فن

محمد وفيق.. صلاة في محراب التاريخ

يبصر “وفيق” النور قبيل النكبة بالقرب من بحر الإسكندرية في صخب المدينة متعددة الأعراق والثقافات في بيت أب من رجال العلم ممن حازوا درجة “الدكتوراه” مبكرا بعد نيل “العالِمية” من الأزهر الشريف. وكانت والدته ممن تفوقن في الدراسة؛ لكن ظروف الزواج المبكر اضطرتها لترك المدرسة.. لتضع الأم كل همتها في تعليم طفلها النابه؛ ليجيد “وفيق” القراءة والكتابة قبل دخوله المدرسة.. وكانت إجادته للقراءة وهو أصغر تلميذ في المدرسة باعثا على اختياره لإلقاء كلمة الصباح يوميا في الإذاعة المدرسية.. ومنذ ذلك اليوم توطنت نفس الصبي على مخاطبة الجموع؛ فاكتسب القدرة على التأثير في سامعيه، ومعرفة مدى استحسانهم أو استيائهم مما يقول؛ فتولد لديه ذلك الإحساس القوي بالجماهير.. ما جعله دائم الحضور بين ناس الوطن لا يفقد ذلك التماس الواعي معهم في أدق المواقف وأجلها.

كان لعمل الوالد بالتدريس بجامعة الإسكندرية كبير الأثر في الطفل “وفيق” فمن ناحية كانت حياته وثيقة الصلة بذلك المحفل العلمي العظيم الذي انشغل والده بالعمل به أيما انشغال، ومن ناحية أخرى كان لانكباب الوالد على القراءة والبحث أثر آخر في تكوين شخصية الفتى الذي اختارته الأقدار للاطلاع على أمهات الكتب قراءة وفهما وهو بعد في السادسة عندما اختاره والده ليكون قارئه الخاص، نظرا لضعف نظر الوالد، وعدم اكتفائه بالساعات التي يقرأ له فيها سكرتيره الخاص.. فكانت تلك الساعات التي يجلس فيها الصبي قارئا لأبيه بمثابة نافذة واسعة على دنيا العلم والمعرفة أتاحت له ثقافة ركينة وارتباطا وثيقا بتراث الأمة تاريخا وعلما وأدبا، كما عمقت تلك الساعات من ولهه باللغة العربية فصار مطبوعا على تذوقها.. له فيها طلاقة الأولين، وتميز النابغين.

لكن الأقدار لا تجري دائما وفق ما نحب؛ فينفصل الوالدان لتتحول طفولة الصبي إلى حال الشقاء.. لكن أقدار العظماء لا تتبدل إلا لحكمة بالغة.. فما كانت تلك المعاناة إلا لتكبر في نفس الصبي معاني التحمل والصبر على الشدائد.. فكيف لا تصهر روح الفنان بالألم؟ وكيف إذن يكون باستطاعته أن يمنحنا من خلال فنه كل هذا التبصر العميق بأدق المشاعر الإنسانية وأكثرها غموضا؟ لا شك أن تلك الطفولة المُمْتَحَنَة قد منحت “وفيق” تلك التجربة الناضجة التي تقف بالإنسان على أرض صلبة قوامها تحمل المسئولية والقدرة على مجالدة الصعاب.

في المسرح المدرسي كان الملاذ بعد أن اكتشفت مشرفة المسرح موهبة “وفيق” فأعطته دور البطولة في مسرحية حفل ختام العام الدراسي.. ولا ينسى الفنان لتلك المعلمة الواعية عندما أثنت عليه بدلا من أن تعنفه لتوقفه عن الأداء فجأة أثناء العرض المسرحي، وقالت له: أعلم أنك فعلت ذلك متعمدا ليلتزم الحضور الهدوء التام أثناء العرض.. والحقيقة أن “وفيق” كان قد احتبس صوته لدقائق خوف النسيان.. لكن المعلمة بموقفها هذا بنت في نفس الصبي جدارا من الثقة لن ينهدم أبدا حتى في أصعب المواقف.

بعد حصوله على الثانوية العامة بتفوق بمجموع 74%. وكان هذا المجموع آنذاك يؤهل صاحبه للالتحاق بكلية الهندسة.. إلا أنه إرضاء لأبيه التحق بكلية العلوم.. لكنه لم يستطع الاستمرار طويلا في الدراسة بها، فصارح أباه برغبته القوية في الالتحاق بالمعهد العالي للفنون المسرحية؛ فوافق الوالد بعد إلحاح.. فينتقل الفتى وهو بعد في السابعة عشرة ليقيم وحيدا في القاهرة ليكمل دراسته بالمعهد بعد اجتيازه لاختبارات القبول.. وأثناء الدراسة يحاول “وفيق” العمل بالتليفزيون للتدريب ولتوفير بعض النفقات الضرورية.. لكن العمل بالجهاز الوليد كان قليلا.. فيتجه للمسرح القومي وهو بعد في السنة الأولى بالمعهد فيرشحه المخرج “فوزي درويش” لدور صغير في المسرحية الملحمية “بلا حدود” عن القضية الفلسطينية.. وأثناء البروفات يتغيب الفنان “حسين الشربيني” وهو أحد أبطال العمل؛ بسبب إسناد دور البطولة له في مسرحية “بجمليون” من إخراج نبيل الألفي.. وحتى لا تتوقف البروفات يُطْلَب من “وفيق” المشاركة بقراءة دور “الشربيني” فيجيد في القراءة فيشجعه الفنان “عبد البديع العربي” فيبدأ بتمثيل الدور أثناء الإلقاء فيثني عليه الفنان الكبير؛ فيصل “وفيق” للإجادة ما جعل “العربي” يستدعي المخرج “درويش” ويطلب منه إسناد الدور للفتى بعد أن تأكد اعتذار الفنان “حسين الشربيني” عن المشاركة في العمل.. فيسند لـ “وفيق” الدور فيؤديه على نحو مبهر؛ ويكون تعليق الفنان “عبد البديع العربي” عليه “الحمد لله الذي جعلني “جواهرجي” أستطيع اكتشاف الألماس وإزالة التراب عنه.. وأنت ألماسة نادرة يا “وفيق”. فيكتسب شهرة واسعة بين زملائه وأساتذته بالمعهد.. ولم يكن لهذا الحدث أن يُمحى من ذاكرة الفتى.. بل سيظل باقيا في الذاكرة ماثلا في الوعي حاضرا في الوجدان.. فالطريق الذي بدأ للتو كان عبر بوابة فلسطين.. حيث يتأكد له أن الفن الجاد الذي يحمل الرسالة العظيمة لا يمر إلا من خلال أبواب النضال من أجل أسمى المعاني.. أما الفن الذي يتسلل من خلال سراديب التزلف وامتهان المعنى فلن يكون أبدا طريقا للفتى الذي أعدته الأقدار ليبعث من التاريخ سير الرجال الكبار؛ لتحيا تلك النفوس العظيمة مجددا في ذاكرة الأمة.

ويأتي عام التخرج مزامنا لعام انكسار الحلم وحدوث النكسة.. لكن ذلك لم يكن مبررا للتفريط عند “وفيق” كما حدث للكثيرين وظهر جليا في كثير من الأعمال الفنية الضعيفة التي حفلت بمشاهد الانحلال والعري بدعوى تشريح أسباب الهزيمة، أو مواكبة لاختيار البعض بالانغماس في حالات من التغييب هروبا من هول الصدمة؛ لكن “وفيق” كان واعيا لذلك كله رغم حداثة سنه.. فتكوينه الثقافي المكين، وروحه التي جالدت الصعاب ونفسه الكريمة.. كانت بمثابة عوامل حماية ضد السقوط.. فكانت بدايته السينمائية في العام التالي في فيلم “الرجل الذي فقد ظله” من إخراج “كمال الشيخ”.. ونظرا لقدراته الهائلة في الأداء الصوتي قدم الفنان “محمد وفيق في تلك الفترة العديد من الأعمال الإذاعية المتميزة مثل مسلسلات “ملاعيب على الزيبق”، و”غربت الشمس” و “غُربة الحب” و” عندما تغيب الشمس” و “رز الملايكة” و”سالم وسالمين” و”ألف يوم ويوم” ومسلسل “أحببتها” أمام “سهير البابلي” و”أبو بكر عزت” وهو المسلسل الذي أدى فيه الفنان ثلاث حلقات كاملة منفردا كراوٍ للأحداث التي يمر بها أثناء رحلة طويلة في تجربة إذاعية نادرة.. وغيرها من الأعمال الإذاعية الكبيرة.. فيما تواصلت مسيرته السينمائية في أدوار لا تناسب قدراته الفنية مثل دوره في فيلم “لا شيء يهم” الذي جسد فيه دور الشيوعي المدعي ذي الأصول البرجوازية الذي يسقط في أول اختبار لمبادئه عندما يرفض زواج أخته من صديقه المهندس الفقير.. ثم دور د. علي زهران في فيلم “حب تحت المطر” وهو الدور الذي لفت إليه الأنظار بشدة، وفي المسرح قام ببطولة عدة أعمال في تلك الفترة منها مسرحية “سندباد” ولفت أداؤه نظر المفكر الكبير “محمود أمين العالم” فأثنى عليه، وعندما شاهد العمل المخرج “يوسف شاهين” اختاره للقيام ببطولة فيلم كان “جو” يعد له لكن مشروع الفيلم لم يتم لظروف تتعلق بالإنتاج.

“رُب ضارة نافعة” كما يقول المثل… ففي عام 1978، كان وفيق يقدم مع الفنانة محسنة توفيق برنامج على إذاعة الشرق الأوسط بعنوان “حبيبتي مصر” وفجأة ودون سابق إنذار يحول المؤلف البرنامج إلى وصلة مديح فجة في “كامب ديفيد” وبطولات الرئيس المؤمن.. ما جعل “وفيق” و”محسنة” يعتذران عن استكمال البرنامج.. وسرى الخبر بسرعة في الوسط الفني ما جعل المنتجين يضعون الفنانين في القائمة السوداء لأعداء النظام ما يعني استبعادهما من أي أعمال كانا مرشحين لها.. فلا يجد “وفيق” سوى العمل باستوديوهات الخليج مع صديقيه الرائعين المخرج إبراهيم الصحن والمؤلف محفوظ عبد الرحمن.. فيقدم هذا الثالوث الفني أعظم أعمال الدراما التاريخية مثل مسلسل “أحمد باشا الجزار” وهو من أدوار البطولة المطلقة، و”الكتابة على لحم يحترق” وبرع فيه “وفيق” في دور “الظاهر بيبرس” ومن إخراج عباس أرناؤط  قدم “ليلة سقوط غرناطة” في دور “نعيم” في بطولة مشتركة مع “عبد الله غيث” ومسلسل “الفرسان يغمدون سيوفهم” و”المرشدي عنتر” و”الكبرياء تليق بالفرسان” ودور “هرقل” في “محمد رسول الإنسانية” وشخصية محمد بن أبي عامر مؤسس الدولة العامرية بالأندلس في “الصعود إلى القمة”  وشخصية “الخليفة المعتمد” في “الإمام الطبري” و”طارق بن زياد” في “بلاط الشهداء” و”نابليون بونابرت” في “الأبطال” وغيرها من الأدوار والشخصيات التاريخية الرائعة.

وهناك ثلاثة أدوار في الدراما التليفزيونية اعتذر عن أدائها الممثل “حسين فهمي” لتكون بمثابة علامات مضيئة في مسيرة الفنان “محمد وفيق” الدور الأول هو دور “الزناتي خليفة” في مسلسل “السيرة الهلالية”، ودور الضابط “عزيز الجبالي” في مسلسل “رأفت الهجان” وهو يعتبر أكثر أدواره قربا لوجدان الجمهور المصري.. ثم دور الخديوي إسماعيل في مسلسل “بوابة الحلواني” وهو دور البطولة الذي أبدع فيه “وفيق” ومزج فيه بين الأداء الجاد والكوميدي بطريقة غير مسبوقة.

وتجدر الإشارة إلى أن “وفيق” قدم عددا من أدوار الشر بأسلوب مختلف كما في دور “إبليس” في مسلسل “ساعة ولد الهدى” و دور “حلمي” في مسلسل “بين السرايات” ودور “سيف” في فيلم “حكاية نص مليون دولار” من بطولته مع “يحيى الفخراني، ودور “صفوت” في الجزء الأول من مسلسل “رحلة السيد أبو العلا البشري”.

في السينما العالمية شارك وفيق مع المخرج “مصطفى العقاد” في فيلم “الرسالة” في دور “عمرو بن العاص” وقد أثار أداء “وفيق” إعجاب النجم العالمي “أنتوني كوين” الذي قال عنه: إن هذا الممثل يملك قدرة نادرة على توظيف عينيه في التعبير عن مشاعر الشخصية وانفعالاتها.. وهذا ما سيظهر جليا في أهم أدواره السينمائية مع “عاطف الطيب” في فيلم “الهروب” دور ضابط أمن الدولة “فؤاد الشرنوبي” العائد من أمريكا والذي يستخدم حيلا عديدة لتوجيه الرأي العام بعيدا عن الأحداث الهامة.

لقد حفلت مسيرة الفنان “محمد وفيق” بالأعمال الفنية الخالدة، وتجاوزت أعماله المائتي عمل.. كان نصيب الأعمال السينمائية منها قليل.. وهو أمر مؤسف لأن “وفيق” كان يستحق فرصة أكبر منذ البداية كما نبه لذلك الناقد السينمائي الراحل “سامي السلاموني” مبكرا بعد فيلمه “الحب تحت المطر” لكنَّه عوَّض ذلك بروائع الدراما التاريخية والاجتماعية التي شارك فيها إلى جانب أعماله الإذاعية المتميزة جدا، وما يقرب من ثلاثين عملا مسرحيا من روائع المسرح القومي.. وللأسف فإن معظم أعمال الفنان القدير لم تعرض على القنوات المصرية لأسباب كثيرة فلا يعرف الجمهور المصري فناننا إلا من خلال عدد قليل من الأدوار وهو أمر يدعو للأسف.. مما يوجب علينا أن نكرر الدعوة لعرض هذه الأعمال في الفنوات المصرية والعربية أو أن تكون متاحة على الإنترنت. رحم الله الفنان القدير وأنزله منازل الأبرار.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock