عرض وترجمة: أحمد بركات
قبل مائتي عام تقريبًا وصف المفكر السياسي الفرنسي ألكسيس دو توكفيل الانتخابات الرئاسية الأمريكية على هذا النحو:
لفترة طويلة قبل أن يحين الوقت المحدد، تصبح الانتخابات موضوعًا مهمًا، وإذا جاز التعبير، الموضوع المهيمن على جميع النقاشات، حيث تتضاعف حماسة جميع الفصائل، وتتأجج جميع أنواع المشاعر المصطنعة التي يمكن أن يخلقها الخيال في أرض سعيدة ومسالمة … ومع اقتراب الانتخابات، تزداد أنشطة التآمر ومحاولات إثارة الجماهير، وينقسم المواطنون إلى معسكرات متناحرة يحمل كل منها اسم مرشحه، وتسري في جسد الأمة بأكمله إثارة محمومة، وتتحول الانتخابات إلى موضوع يومي في الصحافة، ومحور الحوارات الخاصة، وغاية جميع الأفكار، وهدف جميع الأعمال، ومدار المصالح الذي لا يعلو فوق صوته صوت1http://xroads.virginia.edu/~Hyper/DETOC/1_ch08.htm.
ويصف توكفيل هذه الفورة بـ “الأزمة الوطنية”. ربما يكون مريحًا أن نجد توصيفًا يعود تاريخه إلى عام 1835 لما نراه بأعيننا اليوم. قد تكون الانتخابات المثيرة للانقسامات أمرًا غير مستجد، لكن توكفيل يخلص أيضًا إلى أن هذه المشاعر تنحسر بعد الانتخابات، ويعود الهدوء إلى الأجواء من جديد.. لا يبدو هذا التوصيف متناغمًا مع السياسات الحزبية الاستقطابية المستمرة التي تهيمن على المشهد اليوم.
تُرى.. ما الذي تغير؟
لا شك أن تغيرات جذرية قد حلت بالشعب الأمريكي في الـ 180 عامًا الأخيرة، إضافة إلى الطرق الجديدة التي ينتهجها الرؤساء – مثل المناظرات المتلفزة – لتقديم برامجهم مباشرة إلى الشعب الأمريكي، أو – وهذا هو الأمر الأكثر إثارة للقلق – لشريحة معينة منه فقط.
ومع ذلك، يلفت توكفيل انتباهنا إلى نوع مختلف من التغيير. لقد كانت الانتخابات الرئاسية في القرن التاسع عشر مجرد سبب “للإثارة”، وليس “للخراب”، لأن اختيار الرئيس، حتى ولو كان “مهمًا لجميع المواطنين”، إلا أنه مهم “بشكل معتدل”.
ربما ذكرنا وباء كورونا بأهمية الدولة والحكومات المحلية في اتخاذ القرارات بشأن إغلاق الأعمال أو ارتداء الأقنعة، إلى غير ذلك من الإجراءات الاحترازية الضرورية. لكن نظرة سريعة على الفعاليات المختلفة للحملات الانتخابية – بدءًا من المناظرات ووصولًا إلى إصابة الرئيس بكوفيد – 19 –توضح أن منصب الرئيس بات بلا شك الرقم المركزي في معادلة السياسة الأمريكية المعاصرة، وأن الحكومة الأمريكية قد فقدت الكثير من أهميتها عما كانت عليه في زمن توكفيل، وأن الرئيس يمتلك اليد الطولى داخل الحكومة. ونتيجة لذلك، فإن أمر اختيار الرئيس لا يزال يمثل الشغل الشاغل لكل مواطن، لكنه لم يعد كذلك “بصورة معتدلة”. ويشير تحليل توكفيل إلى أن هذا التغيير من شأنه أن يجعل الانتخابات الرئاسية أكثر تنافسية وإثارة للجدل.
ويلفت توكفيل إلى أنه عندما تكون أهمية الرئيس “معتدلة”، فإنه من غير المرجح أن تلهث “الفصائل” المختلفة وراء هذا المنصب بصورة محمومة. كما أن الجمهوريات الديمقراطية تستفيد بشكل أفضل من وجود عدة مناصب للسلطة، ليس فقط من أجل السيطرة على الانتهاكات، وإنما أيضًا لأن هذا يحد من أهمية منصب بعينه. ومن الثابت أنه عندما تتوزع السلطة على نطاق أوسع، تكون الأحزاب أكثر تقبلًا لهزيمة مؤقتة، لأنها تعلم أن بإمكانها الحصول على السلطة في مكان آخر، مثل الهيئة التشريعية، وغيرها.
علاوة على ذلك، فإن “الرئاسة المعتدلة” لا تجذب “الشخصيات اليائسة”، والأفراد الطموحون يرغبون دائمًا في تهييج “المشاعر الشعبية الخطيرة” من أجل تحقيق الانتصارات. لذلك، كان أخشى ما يخشاه توكفيل أن يؤدي افتقار الأفراد الأكثر ديمقراطية إلى الطموحات العظيمة إلى افتقاد الدول الديمقراطية بدورها إلى الضمانات المؤسسية الكافية ضد تلك الأقلية التي تريد – في واقع الأمر –استغلال سلطتها. ومع توقعه للمخاوف المعاصرة المتعلقة بتآكل المعايير الديمقراطية، فقد حذر توكفيل من تجرد المرشحين من “الأخلاق السياسية” إذا كانت المناصب المتنافَس عليها تمنح سلطات تتجاوز الحدود المقبولة.
ورغم أن التغيرات المؤسسية على مدى القرن الماضي قد أدت إلى تفاقم المشكلة، إلا أن توكفيل يؤكد أن انتخاباتنا المتنازع عليها تنطوي على قضية أكثر تعقيدًا. فالديمقراطيات – بحسب توكفيل – تميل صوب “الإمبراطورية الأخلاقية للأغلبية”، بحكم الاعتقاد بأن هذه الأغلبية تمتلك – ويجب أن تمتلك – الحق في الحكم. في الوقت نفسه، يقوم المرشحون الرئاسيون بدور رموز تمثل معتقدات هذا الحزب أو ذاك. ومن ثم، فإن الفوز بالانتخابات لا يعني فقط الفوز بالسلطة، وإنما يمثل أيضًا دليلًا على أن هذه المعتقدات تحظى بدعم الأغلبية. ومن ثم، فقد يكون من الضروري إعادة التفكير في حجم الأهمية التي تقلدها منصب الرئيس إلى جانب إعادة النظر في رغبتنا المحمومة في تأكيد صحة وتجذر معتقداتنا السياسية.
لا شك أن مخاوف توكفيل من الانتخابات الرئاسية تأتي كتذكِرة مهمة في الوقت المناسب بأن حجم السلطات التي نمنحها لمنصب الرئيس لن تمر دون تكلفة. فالدولة الديمقراطية التي يحكمها رئيس – كما يشير توكفيل –سوف تعاني حتمًا من “اضطراب عميق” عندما يحين وقت انتخاب ذاك الرئيس. وتتمثل مهمتنا في أن نعلم بدقة حجم “الاضطراب” الذي يمكننا أن نقبل به، وهو ما يتأتى – كما أوضح توكفيل – بالخبرات والتجارب.
ربما يقدم نوفمبر 2020 الدرس الذي يحتاج إليه الأمريكيون.
———————————————-
كيفن تشيري – أستاذ العلوم السياسية في جامعة ريتشموند، ومؤلف كتاب Plato, Aristotle and the Purpose of Politics.
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا