في فضاء شاسع يصدِّر الكاتب أحمد الحلواني روايته بمقوله أمبرتو ايكو”إن السرد الروائي شبيه بغابة متشابكة ملتبسة معقدة مغوية، الغابة لا تمنح مفاتيحها بسهولة للزائر الكسول، فهي تعج بالأصوات والأشجار وأوكار الطيور وآثار الزواحف والطرق الملتوية والمنعطفات، هي فضاء مفتوح ومغلق ساحر ومخيف، بسيط وشديد الكثافة.. وليس سهلا ارتياد تضاريسها والخروج بلا صعوبات “
كأن الكاتب يطلب منا أن نبحث عن المفتاح المناسب لفهم نصه وبالطبع ستتنوع المفاتيح وكل قارئ سيجد مفتاحا مختلفا بما يناسب أهواءه فللنص دائما مفاتيحه المتعددة، التي اهتديت لإحداها…. هداني إليه الكاتب نفسه في مقدمة روايته في قوله ” محاولة لفهم هذا الكائن العجيب المسمى الإنسان في رحلة الحياة المثقلة”
المفتاح هو التأمل في ذات بطلة الرواية “ريحانة” بما لاسمها من دلالات روحية، ريحانة.. كل ما يشم من الأزهار الناعمة الرقيقة ريحانة التي ترتبط برائحة الموت منذ ولادتها وقصة تسميتها بهذا الاسم:
“ريحانة أكمل القمري… ابتسم الدرويش ناظرا لأمي مشيرا بعصاه ناحية بطنها قائلا: في بطنك ريحانة” ص 35
تبدأ الرواية بمشهد لجثة عارية لذكر في حدود الثلاثين، الموت كاستهلال روائي يستهل الكاتب روايته به لتبدأ من النهاية لتحيلنا بعدها للبداية في تلك الرحلة للمجهول أو كما تقول بطلة الرواية “الموت هو الرحلة الحتمية لكل كائن حي، إلا أننا نخشاه، ربما لأنه يذهب بك في رحلة إلى المجهول، أو بالنسبة لبعض الناس نهاية لا يأتي بعدها شيء”
دون إيحاء من قريب أو بعيد لمعتقدات البطلة أو فلسفتها حول الحياة والموت، ثم تنتقل الرواية نقلتها من الموت للحياة حيث قصة البطلة التي تعشق أستاذها، وبعد أول حديث بينهما تقول لنفسها:
“كنت كأرض جرداء تبحث عن قطرة ماء وفى نفس الوقت أخشى أن تلاحقني غربان الندم طوال عمري”
لتبدأ المتناقضات بالظهور في الرواية.. الحياة والموت، الرغبة والندم، الغنى الفقر، الواقع الخيال، الانبهار الانشطار، صراعات الواقع والخيال
“الحالمون مثلي يهربون دائما من الواقع للعالم الخيالي، ولكني بالعكس… أدرك الواقع وأنغمس في الحقيقة التي أعيشها”
تلقى الرواية بعض الضوء على طبيعة الحياة للطبقة المتوسطة المكافحة في تطلعاتها للأفضل في رحلة كفاح الأب المستمرة لتوفير لقمة العيش، الأب الموظف في شركة الكهرباء الذي يصر على التعلق بالوظيفة رغم ضآلة راتبها معللا ذلك بقوله إن فاتك الميري تمرغ في ترابه
“لهذا لم يكن يهدأ أو يستريح، فبمجرد رجوعه إلى البيت يتناول غذاءه ويعود للشارع من جديد ليقوم بإصلاح المشاكل”
كذلك تسرد الرواية حياة تلك الطبقة بتفاصيلها وطبيعة تفكيرهم الناتجة من صلف العيش والكفاح من أجل توفير أبسط مستلزمات الحياة
(حياتنا بسيطة، بساطة الفقراء الطيبين، تعودنا أن لا نعترض على أي شيء، فاليد قصيرة.. والعين بصيرة)
لم تجد بدا من السخرية على طريقة محجوب عبد الدايم في (القاهرة 30) مستخدمة نفس كلمته الساخرة “طظ”.
https://www.youtube.com/watch?v=RBWXA3urGmI
” في الكلية أتوارى خجلا أو خوفا، أشعر بالضآلة أمام كل شيء… ملابسي المتواضعة أمام طالبات يرتدين بزهو ملابسهن الفاخرة، رائحة عطورهم غالية الثمن تطيح بعقول الشباب، أين أنتِ وسط كل هؤلاء؟! أضحك من نفسي وأتذكر كلمة محجوب عبد الدايم “طظ ” ص65
تستمر رحلة الرواية في حياة البطلة لتتوغل في نقطة التحول الكبرى في حياتها وهي علاقتها بأستاذها عصام فمنذ الوهلة الأولى تتنقل بنا بين وصف لطبقته وطبقتها وبين شقته التي البهو فيها يساوى عدة شقق مما تقطنها، بين ثرائه وفقرها ذلك التناقض الذي لم يمنع أن تنشأ بينهما قصة عشق.. لكنها دائما تؤكد على اعتزازها بنفسها وهو السلاح الذي تدافع به عن نفسها دائما.
الخوف والرغبة تناقض آخر، الخوف من الرجال بسبب قصة اغتصاب تعرضت لها البطلة وهى طفلة، أضف لذلك التحرش الذي تتعرض له باستمرار وبين رغبتها الجامحة في عصام وعلاقتها به.
“لكن فرحتي بعلاقتي بعصام تجاوزت ما يقلق بالي، تنتشلني من سراديب الخوف وتلقي بي في طريق البهجة رغم كل شيء”
الخوف من الرجال وقسوتهم والارتباط بهم ناتج من كل ما تسمعه يوميا وما تراه في حيها الذي تقطن فيه من قسوتهم وأهانتهم لزوجاتهم مثل كوثر بائعة الفاكهة ويتضح في قولها:
“إلا أنه كان يعتريني دائما خوف من الرجال، والارتباط بهم، فكل ما أراه أمامي أو أسمع به يزيد مخاوفي كحبل من الأشواك يلتف حول عنقي” ص64
كذلك في قولها: “لطالما استبعدت فكرة أن أكون زوجة في يوم ما.. فأبي حالة استثنائية أما الأغلب والأعم هو ما أراه في حالة أم كوثر، رجال يظهرون لك وحشية مخيفة، ولا تعرف لها سببا” ص 65
يظهر كذلك التناقض في اللون الأسود بتناقضاته فهو لون الزهد ونكران الذات، الزهد في الدنيا والتواضع وفى نفس الوقت لون فساتين السهرة في الحفلات والاحتفالات كما تقول:
“تناقض يثير في نفسي أشياء غامضة، كيف يصلح نفس اللون للتعبير عن حالتين مختلفتين متناقضتين تماما ؟! “
صورة المرأة في طقوس الغواية
الأنثى هنا أنثى ثائرة عاشقة متمردة تتجرد من دور الضحية التي طالما لازمها والخوف من الرجال نتيجة حادثة اغتصاب تعرضت لها وهى طفلة أضف لذلك مشاهداتها للذكور وقسوتهم في عالمها الشعبي الصغير الذي تتكشف فيه الأمور ولا مكان للخصوصية فتتغلب على دور الضحية الفريسة قائلة:
“لم يكن يعلم هذا المسكين أنني أنا من يستبيح جسده لمتعتي… بل أقوم بكل ما في وسعي في سبيل تحقيق ذلك” ص70
عندما يكتب الرجل على لسان الأنثى فذلك يعنى أنه يغوص في أعماقها ويفهم طريقة تفكيرها لكن سرعان ما تظهر تلك الذكورة للدفاع عن جنسه بين فينة وأخرى يظهر هذا كما يكتب على لسان ريحانة:
“أدرك تماما في قرارة نفسي أن مفاهيم وقيم المجتمع غرست بداخلنا نظرة خاطئة عن الرجال، فالرجل مهما أوتي من قوة إقناع ومداهنة لا يستطيع أن يستدرج المرأة، فهي تذهب إليه بإرادتها الحرة عالمة ما سوف يكون… فإن كان الرجل ذئبا فالنساء نمور وسباع” ص71
ويعود بنا إلى تلك النظرة المعتادة عن المرأة التي تجسد غواية حواء، فهي تتقن فنون الغواية منذ خلقت، ومنذ أخرجت آدم من جنته
“المرأة مخادعة بطبعها… وكل ما تقوم به الغواية في ملبسها ومظهرها الهادئ الوديع، وكل مساحيق التجميل التي تستخدمها لا تؤدى بنا إلا لنتيجة واحدة… الغواية، لكن المرأة تختار بعناية من تريد غوايته بل إنها تقتله لو امتنع عنها”
ثم تطالعنا صورة المرأة المطلقة ونظرة المجتمع لها بما تفرضه من قيود وأغلال عليها من وجهة نظر البطلة تقول:
“المرأة حين يفوتها قطار الزواج أو تطلَّق لسبب ما ينكمش الأفق في حياتها، تتجعد أشواقها كورقة مهملة نرمي بها لسلة المهملات، تنظر للحياة من ثقب الإبرة، وتتحول أحلامها إلى كابوس بغيض لا يفارقها”
الأنثى في الرواية أيضا تتغلب على خجلها وتصبح جريئة في التعبير عن مشاعرها وحبها
“في أحيان كثيرة كنت أجذبه بعنف وأرقص له، أنا الفتاة الخجول حتى الارتعاد، كيف صرت معه هكذا؟! ومن أين واتتني كل تلك الجرأة”
تستمر رحلة النفس البشرية كذلك في رحلتها بين الحلم والرجاء واليأس والأمل في مجتمع لا يعترف سوى بالمحسوبية والوساطة:
“أنظر إليه بشغف، إنه يرفض ترويض الحلم وتحويله للواقع القبيح الذي نحياه”
كذلك في رحلة البحث عن الذات في عالم طغت المادة عليه في نظرة ملائكية للبطل الرجل الذي يقول لها:
“أنا أبحث عن ذاتي، قلبي ضميري لقد اتخذت قراري منذ زمن بعيد، مساعدة الناس أهم عندي من مال الدنيا”
وكان الطبيعي مع تلك الرحلة ورصد التحولات التي يمر بها المجتمع منذ أحداث ثورة 25 يناير في تأريخ سريع حي له من وجهة نظر أبطال عاصروا وشاركوا بالفعل.
لتترك لنا بادرة أمل تمثلت في تعيين ريحانة معيدة بالكلية كملمح لتغيير قادم، تلك الرحلة التي تركت أثارها على الذات وجعلت البطلة تواجه مخاوفها وتتحداها كما خرج الشعب كله يعلن عن ثورته مشاركا فيها بكافة أطيافه
تنتهي الرحلة التي تصل بها الذات إلى الوضوح ورفض كل زيف مر بها، مرحلة من التسامح مع كل شيء وكل الأشخاص في حالة صوفية من الهدوء والسلام.