ثقافة

لماذا يعتزل الأدباء والمبدعون “قبل الأوان”؟! 

تثير قضية انسحاب الكتاب والمبدعين الشباب من ساحة الإبداع مبكرًا تساؤلات جمة حول الأسباب الحقيقية التي تعجل بخروجهم من ملعب الأدب والتوقف عن الكتابة والتجريب مبكرًا.

يتكرر الأمر كثيرًا في الآونة الأخيرة تحت ضغط الإحباط واليأس وعدم التحقق المادي في ظل مجتمعات لا تهتم بالقراءة ولا تحتفي بالكتابة. وفي فورة الغضب من ضعف التأثير، واستحالة التغيير ينزوي مبدعون كثر وينطفئ توهجههم وتُدفن إبداعاتهم في مقابر النسيان.

في طريق واحد يتجاوز مبدعان يحلان على درجة التحقق ذاتها، غير أن أحدهما يكمل طريقه محققًا البزوغ واللمعان المنتظر، وينسحب الآخر مبكرًا مفضلًا الخروج وعدم الاستمرار.

في الأربعينيات من القرن الماضي، ظهر بمصر أديبان شابان توقع لهما الوسط الأدبي نجاحًا مُبهرًا هما نجيب محفوظ وعادل كامل. كانا الرجلان صديقين حريصين على مساندة بعضهما البعض واجتياز سلالم النجاح معًا، حتى أنهما دخلا معًا أول مسابقة أدبية في القصة بمصر، وفاز عادل كامل بالجائزة الأولى، بينما فاز”محفوظ “بالثانية. وفي سنة 1944 نشرعادل كامل روايته ” مليم الأكبر” فأحدثت انقلابًا في الحركة الأدبية واعتبرها النقاد نقلة كبيرة للقصة العربية، غير أنه كان غريبًا أن يقرر عادل كامل الاعتزال مبكرًا بعد أن تعجل تحقيق النجاح. وعندما سألوه عن سبب اعتزاله أجاب بأنه يكفي الساحة مجنون واحد اسمه نجيب محفوظ. ولم يكتف الأديب عادل كامل بهجرة الأدب والابداع فقط ، بل هجر الشرق كله إلى أميركا ليحيي هناك ويموت منسيًا.

على خطُاه، يسير بعض شباب المبدعين اليوم، والمتمردين على واقع لم يشاركوا في صياغته، ولم يعد غريبًا أن يطل بين حين وآخر أحد المبدعين المشهود لهم بالتميز مقررًا الانسحاب من خلال تغريدة أو بيان أو كلمة وداع.

عادل كامل ونجيب محفوظ
عادل كامل ونجيب محفوظ

فقر المبدعين

واحد من أدباء جيل الوسط، نشر ثلاثة روايات أحدثت ضجة ولفتت الأنظار لكنه انسحب مبكرًا ونشر قبل شهور بيان اعتزال الكتابة، وقال لـ”أصوات أونلاين”، طالبًا عدم ذكر اسمه إن الكتابة لا يُمكن أن تصبح مهنة يتعيش بها صاحبها في عالمنا العربي، وأن انشغال المبدعين بالبحث عن مصدر رزق يطغى على الإبداع.

ويحكي أنه كان يعتقد في البداية أن الروائي يحقق من كل عمل خمسين ألف جنيها على الأقل كعائد عن كل رواية يكتبها، غير أنه صُدم بأن بيع طبعة كاملة لكاتب معروف لا تحقق له أكثر من خمسة آلاف جنيهًا على الأكثر.

وفي حقيقة الأمر يشرح الكاتب المعتزل أن أكبر تعاقد لروائي مصري مع دار نشر يحصل بمقتضاه على 15% من سعر الغلاف، وأن قلة عدد النسخ المباعة يجعل أجر الكاتب ضئيلًا للغاية، ولا يكاد يكفي مصروف أسبوع واحد له.

ويذكرنا ذلك بتعليق شهير للروائي الجنوب إفريقي ليدودوما لينغاني الفائز بجائزة كاين العالمية للكتابة سنة 2016 عن روايته ” الذكريات التي فقدناها”، عندما سئل عما إذا كان سيوزع قيمة الجائزة (عشرة آلاف جنيه إسترليني) على زملائه المرشحين للجائزة، فقال” أتمنى ذلك، ولكن تذكروا أن هذا المبلغ هو كل ما حصلت عليه من الكتابة حتى الآن.”

الثبات في المكان

والثابت أن هناك كثيرين يمكن أن يعتزلوا لأسباب أخرى بخلاف الأسباب المادية المعروفة للناس دومًا. ففي بعض الأحيان ينتاب المرء شعور باللاجدوى أو عدم احتفاء المجتمع بالمبدعين والأدباء أو اعتقادهم بوجود شبكة مصالح وعلاقات شخصية تربط بين النجاح وبين المبدع.

أحد هؤلاء كان الروائي السوداني هشام آدم الذي فاز بجائزة الطيب صالح للرواية سنة 2010 ونشر ستة روايات كانت لها صدى طيبًا بين الأدباء، أبرزها روايتي “”قونقليز”، و”كاجومي”.

وعلى مدونته الخاصة كتب” آدم ” معبرًا عن الإحباط من الوسط الأدبي وعلاقاته وهو ما دفعه إلى الانسحاب من كتابة الرواية.

وفي رأيه فإن العلاقات العامة والقدرة على شراء النجاح والتحقق ضرورة لأي أديب وأن من لا يمتلك علاقات إخطبوطية قوية لا يصعد .

ويقول “اكتشفتُ أن الذي يُريد أن يصعد إلى الأعلى لابد له من أصدقاء يرتقي على أكتافهم، وأنا أصدقائي مثلي تمامًا، يسيرون على الأرض بخطوات وئيدة.”

ويتابع” لا أريد أن أقضي ما تبقى من عمري في مطاردة الوهم الذي أعرف أنه لن يتحقق.”

والواقع أن روح القنوط المستشرية بين أوساط الشباب المبدع تتسع يومًا بعد الآخر خاصة في ظل تطور وسائط التكنولوجيا وسرعة انتشار الأفكار المحبطة والمواقف الانهزامية.

إن بعض وقائع الفساد الموجودة في الوسط الأدبي تتردد ويتم تداولها عبر مواقع التواصل الاجتماعي وتساهم في زيادة إحباطات الجيل الأحدث.

هشام آدم
هشام آدم

أسباب مجهولة

وإذا كان الإحباط وعدم التحقق المادي سببًا مباشرًا في انسحاب كثير من الشباب ، فإن هناك من انسحبوا من المشهد بدون أسباب واضحة مثل الروائي المصري أحمد العايدي الذي أصدر  في 2003 روايته الأولى والوحيدة ” أن تكون عباس العبد” والتي فازت بجائزة ساويرس سنة 2006 وحققت مبيعات خيالية وترجمت إلى عدة لغات. وكان من الملاحظ أن ” العايدى” لم يكتب بعدها سوى ديوان شعر بعنوان ” العشق السادي” سنة 2009، واختفى تمامًا بعد ذلك من ساحة الإبداع.

ويرى الناقد الأدبي خيري حسن أن جيل الشباب صادم في انفعالاته مثلما هو غريب في اختياراته، وأنه كثيرًا ما يتحمس لتجربة شعورية، ثُم ينصرف عنها دون أسباب واضحة .

ويقول لكاتب السطور إن كثير من المنسحبين من الكتابة يتعجلون النجاح ويعتقدون أن اعتزالهم أو توقفهم نوع من التعبيرعن الاحتجاج تجاه أوضاع وأحوال لا يرضونها.

ويؤكد أن أكثر من نصف المنسحبين سرعان ما يعودون إلى الإبداع مرة أخرى بعد تجاوز فترات اكتئاب غالبًا ما يمر بها معظم المبدعين.

ويضيف قائلًا” المبدع في داخله رغبة محمومة للتميزوالتطورقد تخفت أحيانًا ،لكنها سرعان ما تتوهج مرة أخرى.”

وتنطبق بالفعل قصة عودة بعض المعتزلين على نماذج عديدة في الوسط الأدبي، فالأديب المصري أشرف الخمايسي اعتزل الكتابة تمامًا لمدة عشر سنوات انخرط خلالها في أعمال غريبة وانضم إلى جماعة السلفيين قبل أن يقرر العودة بعد ذلك بمحض إرادته.

ويعتقد البعض أن هناك أسبابًا شخصية قد تحكم كل منسحب أو معتزل عن الإبداع، فهناك من يعتزل متصورًا أن الفن أو الإبداع عمل مناقض للدين، وهناك مَن يجدون أنفسهم مُجبرين في ظل ظروف سياسية قاسية على التقيد بهامش المسموح به فيقررون الاعتزال.

نماذج أخرى قد تتعرض للظلم الإنساني وتجد فى الاعتزال قرارًا صائبًا مثلما فعل الشاعر والناقد عبد الرحمن شكري في الأربعينيات عندما قرر الاعتزال وإحراق كافة دواوينه وكتبه بعد رفض ترقيته.

خيري حسن
خيري حسن

محاولة لفت الانتباه

في الوقت ذاته، يرى بعض الأدباء والمثقفين أن قضية انسحاب المبدعين الشباب قضية مفتعلة ولا تستحق أي التفات لأن المبدع الحقيقي لا ينسحب ولا يعتزل ولا يُضرب عن الإبداع.

ويؤكد هؤلاء أن إعلانات الانسحاب أشبه بنوع من الدعاية غير المباشرة، ولفت الأنظار من جانب بعض مَن يُحسبون على الوسط المبدع.

ويدللون على ذلك بتكرارعملية اعتزال أدباء ومبدعين كبار، ومن جيلي الوسط والشباب، لبضعة سنوات ثُم عودتهم مرة أخرى للكتابة.

إنهم في تصور البعض يتاجرون بفكرة الاعتزال، وينتظرون مناشدات المبدعين والنقاد لمراجعة قراراتهم والعودة مرة أخرى، كأن الساحة الثقافية ستخسر عباقرة وفلتات نادرة باعتزالهم.

يقول السيناريست المعروف محمد حلمي هلال  لـ”أصوات أونلاين” إن انتشار الفيس بوك وسهولة الكتابة عليه أعطت الكثيرين وهما مفاده أنهم كتاب كبار، بينما ليس كل من يخط كلامًا على الفيس بوك هو كاتب.”

وكتب حلمي هلال عندما كان شابًا عدة أفلام سينمائية حققت نجاحًا كبيرًا كان أبرزها فيلمي ” حكايات الغريب سنة 1994 بطولة محمود الجندي وشريف منير وإخراج إنعام محمد علي. ” يا دنيا يا غرامي” سنة 1996 بطولة ليلي علوي وهالة صدقي، وإخراج مجدي أحمد علي. فضلًا عن عشرات المسلسلات التلفزيونية وحاز عشرات الجوائز.

ويؤكد ” هلال” أن قضية النشر نفسها اعتراها نفس الفساد المستشرى فى المجتمع حتى صار لدينا عشرات وعشرات من (كاتبات) الرواية والقصة المزيفين بالجرائد والمواقع الإلكترونية.

ويضيف قائلًا” كل شئ بات مصنوعًا ومزيفًا بالوساطة أو العلاقات أو الغش، والذين غادروا مبكرًا لم يكونوا كتابًا فى الأساس لأن الفنان أو الكاتب الحقيقى لايقوى على مغادرة نفسه إلا بالموت.”

ويتوقع أن تشهد السنوات القادمة الكثير من تلك الظواهر التى خلقتها وسائط الاتصال لا أكثر.

ويرفض “هلال” أن تكون الظروف الاقتصادية الصعبة سببا مباشرًا في هجرة المبدعين الشباب.

ويقول ” إننا كنا ومازلنا فقراء ومن سبقونا في الابداع كانوا أكثر فقرًا ولم نهجر الإبداع”.

ويتابع قائلًا” ” كنت أرى جيل الستينيات من المبدعين على المقاهي وأنا طالب جامعي يجلسون بلا نقود ويعلمون أن الأدب لا يؤكل عيشًا في بلد مثل مصر. “

محمد حلمي هلال
محمد حلمي هلال

العكس هو الطبيعي والمنطقي في تصور “هلال” الذي يكشف أنه كان يعمل محاميًا يكسب آلاف الجنيهات واعتزل المهنة تمامًا مفضلًا الكتابة ليحصل على عشرة جنيهات في المقال في مجلة الهلال.

Related Articles

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker