جبار بين كفاح هؤلاء النسوة وبين جداتهن اللاتي قمن بمقاومة الفرنسيين حين حطوا على سواحل بلادهن في ثلاثينيات القرن التاسع عشر.

تسجل كتابات آسيا جبار نجاح مقاومة النساء الجزائريات: «أخيرا، نحن النساء القادمات من الظل، نغير جميعنا اتجاه الحركة، ونصنع بداية جديدة .. أمام النساء اللاتي وقعن طي النسيان لأنهن لم يخلقن كتابات، هن من يشكلن المسيرة الجنائزية، هن الكاهنات الباخوسيات الجدد» .. تجد آسيا جبار أن عليها أن تتعلم الكلام والكتابة بذات الوقت حتى لو كانت الكتابة بالدم، لكي لا تصبح من النساء المنسيات، عندما تبدأ في إيقاظ أصوات قريباتها من النساء اللاتي كانت تعرفهن في طفولتها ولم تفهمهن سوى حين بدأت الكتابة «دم كتاباتي؟ ليس بعد، أما صوتي؟ إن صوتي يتركني كل ليلة».

ترغب آسيا جبار في روايتها «فانتازيا» أن تصرخ لكنها لا تستطيع، بل أنها تشعر بالخوف من الصوت الصادر عنها، حيث تنطوي صرختها على عذاب الأخريات، تتحول نقوش الجدران القديمة لديها إلى همسات صادرة عن الجدات تروي عن إرث المقاومة الذي حفظته الجدات بلغتهن المحلية المفقودة «لغة تن هينان» المنقوشة على مقبرة «تن هينان» وهى أميرة من أميرات قبائل الطوارق التي تنتمي إلى البربر وأشتهرت بقدراتها القتالية المميزة.

تؤكد آسيا جبار على قدم لغتها الأم التي ورثتها عن أجيال سبقتها من النساء تعود أصولهن إلى تلك الأميرة المقاتلة «تن هينان» وهى هنا تؤكد على لغة النساء التي تحتاج إليها الكاتبة كعون لها، ذلك أن تلك اللغة التي تعلمتها من أمها تعني أنها تتبنى ثقافتها فهى وإن كتبت بالفرنسية فهى إنما تعيد إنتاج تلك الثقافة التي تربت عليها وورثتها عن جداتها باللغتين العربية والبربرية.

آسيا جبار
آسيا جبار

النسوية الإسلامية

بحثت بعض الكاتبات العربيات مثل آسيا جبار وباحثة علم الاجتماع المغربية فاطمة المرنيسي في حياة النساء بالمرحلة المبكرة من التاريخ الإسلامي بهدف تعميق فهمهن للأدوار التي لعبتها النساء قديما وطبيعة المنزلة التي كن يتمتعن بها بصدر التاريخ الإسلامي.

نقبت النسويات الإسلاميات في فجوات الكتابة التاريخية عن أي إشارات تنم عن فاعلية النساء العربيات بذلك السياق أصدرت آسيا جبار رواية تاريخية عام 1991 ربطت فيها ما بين بعض كتابات الطبري وابن هشام وابن سعد وبعض الأقوال المتخيلة روتها ثلاث راويات للحديث، تحكي النساء معظم أحداث الرواية، يبدأ الكتاب بتناول حياة الملكة اليمنية التي تكتشف أن زوجها ما زال مبقيا على معتقداته الوثنية بعد دخوله الإسلام وبعد مقتله تلعب دورا رئيسيا في عملية إعادة الدولة بأكملها إلى الإسلام.

تتناول آسيا جبار دور زوجات النبي صلى الله عليه وسلم  معتبرة إياهن بمثابة مستشارات له، حيث كانت لهن مكانة مميزة بالمجتمع الإسلامي ولم يكن مهمشات بالمنزل ومقصورات على أدوار الأمومة، فقد التزمت بعض زوجات النبي بالإسلام حتى دون أن يعتنقه رجال عائلاتهن.

تنتقد آسيا جبار العديد من المؤرخين بمقدمة عملها مشيرة إلى أنهم وإن كانوا يحرصون على توخي الدقة إلا أنهم في الوقت نفسه «يجنحون إلى طمس وجود النساء» وهنا يتعين على الكتابات الروائية أن «تسد الفجوات الموجودة في الذاكرة الجمعية لكي أفسح مجالا للمكان والزمان اللذين كنت أود أن أشغلهما .. هنا نسمع أصوات عديدة لراويات ينسجن خلفية المشهد في ذلك التاريخ الإسلامي المبكر» وتختتم آسيا جبار المقدمة بوصف لمشروعها على أنه: «رغبتي في الإجتهاد».

تتخذ كل من آسيا جبار وفاطمة المرنيسي وغيرهن من باحثات النسوية الإسلامية مواقعهن بذلك الموضع الذي تلتقي فيه علوم الدين والمكان والهويات القومية والفعل النسوي فيتحدثن بألسنة أمهاتهن وجداتهن في محاولة لفك تلك الخطابات التي ساهمت في صياغة مجموعة الاعراف والعادات التي أمعنت في إقصاء النساء، مع محاولة الإبقاء على ذلك التوازن ما بين الرؤى القومية والرؤى العابرة للهويات القومية والرؤى النسوية.

فاطمة المرنيسي
فاطمة المرنيسي

كتاب «النساء يطالبن بإرث الإسلام .. صياغة نسوية إسلامية من خلال الأدب» رغم أهميته إلا أنه يعيد إنتاج بعض الصور النمطية عن النساء المسلمات والعرب وذلك على الرغم من كون مؤلفته تنتقد بشكل عام الصور النمطية التي قولبت بها وسائل الإعلام الغربية النساء المسلمات والعرب وكتابات الأديبات العربيات ومع ذلك يبقى للكتاب أهميته القصوى في التعرف على بعض الكاتبات العربيات من الخيلج إلى المحيط ورؤيتهن للعالم من حولهن.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock