رؤى

كيف انتهت أسوأ خمسة أوبئة في التاريخ؟

عرض وترجمة: أحمد بركات
مثلما تزدهر الحضارات الإنسانية، ’تزدهر‘ أيضا الأمراض المعدية. فالأعداد الكبيرة من الأشخاص التي تعيش على مقربة من بعضها البعض، ومن الحيوانات، وتعاني في الغالب من تردي الأنظمة الصحية وسوء التغذية توفر أرضا خصيبة لظهور المرض. كما تؤدي طرق التجارة الخارجية الجديدة إلى انتشار الأمراض المعدية الجديدة على نطاق واسع، مما يؤدي في النهاية إلى ظهور أوبئة عالمية لأول مرة.

وتقدم هذه المقالة عرضا تاريخيا لكيفية انتهاء أسوأ خمسة أوبئة شهدها العالم.

1- طاعون جستنيان.. لم يبق أحد ليموت

على مدى التاريخ المسجل، نتجت ثلاثة من أكثر الأوبئة فتكا عن نوع واحد من البكتريا يسمى “يرسينيا بيستيس”، وهو عدوى قاتلة، ويعرف أيضا باسم الطاعون.

وصل طاعون جستنيان إلى القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، في عام 541 م عبر البحر المتوسط قادما من مصر التي كانت تؤدي الضريبة إلى الإمبراطور جستنيان في شكل حبوب بعد أن تمكن من فتحها قبل وصول الطاعون إلى حاضرته بعهد قريب. كانت البراغيث الموبوءة بهذا الطاعون قد امتطت أجسام الفئران السوداء التي اقتاتت على هذه الحبوب.

أباد الطاعون القسطنطينية، وانتشر كالنار في الهشيم في جميع أنحاء أوربا وآسيا وشمال أفريقيا والجزيرة العربية، وقتل ما يقدر بـ 30 إلى 50 مليون شخص، أي حوالي نصف سكان العالم آنذاك.

“لم يعرف الناس سبيلا إلى مقاومة هذا الطاعون إلا بمحاولة تجنب المرضى”، كما يقول توماس موكيتيس، أستاذ التاريخ بجامعة ديبول. وأضاف: “فيما يتعلق بكيفية انتهائه فإن أفضل ما يمكن أن نخمنه هو أن أغلب الناس الذين أصيبوا بالوباء نجوا بطريقة ما وأصبح لديهم مناعة جيدة”.

طاعون جستنيان
طاعون جستنيان

2- الموت الأسود – اختراع الحجر الصحي

لم يختف الطاعون تماما، وعندما عاود الكرة بعد ما يقرب من 800 عام من الزمان، عمل في الناس بلا هوادة، حيث حصد “الموت الأسود” الذي اجتاح أوربا في عام 1347 أرواح 200 مليون شخص في أربع سنوات فقط.

في هذه الأثناء أيضا لم يكن الناس على دراية علمية بكيفية منع انتشار المرض، كما يقول موكيتيس، لكنهم أدركوا أن عليهم القيام بشيء ما ولو على وجه التقريب. لذا، قرر المسئولون النبهاء في مدينة راجوزا الساحلية التابعة آنذاك لمدينة البندقية عزل البحارة الذين وصلوا إلى البلاد مؤخرا حتى يتسنى لهم التحقق من خلوهم من المرض.

في البداية، تم احتجاز البحارة في سفنهم لمدة 30 يوما، وهو ما أطلق عليه في قانون البندقية اسم “trentino” (العزل القسري لمدة 30 يوما). وبمرور الزمن، قرر المسئولون في البندقية زيادة هذه المدة إلى 40 يوما (quarantino) (ومنها اشتقت “quarantine” التي تعني “الحجر الصحي”، وبدأ تطبيقه في العالم الغربي).

“نجح هذا بلا شك إلى حد كبير”، كما يقول موكيتيس.

الموت الأسود
الموت الأسود

3- طاعون لندن العظيم.. حبس المرضى

لم تحصل لندن على ’فترة استراحة‘ بعد “الموت الأسود”، حيث عاود الطاعون الظهور كل 10 سنوات تقريبا في الفترة من 1348 إلى 1665، بما يعادل 40 موجة تفشي خلال ما يزيد قليلا على 300 عام. ومع كل ظهور للوباء، يدفع 20% من الرجال والنساء والأطفال الذين يعيشون في العاصمة البريطانية حياتهم.

وبحلول بداية القرن السادس عشر، فرضت إنجلترا أول قوانين تقضي بعزل المرضى. وتم تمييز البيوت التي غزاها الطاعون بحزمة قش تُثبت في عمود بالخارج. وفي حال تسبب المريض في نقل الوباء إلى أعضاء الأسرة، يتحتم عليه حمل عمود أبيض عند خروجه إلى الأماكن العامة. وساد اعتقاد بأن القطط والكلاب حاملة للمرض، ومن ثم أجريت مذابح جماعية طالت مئات الآلاف من هذه الحيوانات.

لقد كان الطاعون العظيم، الذي وقع في عام 1665، هو آخر وأسوأ تفشي وبائي حدث على مدى قرون من الزمان، حيث أودى بحياة مائة ألف من سكان لندن في سبعة أشهر فقط، تم خلالها حظر جميع الأنشطة الترفيهية العامة، وعُزل الضحايا قسرا في بيوتهم التي رُسم على أبوابها صليب أحمر وإلى جانبه عبارة توسل إلى الله بالعفو كان نصها:Lord, have mercy upon us (يا رب ارحمنا).

وبرغم قسوة إجراءات حبس المرضى في منازلهم، ودفن الموتى في مقابر جماعية، إلا أنها كانت تمثل الطريقة الوحيدة لوضع نهاية لآخر موجات الطاعون العظيم.

طاعون لندن العظيم
طاعون لندن العظيم

4- الجدري.. مرض أوربي يعيث في العالم الجديد

استوطن الجدري أوربا وآسيا والجزيرة العربية على مدى قرون عديدة، وأودى بحياة ثلاثة من كل عشرة أصيبوا به، وترك الباقين بندوب تنم عنه. لكن معدلات الوفاة في العالم القديم بدت قليلة مقارنة بالدمار الذي حاق بسكان العالم الجديد عندما وصل إليهم هذا الفيروس في القرن الخامس عشر مع المستكشفين الأوربيين.

لم يكن لدى شعوب ما نطلق عليه اليوم المكسيك والولايات المتحدة أي مناعة طبيعية ضد الجدري، ومن ثم فقد تمكن الفيروس من اجتثاث حيوات عشرات الملايين بلا هوادة.

“لم تحدث مقتلة على مدى التاريخ البشري تضاهي تلك التي حدثت في الأمريكتين، والتي راح ضحيتها 90% إلى 95% من السكان الأصليين على مدى قرن من الزمان”، كما يقول موكيتيس. ويضيف: “في هذه الغضون، تراجع عدد سكان المكسيك من 11 مليون قبل الغزو إلى مليون فقط”.

وبعد قرون، أصبح الجدري أول وباء فيروسي ينتهي بلقاح. ففي نهاية القرن الثامن عشر، اكتشف طبيب بريطاني يدعى إدوارد جينر أن بائعات اللبن يصبن بفيروس أقل خطورة يسمى “جدري البقر” (cowpox) بدا له أنه يشكل مناعة ضد وباء الجدري. وللتحقق من ذلك، قام جينر بتلقيح ابن البستاني الذي يعمل لديه، والبالغ من العمر تسع سنوات، بفيروس “جدري البقر” ثم عرضه لفيروس الجدري. وبالمتابعة، لم تظهر على الغلام أي آثار سلبية.

“يجب أن يكون القضاء على الجدري، الآفة الأكثر بشاعة من بين الآفات التي أصابت الجنس البشري، هو النتيجة النهائية التي تمخضت عنها هذه التجربة”، كما كتب جينر في عام 1801.

كان جينر محقا، حيث تحقق ذلك بعد قرنين فقط من الزمان عندما أعلنت منظمة الصحة العالمية في عام 1980 استئصال الجدري نهائيا من على وجه الأرض.

الجدري

5- الكوليرا.. انتصار بحوث الصحة العامة

في الفترة من بداية القرن التاسع عشر حتى منتصفه، اجتاحت الكوليرا إنجلترا، وسقط على إثرها عشرات الآلاف من القتلى. في هذا السياق، تؤكد النظرية العلمية السائدة اليوم أن انتشار هذا المرض يعود بالأساس إلى موجة هواء ملوث يطلق عليه “الوبالة” (Miasma). لكن طبيب بريطاني يُدعى جون سنو ساورته شكوك بأن هذا المرض الغامض، الذي يقتل ضحاياه في غضون أيام من ظهور أعراضه الأولى، يقبع في مياه الشرب في لندن.

تعامل سنو مع الأمر وكأنه “شارلوك هولمز” العلوم، حيث قام ببحث سجلات المستشفيات وتقارير المشرحة لتتبع مواطن التفشيات القاتلة، ثم صمم رسوما وجداول جغرافية لرصد حالات الوفاة الناجمة عن الكوليرا على مدى كل عشرة أيام، ووجد أن مجموعة من 500 إصابة قاتلة تعيش في محيط مضخة “شارع برود”، وهي بئر مشهور بالمدينة يمدها بمياه الشرب.

“بمجرد أن أدركت الموقف وعرفت مدى توغل الوباء، ساورتني على الفور شكوك قوية بشأن تلوث مياه أهم مضخة في “شارع برود”، كما كتب سنو.

وبعد جهد دؤوب، أقنع سنو المسئولين المحليين بإزالة المقبض الخاص بضخ مياه البئر في شارع برود حتى لا يتمكن أحد من استعمالها. وكما السحر، اختفت العدوى. ربما لم تقض جهود سنو على وباء الكوليرا بين عشية وضحاها، لكنها قادت في نهاية المطاف إلى تدشين جهود عالمية لتحسين سياسات النظافة العامة في المناطق الحضرية وحماية مياه الشرب من التلوث.

تم بالفعل القضاء على الكوليرا إلى حد كبير في الدول المتقدمة، لكنها تظل – برغم ذلك – قاتلا مخيفا لشعوب العالم الثالث التي تفتقر إلى المعالجة اللازمة لمياه الصرف الصحي والحصول على مياه شرب نظيفة.

الكوليرا في دول العالم الثالث
الكوليرا في دول العالم الثالث

ديف روس
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock