فن

المنسيون في تاريخ المسرح المصري .. عبد الرحمن رشدي (2)

وتتواصل رحلتنا مع أولئك النجوم العباقرة الكبار المظلومين المنسيين  في تاريخ المسرح المصري الذين أسهموا إسهامات وافرة في بناء هذا المسرح وتطويره والنهوض به  دون أن يتوقف المؤرخون الفنيون أمام تاريخهم الحافل وإسهاماتهم الواضحة .. وثمة ملاحظة غريبة اكتشفتها وأنا أبحث في تاريخ ومسيرة  عبد الرحمن رشدي هذا الرائد المسرحي الكبير بطل هذه السطور .. فحينما نبحث مثلا في تاريخ نجوم المسرح والسينما المصريين من أمثال  عبد الفتاح القصري وفاطمة رشدي وسليمان نجيب وغيرهم  تطالعنا في مسيرتهم هذه السطور كإكليشيه ثابت لا يتغير هو “انضم   هذا النجم الكبير إلى فرقة عبد الرحمن رشدي” فمن يكون عبد الرحمن رشدي الذي يذكر التاريخ اسم فرقته المسرحية التي تخرج منها عدد هائل من نجوم المسرح والفن في مصر  دون أن  يعرج على ذكر مسيرته ومشواره هو شخصيا

عبد الرحمن رشدي وعبد الوهاب

تحطيم التابو الاجتماعي

ولد عبد الرحمن رشدي في الثاني والعشرين من مايو عام 1881  بمحافظة الفيوم وعشق الفن منذ صغره وهو في بدايات حياته الدراسية غير أنه كان طالبا متفوقا وخطيبا نابها  .. وقد أهله هذا التفوق وذلك النبوغ للالتحاق بمدرسة الحقوق التي تخرج منها بتفوق

ليعمل بنظارة الأوقاف في وظيفة محترمة ويتقاضى راتبا  مستقرا وكبيرا بمقاييس تلك الأيام  التي كان الناس ينظرون خلالها إلى المسرح وأهله نظرة دونية ، وكانوا يعتبرون مهنة الفن والتشخيص في الدرك الأسفل لجميع المهن .. في تلك الظروف وفي ذك المناخ الذي كان يمجد مهنة المحاماة ويحقر من مهنة الفن ويعتبر العمل بها  دونية ونقصا لا ينبغي لأبناء العائلات الكبيرة الانجراف والانحراف إليه  وجد الشاب النابه  والمحامي النابغ عبد الرحمن رشدي نفسه شغوفا وعاشقا للمسرح يحلم بأن يكون ممثلا ومخرجا مسرحيا كبيرا … وأقدم رشدي على خطوة في قمة المغامرة والجرأة .. إذ تقدم باستقالته من وظيفته الحكومية ليسرع إلى مسرح جورج أبيض طالبا الانضمام إلى فرقته المسرحية

أحدثت تلك الخطوة الجريئة دويا وضجة كبيرة في المجتمع المصري وكانت بمثابة الحجر الذي ألقي في بحيرة راكدة  ليحرك ماءها   ويحدث فيه فورة وثورة… ويكفينا في هذا السياق الاستشهاد بما قاله الرائد المسرحي الكبير زكي طليمات في حفل تأبين عبد الرحمن رشدي في الرابع من  ديسمبر عام 1939 في دار الأوبرا المصرية من أن  احتراف رشدي للتمثيل كان حدثا اجتماعيا في مصر وأن رشدي قد حطم العرف الاجتماعي السائد

أما محمد تيمور الذي كان ابن باشا ودخل عالم المسرح لكن ككاتب ومترجم فقد قال عن رشدي “ألم تر المحامي الذي إذا صرخ في قاعة الجلسة ظن نفسه  يصرخ على خشبة المسرح.. ثم ألم تسمع بأول رجل هجر حرفته الراقية الشريفة  إلى حرفة أخرى تساويها مقاما وقدرا  ولكنها تظهر في نظر الناس ملوثة محقرة.. هذا هو عبد الرحمن رشدي الذي أصبح اليوم مدير جوق  تمثيلي  يعرض فنه في العاصمة وفي جميع بلدان القطر.

الأديب محمد تيمور
الأديب محمد تيمور

نداهة المسرح .. وأدوار خالدة

عمل عبد الرحمن رشدي في  مسرح جورج أبيض شهورا ثم ما لبث أن ترك أبيض إذ رأى كثيرا من الأمور التي لم توافق مزاجه الإنساني والفني كما قال محمد تيمور مثل تهافت الممثلين على المال حتى لو كان على حساب القيمة الفنية.. وعاد رشدي إلى بلده الفيوم ليفتتح مكتبا للمحاماة كسب منه الكثير وتحسنت أحواله المادية بشكل كبير .. لكن هيهات لنداهة المسرح أن تتركه..إذ وجد رشدي نفسه منساقا تماما كالمجذوب إلى نداء المسرح من جديد فأغلق مكتبه للمحاماة وشد الرحال إلى مسرح جورج أبيض مرة ثانية.. و وقد شجعه على العودة الثانية انضمام عمر  سري ابن حسين باشا سري لمسرح  أبيض.. وكذلك دخول محمد تيمور  عالم المسرح فها هما وجيهان آخران يشغفان بالمسرح كما سبقهما إليه شغفا وعشقا عبد الرحمن رشدي

يعود عبد الرحمن رشدي مرة ثانية إلى مسرح جورج أبيض..  وهذه المرة كان حضوره أكبر وعمله بالمسرح أكثر .. وفي كلا المرتين الأولى والثانية أدى رشدي أدوارا رائعة في مسرحيات ترجم أغلبها عن الفرنسية، فقد أدى دور رسول القصر في مسرحية أوديب ودور نيمور في مسرحية لويس وفرنسوا الأول في مسرحية مضحك الملك كما شارك في مسرحيات عطيل والأحدب و”دوران ودوران” والشيخ متلوف والعاشق والساحرة  كما شارك بدور مكدوف في مسرحية ماكبث وأدى دورا من أبدع أدوار المسرح المصري في تلك الأيام وهو دور بحيري بك في الضحايا..

جورج أبيض
جورج أبيض

فرقة عبد الرحمن رشدي

ومرة ثانية يترك عبد الرحمن  رشدي فرقة جورج أبيض لا ليعود إلى المحاماة مرة أخرى ولكن لكي يكون فرقة مسرحية تخرج منها عدد كبير من رموز المسرح والسينما في مصر

ترك عبد الرحمن رشدي فرقة جورج أبيض ليكون فرقته المسرحية باسم فرقة عبد الرحمن رشدي .. وقد حرص رشدي  عند تكوينه لفرقته على ضم عناصر مثقفة ومتعلمة شريطة أن تكون مواهبهم الفنية   جلية  ناصعة .. وانضم إلى الفرقة منذ البداية سليمان نجيب ومحمد عبد  القدوس وزكي طليمات  وأحمد علام ثم سرعان ما انضم إليها كثير ممن أصبحوا عمالقة كبارا بعد ذلك في تاريخ الفن المصري مثل عبد الفتاح القصري وعبد الوارث عسر وفاطمة رشدي وزكي رستم وغيرهم من عشرات النجوم في تاريخ الفن المصري

في 6 يوليو عام   1917 افتتحت فرقة عبد الرحمن رشدي أولى عروضها المسرحية  على خشبة مسرح برنتانيا  بعرض الأرليزية المقتبس من نص فرنسي لدوديه ومثل فيه رشدي دور فريدي ثم قامت الفرقة بتقديم مسرحيات  العصفور في القفص وطريدة الأسرة والرداء الأحمر  وتوسكا والشمس المشرقة  والموت المدني   وعشرين يوم في السجن والمحامي المزيف والعرائس ..

 وفي عام 1918 قدمت فرقة عبد الرحمن رشدي  أفضل مواسمها المسرحية  فقدمت مسرحيات جاكلين ومدرسة النميمة والأجراس ونيرون والبدوية والممثلة فيوليت وحلاق أشبيلية كما أخرج رشدي مسرحية العصفور في القفص التي كتبها محمد تيمور..

ولكن الظروف الاقتصادية الصعبة  وحالة الركود الاقتصادي الكبيرة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى كانت بالمرصاد لعبد الرحمن رشدي وفرقته  فقد كسدت الأحوال وأصبح ذهاب الجمهور إلى المسرح عسيرا وصعبا من الناحية المادية بالنسبة لأغلب الناس مما اضطر رشدي إلى حل فرقته في يناير عام 1921

ويعود رشدي مرة ثالثة للمحاماة  عودة مضطر حزين كسير لتوقف حلمه المسرحي  الذي ما انفك يلازمه لا يغادره أبدا فنراه وبعد حل فرقته و خفوت وميضه وانطفاء زخمه يحاول ويجاهد للعودة فيعمل في بعض العروض المسرحية  مثل تحت العلم والبؤر المرخصة والمأمون .. ويشارك في بعض اللجان والفعاليات المسرحية المختلفة.. وعلى استحياء تلتفت السينما لعبد الرحمن رشدي فتعطيه بعض الأدوار والمشاركات ومنها دوره في فيلم أنشودة الفؤاد مع نادرة وزكريا أحمد وجورج أبيض  قصة وسيناريو وحوار خليل مطران وإخراج ماريو فولبى ويعتبره الكثيرون أول فيلم مصري ناطق قبل فيلم أولاد  الذوات..

ودور عز الدين أيبك في فيلم شجرة الدر عام 1935  مع أحمد جلال وماري كويني وإخراج أحمد جلال .. قبل أن يرحل  رشدي في الثالث عشر من أكتوبر عا  1939 تاركا تاريخا مسرحيا مجيدا لا يذكر مع الأسف إلا مقرونا بأسماء نجوم آخرين انضموا ذات يوم إلى فرقته المسرحية.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock