“البابا” من يقول مرحباً فيردد من خلفه الجميع… طوعاً أو كرهاً… فالاتباع فرض عين… يأمنون على المكانة التى رفع إليها ابنته… “ملالا” تخص البشتون بما هو للعموم.. إطلاق الرصاص ابتهاجاً بمولد الذكور.. وإطلاقه على رؤوس الإناث إذا ما تطلعن إلى حقوق تخص جنس مُيز بالقوامة.. مواراة البنات عن الأنظار وإن كانت فى عهود موغلة فى القدم توارى التراب.. ثمة ضمانة لإخراسها للأبد.. ويعد يوماً حزيناً ذلك الذى تُولد لأحدهم فيه أنثى فلا تهانى ولا مباركات.. عزاء وصمت.. خزى وطأطأة رأس.. وهكذا الوباء منتشر على طول خريطة الشرق.. يليق به مزيج من اللونين كمفتاح لقراءتها.. أسود بلون معاناتهن مع أحمر بلون شرفهن.
نفر قليل ذوى فطرة مبصرة
ابن عم والدها “جيهان شير خان يوسفزاى” احتفى بمولدها وقدم مبلغ من المال كهدية.. أما الهدية الحقيقية فكان رسم لشجرة عائلة قبيلتهم “آل دالوخيل يوسفزاى” والتى لا يظهر عليها سوى النسل الذكورى فى العائلة.. المدهش أن والدها “ضياء الدين” أخذ الشجرة ورسم خطاً يمتد من اسمه وفى نهايته كتب اسم “ملالا”.. الاسم الذى سيصير الأشهر ليس بعائلتهم فقط وإنما سيعبر قارات كاسرا حواجز من ضلالات طالما حطت من درجة بنات جنسها.
صيبا من بطولة ملالا مايوند
وهو اسم البطلة الأفغانية العظيمة التى أسماها والدها باسمها.. وكأنما استحضر روحها فحلت بجسد طفلته منذ كانت رضيعة يغنى لها أغنية لشاعر مشهور هو رحمة شاه سايل من بيشاور وكان البيت الأخير فيها يقول:
يا ملالاي مايواند،
انهضى مرة أخري كى تُفهمى البشتون أغنية الشرف،
فكلماتك الساحرة تجعل العالم يدور،
أتوسل إليك، انهضي مرة أخرى.
وبمثل هذه النشأة كان من الصعب أن تأبه لتهديدات أو يوقفها خوف من الطبيعى أن يعترى فتاة بمثل سنها الصغيرة.. “ملالا مايوند” حاربت البريطانيون محتلى الأرض.. و”ملالا يوسفزاى” حاربت الطالبان محتلى العقول.. وهو أشد نكاية فعلى إثر إحكام السيطرة يعتاد الأسير أغلاله.. بل قد يتمادى فيحسبها قربان نسيه منغمسين فى ملذات فانية.. وهو وحده من تنبه للأبقى.. ولذا قد يهدر دم من يحاول نزعها.. وإن كان سلاحه لا يتجاوز الحوار.
توقعته من الدرج فأصابها فى الريكشا
فتاة صغيرة تتلقى عائلتها تهديدات لا لشئ سوى أنهم سمحوا ارتيادها المدرسة.. تقرأ وتعقل وتحاور.. “ملالا” التى تفادت المشى بمفردها وبدأت تستقل عربة الريكشا خشية لقاء الطالبان وإن كانت تتوقع تعرضهم لوالدها والذى بات الجميع يقولون له “توخ الحذر فالدور عليك” وذلك بعدما تلقى صديقه الحميم “زاهد خان” رصاصة فى وجهه وهو فى طريقه إلى الصلاة!
“ملالا” ترفض التعامل مع الطالبان بذات منهجهم إن هم وجهوا إليها فوهة سلاحهم وتعتزم الدفاع عن نفسها حتى بمثل هذه اللحظة التى قد تكون الأخيرة بحياتها “حسناً، أقتلنى، ولكن أنصت إلي أولا. إنك سترتكب جرماً بفعلتك هذه. لست أحمل أى ضغينة ضدك، فكل ما أريده هو أن تلتحق كل الفتيات بالمدرسة”.
يمكن للمعبد والمسجد أن يوجدا جنبا إلى جنب
سواء كانت فى أزمنة غابرة مملكة بوذية.. حكم ملوكها واديها لأكثر من 500 عام.. وعبر ضفتى نهرها انتشر 1400 معبد بوذى يدوى صوت أجراسها الساحر عبر أرجاءها.. واعتادت “ملالا” ورفيقاتها على قضاء نزهاتهن بين أطلال من صخور نُقشت عليها تماثيل تُظهر بوذا بدينا ومبتسما ويجلس القرفصاء على زهرة لوتس.. “الرب بوذا” الذى جاء بنفسه إلى هذه البقعة كى ينعم بالسكينة التى تسودها!.. بيد أن الطالبان أحالوها إلى بقعة دم.. بروفا جحيم يتوعدون به كل من على شاكلة والد “ملالا” متقبلا للحياة بكلا أضادها بل ومعتزا بها حد تأليفه قصائد تؤكد محبته وتعلنها متحدية غرابيب هدمت وطمست جزء من التاريخ الإنسانى البديع.. فنظم “ضياء الدين” قصيدته “أطلال بوتكارا” وفيها يقول:
عندما يرتفع صوت الحق من المآذن،
تعلو الابتسامة مُحيا بوذا،
وتتصل سلسلة التاريخ المكسورة.
وتدندن والدة “ملالا” بينما تنثر الأرز للطيور بقصيدة شعرية بلغة البتشو تُسمى الواحدة منها “تابا”
لا تقتل الحمام فى البستان،
لأنك إذا قتلت واحدة، فلن تأتى الأخريات.
وهو ما فعله الطالبان حين أطلق الرصاص على “ملالا” ففرت الفتيات وخلت المدارس منهن.. صارت إلى أطلال كما آثار بوذا بعد تفجير بعض منها.
جين التمييز سائد.. وضياء الدين حمل المتنحى
نشأ فى أسرة كبيرة وكان لديه شقيق أكبر وخمس شقيقات.. ومثلما هو حال معظم الأسر كانت فتيات القرية تلزمن البيت فيما يذهبن الصبيان إلى المدرسة إذ لم يكن لديهن إلا انتظار الزواج.. وهو ما لم يكن الشئ الوحيد الذى خسرته شقيقاته.. ففى الصباح تقدم له والدته القشدة أو الحليب بينما هن لا يتحصلن إلا على الشاى بلا حليب.. وإذا توفر البيض فيُقدم له ولشقيقه فقط.. وعندما تُذبح دجاجة على طعام العشاء يحصلن على الأجنحة والرقبة فيما يحظى هم الذكور بلحم الصدر الطرى اللذيذ وهو ما جعله يدرك باكراً كونه متميزا عن شقيقاته.
ضياء الدين.. البعض لا يتبع القطيع
▪ فى البدء كان ارتباطه بامرأة هام بها حباً فى مجتمع عادة ما يتم الزواج فيه عبر العائلات.. ولأن الإفصاح عن مكنون المشاعر محظور فى ثقافتهم اكتفى بالقصائد التى ظل يرسلها إليها رغم كونها لا تستطيع قراءتها وهى تعلق على ذلك بقولها “أعجبنى عقله” فيرد ضاحكاً “أما أنا، فأعجبنى جمالها”.
▪ عامل امرأته كما لو كانت مزهرية هشة مصنوعة من الخزف فلم تمتد إليها يده بسوء قط.. بل كان يستشيرها فى كل صغيرة وكبيرة.. ويخبرها بكل أحداث يومه حلوها ومرها.. كانت تقرعه كثيراً وتقدم له النصيحة بشأن أصدقائه وأيهم مخلص له وأيهم غير ذلك.. وكان دائماً ما يقول إنها على صواب وهو أمر لا يفعله معظم الرجال البشتون “أو غير البشتين”.. فمشاركة المشكلات مع النساء تُفسر لديهم بأنها علامة ضعف فيقول قائلهم “إنه يستشير حتى زوجته”.
▪ وبعد أن رُزقا بولدهما “خوشال” وقد كانت زوجته تتوق لأن تضع ذكراً ولما أرادت شراء سرير جديد له بدلا من ذلك الذى منحهم إياه جيرانهم حين وُلدت “ملالا” رفض معلالاً”ملالا تأرجحت فى ذلك السرير، وهو أيضاً يمكنه ذلك”.
▪ وأخيراً وبعد أن جاءه ولده الأصغر “أتال” قال “لقد اكتمل عقدنا” وبحسب المعايير السائدة فى سنوات فإن أسرة تتألف من ثلاثة أطفال هى أسرة صغيرة، إذ ينجب معظم الآباء سبعة أو ثمانية أطفال.
الدين مغناطيس يستقطب برادة الشعوب
وهو ما استغله الجنرال ضياء الحق والذى وصل إلى السلطة فى العام 1977 فيما كان والد “ملالا” حينها يبلغ من العمر ثمانية أعوام.. فأطلق حملة أسلمة توجب طاعة حكومته المنوط إليها تحديث الشرائع وإقرار إصدارات منقحة منها حتى إنه فرض عليهم كيف يصلون! فأنشأ لجاناً للصلاة فى جميع أنحاء باكستان بما فيها وادى سوات النائى بعدما عين مائة ألف مفتش صلاة!!
النساء هن الوجهة الأهم
وهو ما انتهجه ضياء الحق ضارباً بكلمات محمد على جناح مؤسس باكستان عرض الحائط والتى قال فيها “ليس هناك كفاح ممكن أن يُكلل بالنجاح ما لم تشارك فيه النساء جنباً إلى جنب مع الرجال.. يقال إن هناك قوتين فى العالم.. أولهما هى السيف والأخرى هى القلم.. لكن ثمة قوة ثالثة تفوق هاتين القوتين.. ألا وهى النساء”
وبمغناطيس الدين أسبغ مجالاً مكنه من تقليص شهادة المرأة فى المحكمة بحيث تعدل نصف شهادة الرجل.. وسرعان ما امتلأت السجون بحالات من تلك الفتاة ذات الثلاثة عشر ربيعاً التى أاغتصبت وحملت ثم أاقتيدت إلى السجن بتهمة الزنا لأنها لم تستطع أن تأتى بأربعة شهود من الرجال ليثبتوا أن ما تعرضت له كان اغتصاباً لا زنا.. ولم تعد المرأة تستطيع أن تفتح حساباً بنكياً دون حصولها على موافقة من رجل.. كما فرض على لاعبات الهوكى ارتداء سراويل طويلة بدلاً من تلك القصيرة بينما فرض حظراً تاماً على مزاولتهن لبعض الرياضات.
حتى التاريخ لم يسلم من التحريف
وكانت وسيلتهم إنشاء الكثير من المدارس الدينية.. واستبدال مادة الدراسات الدينية أو ما يسمونه بـ “الدينيات” بالدراسات الإسلامية أو ما يسمونه بـ “الإسلاميات”.. وهى مادة مازال يتعين على الأطفال فى ربوع باكستان دراستها حتى اليوم.. وتمت إعادة كتابة التاريخ على نحو يُظهر باكستان “حصن الإسلام”.
تعددت المسميات والإيدلوجية واحدة
ثمة طالبان كثر بلحى وجلاليب وسراويل.. حليقون ببدلات ورابطات عنق.. مستترون بكهوف ومطلون من الفضائيات.. بعضهم من بعض وكلهم علينا