الصورة الثانية
في الأيام الأخيرة من شهر أكتوبر عام ١٩٥٤ ، كانت مصر تمر بمرحلة حرجة وخطيرة ، فقد تعرض زعيم الثورة لمحاولة اغتيال على أيدى بعض أعضاء الجهاز السري لجماعة الإخوان المسلمين ، كانت المحاولة الفاشلة في يوم ٢٦ أكتوبر من نفس العام ، وفي ميدان المنشية بمدينة الإسكندرية ، كان ” عبد الناصر ” يخطب في الآلاف من المصريين ليشرح لهم أهمية الالتفاف الوطني حول الثورة ، خاصة بعد النجاح في إبرام اتفاقية الجلاء مع الحكومة البريطانية ، لتطوى صفحة من الإذلال الوطني ويخرج أكثر من ثمانين ألف من جنود الاحتلال من قواعدهم في منطقة قناة السويس ، وفجأة دوت عدة رصاصات من واحد من أعضاء جماعة الإخوان لتستهدف زعيم الثورة المصرية.
فشلت المحاولة الآثمة ، وعاد ” عبد الناصر ” إلى القاهرة ، وإلى مكتبه في مجلس قيادة الثورة في رأس جزيرة الزمالك ، وكان أمامه عشرات الملفات العاجلة ، منها ما هو داخلي ، وكان أهمها ما يتصل بترتيبات إتمام الانسحاب العسكري من مصر ، والذي حددت آخر مراحله في الثامن عشر من يونيو عام ١٩٥٦ ، بخروج آخر عسكري بريطاني من معسكر ” الشلوفة ” القريب من مدينة الإسماعيلية ، ويرفع العلم المصري عليه ، ويسمى منذ ذلك الوقت ب ” معسكر الجلاء”
غير أن ثمة ملفات عربية ودولية كان على ” ناصر ” أن يتابع العمل والمتابعة بشأنها ، كان الملف الجزائري هو أهمها على الإطلاق ، فقد كان لقاء ” ناصر ” بكل من ” مزياني مسعود ” والذي سُميّ بعد ذلك باسم ” أحمد بن بيلا ” وزميله الذي تعرف عليه لأول مرة في القاهرة وفي حضور رئيس مجلس قيادة الثورة المصرية وعدد من معاونيه ، ” محمد إبراهيم بوخروبة ” والذي اتخذ اسما حركيًا نضاليًا هو ” هواري بومدين ” أو ” سي الهواري ” .
كان هذا اللقاء هو الميلاد الفعلي للثورة الجزائرية ، فقد انقضت تلك الشهور القليلة التي فصلت بين هذا اللقاء الذي جمع ” ناصر ” وعدد من معاونيه بكل من ” بن بيلا ” و ب ” بومدين ” في التحضير لبدء عمليات انطلاق الثورة المسلحة ، فقد تولت المخابرات العامة المصرية نقل العشرات من شحنات السلاح إلى الجزائر عبر الحدود المُشتركةْ مع ليبيا ومنها إلى تونس ، وقد ساعد في ذلك أن احتضنت القاهرة ” لجنة تحرير المغرب العربي ” التي كانت تضم مُمثّلين لحركات التحرير في كل من : ليبيا وتونس والجزائر والمغرب ….
في حوالي الساعة الحادية عشر صباحا ، من أحد الأيام الأخيرة من شهر أكتوبر عام ١٩٥٤ ، وصل عدد من معاوني ” ناصر” إلى مكتبه في مجلس قيادة الثورة ، كان من بينهم ” زكريا محيي الدين ” عضو مجلس قيادة الثورة ، والمسئول عن جهاز المخابرات العامة ، الذي مرّ على إنشاءه والإشراف عليه ، عدة شهور لا تتجاوز عاما فقد تأسس في نفس العام ، عام ١٩٥٤ ، وكذلك وصل عدد من معاونيه منهم الضابط ” فتحي الديب ” و ” علي صبري ” مدير مكتب ” ناصر ” وأكثر معاونيه كفاءة ومقدرة ، وضابط شاب جديد من جهاز المخابرات الناشئ اسمه ” عزت سليمان ” فقد حضر بوصفه حاملا لصفتين ، أنه المسئول المُكلف من الجهاز بالإشراف على نقل السلاح إلى الثوار في الجزائر ، فضلا عن أنه المُساعد المباشر لزميله ” فتحي الديب ” مسئول الشئون العربية في مكتب ” عبد الناصر”
بدأ ” ناصر ” الاجتماع الذي ضم هذا العدد المحدود من الرجال ، وكانت كلماته واضحة
“لقد أطلعني الأخ ” زكريا ” على آخر برقية وصلته من الأخوة في الجزائر ، عن اختيارهم لساعة الصفر لانطلاق الثورة ، نتمنى لهم كل النجاح ، وكما تعرفون أن معركة تحرير الجزائر هي معركة تحرير مصر ، ليس هناك أي تناقض بين إتمام الانسحاب البريطاني من منطقة القناة ، وبين حتمية انتصار الشعب الجزائري على المحتل الفرنسي الذي اقترب وجوده الكرية والبغيض في الجزائر من ١٣٠ عاما”.
بعدها توقف ” ناصر ” عن الحديث ، وأعطى زميله ” زكريا محيي الدين ” الكلمة ، والذي أخرج بدوره ورقة مكتوبة بخط اليد من ملف كبير يضم عشرات الأوراق المُرتبة بصورة جيدة ، الأمر الذي لفت نظر ” ناصر ” مما دعاه الى التعقيب السريع ، قائلا :
: “زكريا طول عمره يتسم بالنظام والدقة ، فضلا عن الحسْ الأمني ، الذي يبدو أنه مولود به ” ضحك الجميع ، ودخل رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية ، في الموضوع ، فقال وبكلمات مُحَددة
الأخوة في الجبهة ، جبهة التحرير الجزائرية وجيشها أبلغوني بالآتي:
“واحد : سوف تكون إشارة البدء في عمليات الكفاح المسلح عند ليلة الأحد / الإثنين الموافق الأول من نوفمبر من العام الحالي ، عام ١٩٥٤
اتنين : إن هذا التوقيت تم اختياره على ضوء اعتبارات تكتيكية واستراتيجية ، … الاعتبار التكتيكي يرجع إلى غياب عدد كبير من القادة والضباط والجنود الفرنسيين عن معسكراتهم لقضاء إجازة نهاية الأسبوع ، فضلا عن موافقة هذا التاريخ مع أحد الأعياد المسيحية الكاثوليكية الهامة في حياة الشعب الفرنسي ، وبالتالي فالتأمين العسكري والحراسة لتلك المواقع ستكون في أضعف حالاتها ، أما الاعتبار الإستراتيجي فيرجع إلى وصول كميات كافية من السلاح إلى الأخوة في الجزائر ، وسوف يقوم الأخ ” عزت سليمان ” بإلقاء الضوء حولها”
سكت ” محيي الدين ” وتحدث الضابط “‘عزت سليمان ” الذي أخذ الإذن من ” ناصر ” قائلا:
“سيادة الرئيس حمدا لله على سلامتك أولا من تلك المحاولة الخسيسة التي استهدفت حياتك … لقد شاهد سيادتك ، السيد ” زكريا ” والأخوة ” علي صبري ” و “فتحي الديب ” بعد فشل المحاولة ، والاطمئنان عليك حينها ، غير أنني هذه هي المرة الأولى التي أرى سيادتك بعد تلك المحاولة الغادرة”
استمع ” ناصر ” لكلمات ” عزت سليمان ” شاكرا له هذه المشاعر ، داعيا إياه إلى إعطاء الزملاء الجديد من المعلومات التي تتعلق بساعة الصفر وأماكن العمليات المُحدّدة التي أخبرك بها الإخوة في جيش التحرير الجزائري ” ….
عندها بادر ” زكريا محيي الدين “بإعطاء ورقة من الملف الموجود أمامه إلى زميله ….. وهنا بدأ ” عزت ” في القراءة:
” أبلغني الإخوة في جيش التحرير أنه تم تقسيم مسرح العمليات في الجزائر إلى خمس مناطق … المنطقة الأولى هي ” جبال الأوراس ، والمسئول عنها الأخ ” مصطفى بن بولعيد” … المنطقة الثانية هي ما يُعرف بالشمال ” القسنطيني ” نسبة الى مدينة أو ولاية ” قسنطينة “والمسئول عنها الأخ ” ديدوش مراد ” ، أما المنطقة الثالثة فهي منطقة ” القبائل ” والمسئول عنها الأخ ” كريم بلقاسم ” … ثم بعد ذلك تبقى منطقتي ” الوسط الجزائري ” والغرب الوهراني ” نسبة إلى منطقة أو ولاية ” وهران ” ، الرابعة يتولى مسئوليتها الأخ ” رابح بيطاط ” ، أما الخامسة فيتولى قيادتها الأخ ” العربي بن مهيدي عند هذا الحد توقف ” عزت سليمان ” عن القراءة والتي بدأ حريصا على قراءتها وفق ما تم إبلاغه من الأخوة في قيادة الجبهة ، وفق اتصال مباشر معهم حيث تمكن الضابط ” عزت ” من العودة من الجزائر منذ بضعة أيام قام خلالها بتسليم آخر شحنة سلاح إلى الثوار قبل بدء حرب التحرير ، وهنا تدخل ” زكريا محيي الدين ” في الحديث ، غير أن ” ناصر ” بادره بالقول:
” علينا أن نتوقف لبضع دقائق ، واضح أن الجلسة سوف تطول ، وواضح أنكم مش هاتروحوا النهاردة إلى بيوتكم ، أيه رأيكم في بعض السندوتشات ” ؟؟؟
غير أن الجميع نطق في صوت واحد وبأوصاف مُختلفة تراوحت بين ” أفندم وياجمال ، وسيادتك ” ..بلاش الجبنة البيضا والخيار وحياتك…”
غير أن ” ناصر ” بادرهُم بالقول ” الجبنة البيضا دي ليا ، أنتم لكم سندوتشات فول وطعمية … ماشي ، شيافكم موافقين ؟؟؟ “
لم يكن هناك مّفر من الموافقة ، فلا سبيل لتغيير اختيارات يعرف الجميع سلفا ألا بديل لها…
إنتقل ” ناصر ” إلى مكتبه الموجود في نفس الحجرة التي يوجد بها طاولة الاجتماع وهي نفس الغرفة والمكتب الذي شهد منذ نحو عام اللقاء الأول الذي جمع ” ناصر ” مع كل من ” أحمد بن بيلا ” و ” هواري بومدين ” … ثم عاد ” ناصر ” إلى طاولة الاجتماع ، ليدخل بعد دقائق معدودة أحد الجنود ، الذي يتلقى من الرئيس قائمة بالمطلوب ، فضلا عن مشروبات لا تزيد عن الشاي والقهوة…
حينها طلب ” علي صبري ” الكلمة ، والذي كان يعمل بجانب مهمته كمدير لمكتب ” عبد الناصر ” مُساعدا ” لزكريا محيي الدين ” في تأسيس وبناء جهاز المخابرات العامة ، غير أن ” ناصر ” رأى إعطاء الكلمة ل ” محيي الدين ” الذي أبدى اعتذارا لزميله ” صبري ” والذي وافق على الفور ، قائلا له ضاحكا ، وموجها كلامه إلى الرئيس:
” أعمل أيه يا فندم مع زكريا ، فهو رئيسي في العمل ، فضلا عن صداقة تاريخية عميقة ، تمتد لسنوات “
أمن ” ناصر ” على كلام مدير مكتبه والرجل الثاني الذي يقع على عاتقه عبء إنشاء هذا الجهاز الخطير
تحدث ” زكريا ” وقال:
“لقد حدثت واقعة مهمة تتعلق بعملية نقل السلاح إلى الأخوة في الجزائر ، سبق أن أبلغتك بها ، ولكن أود ذكرها لكي أذكر الفضل الذي يستحقه أبطالها ، لقد تعرضت القوات البحرية المصرية لموقف صعب ، بسبب عوامل طبيعية وعواصف عاتية ضربت البحر الأبيض المتوسط بالقرب من الشاطئ الذي تم الاتفاق مع الأخوة في جيش التحرير على تسليم شحنات السلاح عنده ، فضلا عن وقوع اختلاف على التوقيت تقع مسئوليته على الجانبين ، المصري والجزائري ، تصرف الأخ ” عزت سليمان ” بذكاء وسرعة في اتخاذ القرار ، فقد لاحظ متابعة من الزوارق البحرية الفرنسية المُراقبة للساحل الجزائري ، فقام بالتوجه فورا إلى المياه الدولية ، ثم قام بالاتصال بزميلنا البكباشي ” عبد المنعم النجار ” المُلحقْ العسكري بتاعنا في إسبانيا ، يقول له أن قطعة بحرية مصرية ، اسمها ” فخر البحار ” والتي كان ” عزت ” على مّتنها ، تتجول في عدد من موانئ البحر المتوسط ، وتريد زيارة ميناء برشلونة للتزود بالماء والوقود والغذاء”
وقام الأخ ” النجار ” بالاتصال بالخارجية الإسبانية ووزارة الدفاع لنقل هذا الطلب ، وكانت المفاجأة أن وافقت السلطات الإسبانية على الفور ، وتم استقبال ” فخر البحار ” استقبالا رسميا حافلا … وبعد عدة أيام ومع تجديد الاتصال بالإخوة في جيش جبهة التحرير الجزائري ، استطعنا تسليم شحنة السلاح بالكامل ، كانت هي الشحنة الأكبر منذ بدء عمليات الإمداد ، من دونها كان من الصعب ، بل من المستحيل تحديد الأخوة ساعة الصفر والبدء بالعمليات العسكرية…..”
هنا توقف ” زكريا ” عن الكلام ، ليس بسبب الانتهاء مما رواه ، ولكن لدخول الجندي بالطعام المطلوب ، فكانت فرصة للتوقف ، والتقاط الأنفاس ، ليبدأ ” علي صبري ” الحديث عن بعض الجوانب السياسية التي كان مُكلفا بها ، جوانب تتصل بالعمل الإعلامي والدبلوماسي ، العربي والدولي ، الذي سبق أن كلّفهُ ” عبد الناصر” بها ، وهي إعداد تصور متكامل له ، وكانت جميعها قضايا تتصل بالمستقبل ، مستقبل الثورة الجزائرية ، والثورة المصرية ، بل والثورة العربية…