رؤى

كيف تعاملت الصحافة المصرية مع الصهيونية منذ نشأتها؟ 

لعل المفيد في حادثة التطبيع المشينة التي وقع في براثنها مؤخرا أحد الفنانين المصريين قد تجلى في إتاحة الفرصة أمام الشعب المصري بكل طوائفه للتأكيد على أنه لا مجال لقبول فكرة التطبيع الشعبي مع العدو الصهيوني وهو ما فتح المجال مجددا لطرح الحوار حول نشأة الحركة الصهيوينة وكيف تعامل معها الشعب المصري منذ لحظات ميلادها الأولى.

الدكتورة سهام نصار المتخصصة في مجال دراسة الحركة الصهيونية في دراستها المعنونة «موقف الصحافة المصرية من الصهيونية 1897- 1917 .. دراسة تحليلية لصحف .. الأهرام والمقطم والمؤيد واللواء والجريدة والأهالي» تطرح قضية هامة تتعلق بمدى وعي الصحافة المصرية بخطورة الحركة الصهيوينة وأهدافها قبل صدور وعد بلفور في 2 نوفمبر من عام 1917، وهل تمكنت الحركة الصهيونية من اختراق العقل العربي آنذاك؟ وذلك من خلال الكشف عن موقف الصحافة المصرية من الصهيوينة خلال الفترة من «1897-1917» اعتمادا على طرحها لعدة تساؤلات فرعية تتمثل في: ما هى سمات الرؤية التي شاعت عن الصهيونية وأهدافها في الصحافة المصرية ؟ وأي الصحف المصرية كان أكثر اهتماما بموضوع الصهيونية، وأكثر وعيا بأهدافها: صحف الشاميين أم صحف المصريين؟ وما موقف الصحافة المصرية من الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ومن شراء اليهود للأراضي فيها؟ إلى جانب موقف الصحافة المصرية من فكرة إنشاء دولة يهودية في فلسطين؟ وهل كانت هناك علاقة بين اتجاهات الصحف نحو الصهيونية وبين انتمائها السياسي؟ ومن هم أبرز الكتاب الذين اهتموا بالكتابة في هذا الموضوع وما هى طبيعة اتجاهات كتاباتهم؟

موقف الصحافة المصرية من الصهيونية
موقف الصحافة المصرية من الصهيونية

مصر مطلع القرن العشرين

التعرف على موقف الصحافة المصرية من الحركة الصهيوينة خلال الفترة من عام 1897 حتى عام 1917 يستلزم المرور سريعا على الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي سادت مصر خلال تلك الحقبة من تاريخ مصر.

الظروف التي عاشتها مصر بتلك الحقبة تعود جذورها لما شهدته مصر من انهزام العرابيين بموقعة التل الكبير وخضوع مصر للاحتلال البريطاني ويصف عبد الرحمن الرافعي تلك الحقبة مشيرا إلى أن الحكومة المصرية قد استسلمت لسلطات الاحتلال ومن قبلها استسلم الجيش الذي كان يقود الحركة الوطنية ومعهم استسلم الخديوي وجمهرة الشعب المصري، فخيم على البلاد «جو من الخضوع والإذعان وعم اليأس والقنوط».

عبد الرحمن الرافعي
عبد الرحمن الرافعي

بعد أن قضى الاحتلال على رموز الحركة الوطنية وقادتها، قام بإسكات ألسنة حالهم، فتوقفت صحيفة عبد الله النديم وصحيفتي «السفير» و«النجاح»، إلى جانب منع دخول الصحف العربية التي كان يتم طباعتها في فرنسا داعية إلى المقاومة، وأصبح قانون المطبوعات سلاحا تشهره الحكومة في وجه الصحف غير المرغوب فيها وفي محاولة لتجنب المشكلات التي يمكن أن تنجم عن تعطيل «الأهرام» التي كانت تحظى بحماية فرنسية، تم توجيه أصحاب مجلة «المقتطف» نحو إصدار صحيفة «المقطم» فيما عُرف بمبدأ «محاربة الصحافة بالصحافة».

غير أنه ورغم كل ما بذله الاحتلال من محاولات للقضاء نهائيا على الروح الوطنية إلا أن تلك الروح ما لبثت أن عادت لتشهد مصر مرحلة جديدة من البعث الوطني فكان صدور صحيفة «المؤيد» عام 1889 لصاحبها الشيخ على يوسف –أحد تلاميذ جمال الدين الأفغاني- بمثابة إعلان عن بزوغ فجر جديد للحركة الوطنية المصرية حيث فتحت المؤيد صفحاتها لشباب الحركة الوطنية فكتب فيها الزعيم الوطني مصطفى كامل وزودها بالدعم المالي زعيم الأمة سعد زغلول والزعيم محمد فريد ونجحت الصحيفة في إحراز شعبية كبيرة بين صحف ذاك العصر.

جريدة المؤيد
جريدة المؤيد

حين انحرف صاحب المؤيد بعض الشىء داعما لبعض مواقف الاحتلال بادر مصطفى كامل بتأسيس صحيفة «اللواء» عام 1900 التي لم تتمكن من أن تنافس المؤيد في بداية نشاتها إلا أنها ومع مرور الوقت قد تمكنت من أن تقضي على المؤيد كمنافس ومنازع لها.

جاءت حادثة دنشواي عام 1906 لتجدد بعث الشعور الوطني في مصر ومن ثم برز في أعقاب تلك الحادثة ثلاث تيارات أو اتجاهات في العمل الوطني: التيار الأول مثله مصطفى كامل وصحيفته «اللواء» وأطلق عليه مجازا اسم «الحزب الوطني» وتكون التيار الثاني من مجموعة صغيرة معارضة لمصطفى كامل ورفاقه أطلقت على نفسها مسمى «الحزب الوطني الحر» واتخذوا من جريدة «المقطم» منبرا لهم، ومثل التيار الثالث صحيفة «الجريدة» التي أسسها أحمد لطفي السيد، وبذلك أصبح الجو العام مهيأ لظهور الأحزاب المصرية فتأسس «الحزب الوطني الحر» و«حزب الأمة» الذي ضم زعيم الأمة «سعد زغلول» تحت شعار «مصر للمصريين» لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ مصر وتوالت الأحداث حتى صدور وعد بلفور عام 1917.

جريدة المقطم
جريدة المقطم

صحف الشوام بمصر

قبل التطرق للكيفية التي عالجت بها الصحف المصرية تلك الموضوعات المتعلقة بنشاة الحركة الصهيونية هناك ضرورة للإشارة إلى أن الصحف المصرية ولدت على يد فريقين ينتمي الفريق الأول لبلاد الشام وينتمي الفريق الثاني لأبناء مصر.

تأسست صحيفة «الأهرام» عام 1876 بمدينة الأسكندرية على يد سليم تقلا وبشارة تقلا وهما لبنانيان ولدا بكفر شيمة بلبنان وتلقيا تعليمهما هناك ثم انتقلا إلى الأسكندرية فأصدرا «الأهرام» التي ورغم كونها كانت تحظى بالحماية الفرنسية إلا أنها كانت مستقلة إلى حدا ما فلم تنتمي إلى أي من التيارات أو القوى السياسية التي ظهرت بمصر خلال فترة الاحتلال البريطاني وأفسحت صدر صفحاتها للزعيم الوطني مصطفى كامل، واستعانت الصحيفة بالعديد من رموز الفكر اللبناني كان من بينهم خليل مطران الملقب بشاعر القطرين، والكاتب داود بركات الذي تولى إدارة الأهرام بعد وفاة صاحبها بشارة تقلا عام 1901.

خلال الفترة من 1897 حتى 1908 عزفت صحيفة الأهرام عن إبداء الرأى حول المسألة الصهيونية، مكتفية  بتعريف قرائها بالصهيونية وأهدافها من خلال ما كانت تنشره من أخبار خارجية مترجمة عن الصحافة الغربية، وبلغ عدد المقالات التي نشرت خلال تلك الفترة عن الصهيونية ستة مقالات فقط ثلاثة منها لكتاب من خارج الصحيفة ذاتها.

غلاف العدد الأول من جريدة الأهرام
غلاف العدد الأول من جريدة الأهرام

تغير الحال خلال الفترة من 1909 حتى عام 1915 حيث طرقت الأهرام المسألة الصهيونية عبر ثمانين مقالا كان أغلبها لكتاب من خارج الصحيفة وكان إبراهيم سليم النجار شامي الأصل يقيم بمصر من أبرز كتاب الصحيفة الذين أولى اهتماما بتلك القضية، وحين عمل كمراسل للصحيفة بالآستانة أصبح من أبرز كتابها المناهضين للحكم العثماني والداعين لتحرير سوريا ولبنان، وكان واحدا من بين الذين حكمت عليهم السلطات العثمانية بالإعدام غيابيا خلال الحرب العالمية الأولى.

أكد النجار على أنه يربأ بنفسه على الاتهام بالتعصب الديني وأنه إنما يتعامل مع المسألة الصهيونية من منظور وجوهها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، تاركا كل ما له صلة بالدين وإن كان يرى أن هذه الصفة من أهم صفات الحركة الصهيونية، واستشهد النجار في مقالاته بكتابات بعض اليهود في دعم آرائه وأفكاره.

بذات السياق تأسست صحيفة «المقطم» على يد ثلاثة من اللبنانيين: يعقوب صروف وفارس نمر وشاهين مكاريوس الذين نشأوا في أكبر مدرسة غربية تأسست بالشرق وهى الكلية الأمريكية ببيروت، وكان أصحاب «المقطم» قد أحرزوا شهرة بعالم الآدب والصحافة بفضل «المقتطف» تلك المجلة التي كان قد أنشأها صروف بالاشتراك مع فارس نمر في بيروت عام 1876، وحين انتقل أصحاب «المقتطف» بمجلتهم إلى مصر عام 1885 كانت شهرتهم قد سبقتهم إليها فتم الترحيب بهم، وزادت شهرتهم مع تأسيس صحيفة «المقطم» عام 1889.

المؤسف حقا أن أصحاب المقتطف الثلاثة هم من اختارهم اللورد كرومر لتأسيس صحيفة «المقطم» لتصبح لسان حال الاحتلال البريطاني في مصر ولاستخدامها في تنفيذ سياسته الرامية إلى «محاربة الصحافة بالصحافة» حيث كان قد بات في حاجة لتأسيس صحيفة يواجه بها صحيفة «الأهرام» ومن ثم سعى لتأسيس صحيفة «المقطم».

يعقوب صروف
يعقوب صروف

كان فارس نمر أحد مؤسسي «المقطم» قد اقترن عام 1888 بابنة قنصل إنجلترا السابق في الأسكندرية ثم سافر إلى لندن وبات من أخلص الأصدقاء المقربين من اللورد كرومر، ولم يكن فارس نمر وحده الذي يتمتع بعلاقات وثيقة مع الإنجليز وإنما كان زميلاه يعقوب صروف وشاهين مكاريوس أيضا لهم ذات العلاقات، كما كان لثلاثتهم علاقات بدوائر الماسونية التي كان يسيطر عليها اليهود في مصر.

اثمرت علاقات شاهين مكاريوس بالماسونية عن أنه قد أصبح رئيسا لتحرير مجلة «اللطائف» الماسونية وبات من كبار زعماء الماسونية في مصر والشرق ومن ثم أصدر كتاب عام 1904 بعنوان: «تاريخ الإسرائليين» عظم فيه من شأن الجمعية الصهيونية ومن تاريخ اليهود في مصر .

في ظل تلك العلاقات التي ربطت أصحاب «المقطم» بالإنجليز والمحافل الماسونية خرج الحلم الصهيوني إلى حيز الوجود حتى أن حاييم وايزمان رئيس المنظمة الصهيونية العالمية أشار في مذكراته أنه حين زار مصر عام 1918 لم يلمس أي روح عدائية في الدوائر التي كان يسيطر عليها الدكتور فارس نمر وأمثاله أصحاب «المقطم» بهذا المعنى يمكن القول أن «المقطم» كانت بمثابة منبرا للحركة الصهيونية بمصر خاصة إذا علمنا أنها فتحت المجال لعدد من الكتاب الصهاينة للنشر على صفحاتها، بعضها عُرف بالاسم كنسيم ملول الذي تصدى للرد على ما كان ينشر ضد الصهيونية، وبعضهم كان ينشر دون اسم تحت مسمى «الصهيوني» أو «اليهودي» أو «الإسرائيلي».

فارس نمر
فارس نمر

موقف صحيفة «المقطم» الداعم للحركة الصهيونية التي أسسها الشوام الثلاث لا يعني بأي حال من الأحوال أن الكتاب الشوام في مصر على عمومهم قد لعبوا دورا في دعم الحركة الصهيونية فتاريخ الصحافة المصرية يشهد لبعض الشوام بأنهم ربما كانوا أكثر وعيا بمدى خطورة الحركة الصهيونية ذلك أن الكتاب المصريين كانوا منشغلين بقضية الجلاء والاستقلال إضافة لحساسية طرح المسألة الصهيونية بذلك الحين في ظل وجود طائفة يهودية بمصر يتمتع العديد من أعضائها بعلاقات وثيقة مع كبار الشخصيات المصرية والبريطانية في البلاد على حدا سواء.

وللحديث بقية.. .

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock