فن

هل ساهمت «الكومباوندات» في اختفاء “دراما الحارة” قسريا؟

الحارة المصرية الراسخة في الوجدان والتاريخ كشاهد أصيل علي الهوية المصرية هل توارت واقعيا ومن ثم فنيا لصالح الوافد الجديد «الكومباوند» الذى نجح مؤخرا في اقتناص مكانته على الساحة «جغرافيا، واجتماعيا» وأخيرا فنيا؟

هل الاختفاء القسري للحارة فنيا ليس إلا محاولة لترويج تلك الأحياء السكنية الجديدة المحاطة بالخصوصية والرفاهية ، بتعبير أدق هل لم يعد من المستحب ظهور الحارة أو الأحياء الشعبية فنيا من الأساس وليس فقط طرح مشاكلها وسماتها  وخصوصيتها، في مقابل تصعيد  المجتمعات الجديدة التي تسيدت المشهد مؤخرا؟

بعيدا عن تجاهل الحارة فنيا، هل لازالت مكانا مستقلا قادرا على الصمود أمام تقلبات الزمن ، وسكانها لازالوا يتمتعون بنفس الصفات من الشهامة والمروءة و الجدعنة و..، أم أنها شهدت تغيرات جذرية قلبت موازينها رأسا على عقب؟.

هوية

 وفقا لما أكدته د. سامية خضر أستاذة علم الاجتماع بجامعة عين شمس فإن الحارة حي في مدينة تتكون من عدة شوارع ضيقة وأزقة وفي أزمنة سابقة كانت لها بوابة في أولها و أخرى مع نهاية حدودها يتم إغلاقها ليلا، فيما سكانها قديما كانت تجمعهم روابط الدم أو العقيدة و المصالح المهنية قبل أن ينتهي بهم الحال لمجرد جماعات تتشكل بطرق عشوائية من تكتلات مهنية أو هجرات ريفية تراكمت علي مدار قرن من الزمان، ، مشيرة إلى أن الحارة والتي رصدها الأدب وترجمتها السينما والدراما التلفزيونية لم تعد موجودة على ن النحو، إذ شهدت العديد من التحولات الاجتماعية و السياسية والتي لعبت دورا كبيرا في تغير  شكلها وجوهرها على السواء

أما الكومباوند وكما ترى خضر فهو الأخر حي مستقل له بوابات و أسوار تحيط به، مع توافر حراسة أمنية متاحة على مدار الساعة (بالتأكيد ليست بديلا لفتوة الحارة)، ناهيك عن توافر كل ما يحتاجه سكانها من أساسيات وكذلك رفاهية تتفاوت بالطبع بحسب إمكانيات الشركات المالكة لهذه الأحياء المستحدثة و قدرتها المادية في تجهيز «الكومباوند»، أما عن تركيبته الاجتماعية فالمشترك بينهم هو القدرة المادية بعيدا عن فكرة الأصول الاجتماعية  أو ما يتعلق بالجانب المهني والتعليمي

ووفقا لما تراه خضر فإن نفس المتغيرات الاجتماعية و السياسية التي تركت آثارها على الحارة أو الأحياء الشعبية، هي التي ساهمت في تصعيد تلك الأحياء الجديدة لتلبي احتياجات طبقات اجتماعية أخرى ، مشيرة لأن كل مكان يصنع هويته الخاصة والتي تمتزج مع الوقت بهوية ساكنيه رغم ما بينهم من اختلافات، مشيرة لنجاح بعض الأعمال الفنية في الاقتراب من تلك العوالم بكل ما تحمله من خصوصية لعل أبرزها مسلسل “فوق مستوي الشبهات” للمخرج هاني خليفة والذي عرض قبل سنوات.

د. سامية خضر أستاذ علم الاجتماع
د. سامية خضر أستاذ علم الاجتماع

تغيرات

في كتابها «الحارة في السينما المصرية» تشير د. مي التلمساني لأنه من بين إجمالي عدد 4200 فيلم تم إنتاجه منذ عام 1927 وحتى بدايات القرن الواحد والعشرين نجد الحارة موجودة بقوة في حوالي ألف فيلم ، و أن عدد كبير من هذه الأفلام نجحت في رصد واقع الحارة بكل سماتها و خصوصيتها، كما نجحت أيضا في رصد ما مرت به من تغيرات وتحولات عديدة

التلمساني اجتهدت أيضا من خلال دراستها لهذه الأفلام في الاقتراب من فهم «روح المكان» مستخدمة مناهج علم الاجتماع للاقتراب من سمات الحارة و خصوصيتها ما انعكس بالتالي على فكرة الهوية التي ميزت تلك الأماكن وطرق تشكلها ، مشيرة لأن الحارة  مكان له هويته الخاصة والتي تشكلت عبر العلاقات والقيم والعادات والتقاليد التي حكمت سكانها، كذلك الترابط بينهم ولسنوات طويلة قبل أن تشهد الحارة العديد من التحولات الاجتماعية و السياسية التي ساهمت  في تغير  شكلها  واقعيا ومن ثم فنيا.

الحارة في السينما المصرية
الحارة في السينما المصرية

نفس الكلام تؤكده الناقدة الفنية حنان شومان مشيرة لأن التعقيد المتزايد للحياة الاجتماعية من جانب والتطور العمراني من جانب آخر، إضافة لعوامل أخرى أخلاقية واجتماعية  مثل الترقي الاجتماعي لأشخاص تنتمي أصولهم للحارة،  كل هذا وغيره ساهم في تغيير التركيبة السكانية للحارة المصرية، بل امتد التغيير لمواصفاتها التقليدية  من معايير أخلاقية واجتماعية و شكلية أيضا، وهو ما يمكن تلمسه ليس فقط واقعيا و لكن عبر بعض الأعمال الفنية القليلة والتي كانت الحارة جزءا من أحداثها و نجح صناعها في  رصد التغيرات التي طرأت على سكانها وافتقادهم لقيم مثل المروءة والشهامة أو على طبيعة العلاقات الاجتماعية فيها، وكيف باتت لغة المال و المصالح هي السائدة ، الإرهاب و التطرف وكيف تغلغل في بنية هذه الأماكن بفعل الفقر والجهل و من ثم أفسد شخوصًا و قيمًا

أما عن تراجع دراما الحارة و العشوائيات بشكل عام مقابل تصدير «دراما الكومباوندات» و الطبقات الأكثر بروزا ماديا و اجتماعيا فلا تجزم شومان أن الأمر يتم بنوع من التوجيه المتعمد، أو بتوصيف أدق بـ «الأمر المباشر»، وتفسر هذا الطغيان لظروف إنتاج الأعمال الفنية نفسها والتي يغلب على معظمها الاستسهال، في كافة العناصر الفنية للعمل وفي مقدمتها الكتابة، والتي تعتمد علي «الورش الفنية» المطالبة دوما بإنجاز عدد من الأعمال، ومن ثم فلا مجال للتجويد أو التدقيق سواء في اختيار فكرة جديدة تحلق بعيدا عن السائد و المتداول أو صياغتها بإحترافية

يضاف لذلك أن المجتمع برمته و على كافة مستوياته شهد تغيرا كبيرا أو وفقا لتوصيف شومان “لخبطة”كبيرة  لم يفلح صناع الدراما في استيعابها نظرا لحداثة سنهم وقلة خبرتهم مقارنة بفرسان الدراما في عصورها الذهبية مثل أسامة أنور عكاشة، محفوظ عبد الرحمن، وحيد حامد وغيرهم، والذين كانوا يحرصون على الإلمام بكل التفاصيل الاجتماعية و السياسية والتاريخية التي تحيط بأي فكرة يتم تناولها فنيا لذا جاءت أعمالهم على درجة عالية من الجودة و نجحت في أن تعيش بالذاكرة و الوجدان ولاتزال، مقارنة بأعمال أقرب  للـ “فاست فود” المقدم حاليا.

حنان شومان
حنان شومان

غباء فني

الفن «مرآة الواقع»، هكذا يؤمن البعض، فهل الحرص علي إظهار مجتمعنا في أبهى صوره وراء هذا الاختفاء القسري لقضايا و هموم و إشكاليات من كتب عليهم العيش علي هامش الحياة والفن قهرا لا اختيارا؟

شومان من جانبها تري أن اتهام صناع الفن بـ «تشويه المجتمع» عبر أعمال ترصد ظواهره السلبية  ليست إلا فكرة «غبية» لأن الفن من واجبه بل أحد أدواره الهامة هو الكشف عن عورات المجتمع و مشاكله في محاولة لإصلاحه بالمكاشفة و شفافية الطرح

وهو نفس ما تتفق معه د. سامية مشيرة لأن دور الفن ليس قاصرا علي التسلية و الترفيه، لكن سيظل على عاتق صناعه ضرورة لفت الأنظار للظواهر المنحرفة و التنبيه بخطورتها

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock