رؤى

بعد تأسيس أول جمعية للفلسفة في السعودية.. كيف تجتمع الفلسفة والسلفية في بلاد الحجاز؟

على مدى عقود طويلة، ظلّت الفلسفة من ضمن المحظورات والمحرَّمات الكثيرة في المملكة العربية السعودية، فكان مصيرها النبذ والتسفيه، إلا أن هذا لم يكن يعني استبعادها من مناهج التعليم العالي في المملكة؛ إذ كانت حاضرة كأحد مفردات النقد الحديث في أقسام الأدب والنقد في كلية اللغة العربية، وكذا في أقسام علم الاجتماع وعلم النفس، فضلًا عن وجودها في قسم العقيدة بكليات الشريعة وأصول الدين، لكن حضورها النحيل الشاحب لم يكن سوى من باب نقض مضمونها، والتأريخ لوجودها في فضاءات العلوم والمعارف التي سلفت الإشارة إليها، أما حضورُها من جهة التفكيرُ النقدي وإثارة التساؤلات، التي تعد أخطر معانيه، فقد كان مغيَّبًا تمامًا في الفضاء المعرفي السعودي، بل في وجدان المواطن السعودي عموما!

ولم يكن معنى حظرها وتحريمها أن الفلسفة ممنوعةً بشكلٍ رسمي في السعودية، فليس ثمّة قانون يمنع تداول كتب الفلسفة،لكن الرؤية الفقهية التقليدية التي ورثت الرِّيبة من الفلسفة منذ قرونٍ طويلة كونها عدوًا للدين وهادمًا للإسلام وبابًا من أبواب الشك والتناقض، هي التي جعلت الفلسفة ممنوعة من الإدراج المنظَّم ضمن مناهج التعليم في السعودية، خصوصًا مع إحكام سيطرة الوهابية على وزارَتي المعارف (التعليم) والثقافة، وهو ما حرم الطالب السعودي، عبر عقود، من دراسة الفلسفة ومدارسها المختلفة، الأمر الذي جعل الفلسفة سيئة السُّمعة في الأوساط السعودية، حتى إنّ دراستها والتخصص فيها يندرج تحت خط الخلل العقائدي، والزيف العقلي، بل الكُفر والتجديف وتلبيس إبليس، كما هي الحال عند ابن الجوزي الذي تحدّث عن تلبيس إبليس على الفلاسفة ومن تابعهم! [تلبيس إبليس: 39- 40، دار الفكر]

تلبيس إبليس
تلبيس إبليس

وقد أسهمت التغييرات النوعية التي شهدتها المملكة في الفترة الأخيرة التي شهدت تمكن الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، من تولي مقاليد الحكم في بلاده، منذ العام 2017، في تضييق نطاق المحظورات في المملكة ذات الطابع الكلاسيكي المُحافِظ، وكان من ضمنها بالطبع دراسة الفلسفة، وإدراجها في مناهج التعليم الثانوي والعالي، وطباعة وتداول كتبها وترجماتها، فاستحدثت وزارة التعليم مادة “مبادئ الفلسفة” لطلاب المرحلة الثانوية، وبدأ كثيرون – ومنهم مسؤولون حكوميون – ينادون بدراسة الفلسفة كحائط صدّ أمام هجمات التطرف الفكري والتشدد الديني الذي لم تسلم منه المملكة السعودية نفسُها، ويرون أن “استقطاب الشباب من قِبل الجماعات الدينية والإرهابية يعود إلى افتقار أولئك الشباب إلى القيمة الفكرية التي تضفيها الفلسفة لمواجهة الآليات المنحرفة التي تستخدمها تلك التنظيمات لتضليل العقول، وتنويمها، ومن ثم غسلها كليًا واستقطابها، فالعقول التي تُبنى على نقض وتفنيد المتناقضات، هي العقول التي تبنى على أسس فلسفية، فتكون أكثر تنظيمًا وحصانة من استقطاب أي فكر ضال، مهما كان مرجعه أو أجندته”. [من تصريحات السيدة كوثر الأربش، عضو مجلس الشورى السعودي]

ومؤخرًا، يأتي إنشاء وترخيص أول جمعية تُعنَى بالشأن الفلسفي في المملكة، بمثابة خطوة جريئة تمثل دليلًا عمليًا فارقًا على انعتاق المملكة السعودية من سلطة الانغلاق، ولو جزئيًا، وبداية مبشِّرة للتوسع في دراسة الفلسفة في الجامعات السعودية التي لمّا تزل خلوًا من الكليات والأقسام الفلسفية، وقال رئيس مجلس إدارة الجمعية وأبرز مؤسسيها، عبد الله المطيري “أزف لكم خبر تأسيس جمعية الفلسفة كجمعية أهلية غير ربحية تعنى بالشأن الفلسفي في المملكة العربية السعودية، وتسعى لتمكين المهتمات والمهتمين بالشأن الفلسفي من المشاركة المجتمعية العامة. وبهذا تصبح أول جمعية فلسفية في تاريخ المملكة العربية السعودية”، مؤكدًا أنه لولا جهود قادة بلاده في توفير الفضاء الثقافي المتفائل، والبنية القانونية الحديثة لمَا كان تأسيس هذه الجمعية أمرًا ممكنًا، وهو ما يعني أنّ الإرادة السياسية أساسٌ لتفعيل أي قرار من شأنه تغيير أيديولوجية الأفكار والثقافات، والتمكين لكل ما من شأنه تغيير بنية المجتمع علميًا وتعليميًا وثقافيًا.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل وجود جمعية فلسفية في بلد سلفي قُح كالمملكة السعودية كفيل بخلق مُناخ نقدي متحرر من سُلطة التشدد الديني والعقائدي؟ أو بمعنى آخر: كيف تجتمع الفلسفة والسلفية معًا في بلاد الحجاز ذات التقاليد العقائدية والفقهية الصارمة؟ والأجابة عن هذا السؤال، في حد ذاته، أمر ليس باليسير؛ فالحاجة ماسّة إلى إدراج تخصصات الفلسفة المختلفة في الجامعات السعودية، إذ إن تغييب الفلسفة عن تلك الجامعات من شأنه عدم وجود روافد مغذّية لأي حراك فلسفي، وعلامة على تضاد النزعة التعليمية السائدة في المملكة مع توجهات القيادة السياسية الحالية التي لا تألو جهدًا في تحديث وتطوير المملكة لمناهضة العنف والإرهاب والفكر المتشدد، الذي تتبنّاه عناصر وتنظيمات جماعات الإسلام السياسي.

وفي الحق، فإن الفلسفة والسلفية لا يجتمعان؛ ذلك أن منهج كل منهما مغايرٌ ومختلف عن الآخر؛ فالأولى تعتمد على العقل والمنطق والمساءلة، وأما الأخرى فهي أسيرة النصوص والأسانيد مهما كان التضاد والشقاق مع العقل والمنطق والذوق العام، لكن القضية لا تخلو من وجود بقعة ضوء في آخر النفق، فمما هو معلوم أن محاولات التوفيق بين العقل والنقل (الوحي) قديمة منذ دخول الفلسفة إلى الفضاء المعرفي للحضارة الإسلامية، وقد توَّج الفيلسوف ابن رشد (1126 – 1198) تلك المحاولات وإن لم يقتنع بها النقليون، لكنها على أية حال محاولات تؤسس لتوفيق ما، بين الحكمة (الفلسفة) والشريعة (النص)، وهو توفيق يَعدّ الفلسفة من المعارف التي أكدها الشرع، فقد كان يرى أن الفلسفة تفحص كل ما جاء في الشرع، فهي بهذا مرادِفة للنظر العقلي والمنطقي، يقول ابن رشد “والفلسفة تفحص عن كل ما جاء في الشرع، فإن أدركته استوى الإدراك، وكل ذلك أتمّ في المعرفة”، لكنه بعد ذلك يرى أن الفلسفة لا تدرك كل شيء، كمعرفة الله والسعادة والشقاء وسائر السمعيات أو الغيبيات، وعلى العكس من ذلك فإن الشريعة تحيط بكل شيء يقول “وإن لم تدركه اِعلم بقصور العقل الإنساني عنه وأن يدركه الشرع فقط” [ابن رشد، تهافت التهافت، ص 2/758]

تهافت التهافت لابن رشد
تهافت التهافت لابن رشد

وبالطبع، فنحن لا ندعو إلى تبنّي تلك الفلسفة الرشدية في الوقت الراهن، لكننا ندلّل من خلال طرحها على وجود محاولة قديمة، منذ أكثر من ثمانمائة وخمسين عامًا، للتوفيق بين الفلسفة والنصوص الدينية، لفك الاشتباك ولو بشكل جزئي بين أرضية الفكر الفلسفي التي تتنازع أرضية النص الديني، حتى لا تُرمَى الفلسفة بالنعوت الظالمة، وتُستبعَد من ميادين يحق لها أن تتوغل فيها، ولن تتوغل الفلسفة، سواء في البلدان المحافِظة كالسعودية، أو البلدان العربية الأخرى المنفتحة، إلا من خلال إقرار حزمة من القوانين والإصلاحات السياسية والاجتماعية والثقافية، بواسطة إرادة سياسية تفتح الطريق لثقافة التسامح، والحوار، وإبعاد الشأن السياسي برمّته عن الشأن الديني.

أحمد رمضان الديباوي

مدرس العقيدة والمنطق بالأزهر
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock