«أعطني خبزا ومسرحا أعطيك شعبا مثقفا» ، مقولة مهمة توارى اسم قائلها ولكن ظل مضمونها ومعناها يشهد على قيمة الفنون و الدور الذي يمكن أن يلعبه في حياة المجتمع من تعزيز للقيم و الهوية رغم محاولات البعض حصاره داخل مساحات التهريج إلى حد الإسفاف بدعوى أنها كوميديا.
المؤكد أن المسرح فن لازال يجد من يتحمس لرفع لوائه والتأكيد على رسالته حتى لو كانت جهات ضعيفة لا تجد من يدعمها أصلا وعلى كافة المستويات ، وفي مقدمتها «الفرق المستقلة» التي تجتهد في الصمود رغم كل المعوقات والعثرات التي تعترض طريقها.
فهل تمكن«المسرح المستقل» من أن يحفر مكانته على الساحة وأن تكون له سماته وملامحه الخاصة رغم كل التحديات؟ و هل واكبته حركة نقدية و إعلامية أم كان التجاهل حليفه؟
ماذا عن المعاناة التي تواجه الصناعة وكيف يواجهونها بما يسمح لهم بمواصلة العطاء، وكيف يمكن الحفاظ على الاستقلالية بما لا يعيق حرية الإبداع ؟، وهل يمكن اعتبار هذه الفرق المستقلة جزء من مسرح القطاع الخاص الذي تراجع مؤخرا بعدما كان يوما ما يملأ السمع و الأبصار.
https://www.youtube.com/watch?v=1Kh7-raCvAE
اختيارات
الكثير من المتغيرات طرأت على الحياة الفنية المسرحية والمسرح المستقل أحد الأشكال التي عرفت طريقها للساحة بعيدا عن مسار المسرح الرسمي الذي ترعاه الحكومات، غير أن طريقه ليس مفروشا بالورود رغم ما يميز الصناع من ولاء كامل للعمل الفني و حاله من التفاني تتصدى لأي صعوبات وهو ما أكدت عليه د. سامية حبيب أستاذ النقد والدراما بالمعهد العالي للنقد الفني مشيرة لأن الصناع يحرصون على اختيار أعمالهم وفق حسابات فنية خالصة و بعيدا عن المكسب المادي رغم أهميته بالتأكيد لضمان دوران عجلة الإنتاج.
حبيب ترى أن غياب المسرح التجاري التقليدي والذي كان متربعا على المشهد لسنوات يأتي لصالح صعود ألوان مسرحية أخرى أكثر انحيازا لرسالة الفن عموما والمسرح بشكل خاص، مشيرة لأن المسرح التجاري «السياحي» لم يضف للمسرح شيئا و لكنه انتقص منه كثيرا بل أساء إليه و لقيمته، مؤكدة أن «الفرق المستقلة» جزء من المسرح الخاص و ينطبق عليها كل ما يعانيه من عثرات وأزمات يضاف لها عدم وجود جهات إنتاجية أو قنوات فضائية تتحمس لدعمه كما حدث مع الفنان أشرف عبد الباقي و الذي تمكنت تجربته مع فرقة مسرح مصر من الصمود لحماس إحدى القنوات لدعمه ماديا بعدما نجح «منفردا» في تحريك مياه المسرح الراكدة و لفت الأنظار لتجربته ومن ثم وجد جهات دعم، يضاف لذلك تصدره للمشهد بكل نجوميته ، بعكس الفرق المستقلة والتي يشارك في عروضها هواه سواء علي الخشبه أو خلف الستار، لا يحركهم إلا عشقهم للمسرح فقط، و رغبتهم في تقديم فن يعبر عن أحلامهم و طموحاتهم.
معوقات
معوقات ومشاكل كثيرة تواجه فرق المسرح المستقل في مقدمتها التمويل كما يؤكد موريس عدلي المخرج المسرحي و المؤسس لفرقة أبيض في أسود المستقلة مشيرا لأنه أبرز وأهم العثرات نظرا لأن أي عرض مسرحي يحتاج مبالغ طائلة لتغطية تكاليف خروجه للنور نظرا لأن المسارح الصالحة للاستخدام فنيا أي المجهزة من حيث الصوت والإضاءة وكل ما يحتاجه العرض المسرحي أصبح ايجارها مبالغا فيه وبما يعوق أي ميزانية خصوصا إذا أضفنا الضرائب والتي تضاعفت هي الأخرى،ما يدفع أي إدارة مسرحية لرفع قيمة التذكرة حتى تتمكن من تغطية كل هذه التكاليف بفرض أن أغلبية العاملين يحصلون على أجور رمزية مقارنة بالسوق و أحيانا كثيرة بلا أجور أصلا ، وذلك حبا في المسرح ورغبة منهم في تقديم عمل فني جيد يتوافق و ما يؤمنون به.
نفس الكلام يؤكده الفنان والمنتج الفني أحمد يحيى مشيرا لأن البحث عن مصادر للتمويل ليست مسألة سهلة كما قد يتصور البعض نظرا لقلة الجهات الداعمة للفنون وصعوبة الحصول على تمويل من خلالها، يضاف لذلك عدم وجود المنتج المتخصص الذي يتحمس لخوض التجربة كما في عهود سابقة ، ولو تم تدبير التمويل و نجحنا في توفير مسرح مجهز يتوافق وميزانية العمل نصطدم بمشكلة الرقابة أحد أبرز الصعوبات التي تضاف لمشاكل التمويل أو إيجاد قاعة مسرحية مناسبة فنيا و ماديا، إذ أن النص المسرحي ربما يظل لشهور في أروقة الرقابة قبل أن يتم رفضه ومن دون أسباب منطقية ومبررة، وكأنهم يتحرجون من إيجازه خوفا من المساءلة.
يحيى والذي قدم العرض الناجح «تشارلي ومصنع الشيكولاتة» ينفي تماما عدم حماس الجمهور لمشاهدة عروض الفرق المستقلة، مؤكدا أن العرض الجيد يعرف طريقه للجمهور، خصوصا في ظل «السوشيال ميديا» التي نجحت في تعريف الجمهور بأحدث و أنجح العروض، مؤكدا أن نجاح عرضهم شجعهم على تكرار تقديمه أكثر من مرة رغم كل الصعوبات.
خصوصية
بعيدا عن الصعوبات التي تعيق ظهور هذه الفرق، أو في قدرتها على الصمود، هل يمكن القول إن تجربة المسرح المستقل في مصر لها سماتها وملامحها الخاصة و الواضحة رغم كل التحديات؟
د. سامية من جانبها ترى أن كثيرا من فرق المسرح المستقل وعلى مدى تاريخه نجحت بالفعل في أن تصنع «خصوصيتها» رغم افتقادها للدعم سواء إعلاميا أو ماديا، صحيح جمهورها لازال محدود نظرا لعدم قدرتهم على الترويج دعائيا لما يقدمونه، ولكن يبقى عشقها للمسرح و أهمية رسالته أبرز الملامح التي يمكن تلمسها.
الفنان أشرف عبد الباقي هو الآخر يرى أن عشق المسرح والإيمان بدوره وأهميته على كافة المستويات أحد أبرز عوامل نجاح أي تجربة فنية و بالأخص مسرحيا، نظرا لصعوبة العمل المسرحي والذي يحتاج لمجهود كبير في التدريبات والبروفات التي تستغرق وقتا طويلا ومن دون عائد مادي كما في معظم الفرق المستقلة و التي تعتمد في مجمل عناصرها على الهواه.
وحتى على مستوى تجربته الخاصة مع مسرح مصر أو فرقته الحالية، لو لم يكن العشق خالصا للمسرح من كل العاملين سواء من الفنانين أو الفنيين، مع إدراك بأهمية المسرح ورسالته، والرغبة في تقديم أعمال فنية جيدة لما تمكنا من تحقيق النجاح و الذي لم يكن سهلا بأي حال.
عبد الباقي يؤكد أن الاختلاف والتنوع يخلق تجربة جديدة من شأنها إعادة الروح للمسرح و تحريك المياه الراكدة، كما يسهم في اكتشاف أجيال جديدة حتما ستثري الساحة الفنية عموما، وهو ما حدث بالفعل بعد تجربة مسرح مصر والتي تحول معظم المشاركين فيها لنجوم يملؤون السمع و البصر.