ليس غريبا أن أصف العلاقة بين الشعر والسلطة بأنها علاقة إشكالية وذلك لأن الشعر يسعى إلى تحقيق الحلم وتغيير الواقع بينما هى – فى حال سعيها إلى تحقيق المطالب المشروعة وطبقا لتعريف السياسة – فن إدارة ” الممكن ” وهى علاقة متداخلة – حتما – وذلك لأن الشاعر وصاحب السلطة يسعيان – كل بطريقته – إلى كسب الرأى العام ومن هنا يبدأ الصدام ليقين السلطة بدور الكلمة وتأثيرها ف” الكلمة قد تفعل ” كما كان يقول صلاح عبد الصبور.
ولمعرفة السلطة بهذا الدور فقد لجأت إلى إحدى وسيلتين : الاحتواء أو الإقصاء منذ العصر الجاهلى إلى الآن بغض النظر عن تغير طبيعة السلطة من عصر لآخر فقد كانت القبيلة – فى العصر الجاهلى – أشبه بالدولة التى تحتوى شعراءها المدافعين عنها وتقصى الشعراء الخارجين على قوانينها مثل ” الصعاليك” الذين شكلوا – إبداعا وتمردا – أول حركة تمرد اجتماعى فى مواجهة سادة القبائل ومع صدر الإسلام نجد شعراء الدعوة فى مواجهة الشعراء المشركين ويصبح حسان بن ثابت ” شاعر الرسول ” الذى يهجو المشركين وروح القدس معه ومع العصر الأموى ظهر مايقترب من الأحزاب السياسية الآن وهو ماعرف بالفرق الإسلامية كالخوارج والشيعة وغيرهما وأصبح لكل فرقة شعراؤها بالإضافة إلى شعراء البيت الأموى المدافعين عنه وفى العصر العباسى ظهر صراع الجنسيات بين العرب والفرس خاصة فيما عرف بظاهرة الشعوبية .
من كل هذا نستنسج أن الشعر ظل متداخلا مع السلطة سواء بالموافقة أو المخالفة ، ومع العصر الحديث أعادت مدرسة الإحياء دور الشاعر القديم مع استبدال المفهوم الحديث للوطن بالقبيلة أو بالفرقة الإسلامية وكان أهم قضيتين فى هذه الفترة هما الاستقلال والديمقراطية يقول شوقى ” وللحرية الحمراء باب / بكل يد مضرجة يدق ” ويقول حافظ إبراهيم مدافعا عن الديمقراطية ” رأى الجماعة لاتشقى البلاد به / رغم الخلاف ورأى الفرد يشقيها ” ثم جاءت المدرسة الرومانسية ثمرة من ثمار ثورة 1919لتؤكد فردية الشاعر وخصوصيته وحريته فى أن يكون صوت ذاته لاصوت الآخرين وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وقيام ثورة يوليو سادت الواقعية وأصبح ” الالتزام ” ضرورة فنية ورفع لويس عوض شعار ” الشعر فى سبيل الحياة ” وتلبست الشاعر – كما كان يقول صلاح عبدالصبور- ” شهوة إصلاح العالم ” ،
وأصبحت ثنائية السلطة والحرية إحدى ثنائيات أمل دنقل الأساسية حين يقول ” أبانا الذى فى المباحث كيف تموت / وأغنية الثورة الأبدية ليست تموت ” أو قوله ” آه ماأقسى الجدار / عندما ينهض فى وجه الشروق / ربما ننفق كل العمر كى نثقب ثغرة / ليمر النور للأجيال مرة / ربما لو لم يكن هذا الجدار / ماعرفنا قيمة الضوء الطليق “،
أما أحمد عبد المعطى حجازى فقد مثل ثنائية ” المع والضد ” ففى الوقت الذى كان يكتب فيه ” فليكتب التاريخ أننى هنا / فى عصر عبد الناصر العظيم ” كان يخشى ” العسس السارى فى هواء المدينة ،
أما محمد عفيفى مطر فقد رفض ثنائية الرفض والقبول – رغم قصائده المتمردة – ورأى أن هذه الثنائية ليست سوى ” لعب” داخل ” السلاسل ” فاهتم – بناء على هذه الرؤية – بثقافة القرية وتقاليدها وعاداتها ما جعله قريبا من محمود حسن إسماعيل الذى اهتم هو الآخر بالقرية فى مرحلة سابقة .
وهكذا يمكن القول إن علاقة الشاعر بالسلطة تتخذ أنماطا مختلفة قديما وحديثا فهى تبدأ بالصمت وهو – فى حد ذاته موقف – حتى أن شاعرا معاصرا هو عصام الغزالى قد عنون أحد دواوينه ب” أهددكم بالسكوت”
وقد مثل هذا الموقف قديما دعبل الخزاعى الذى لم يقف بباب خليفة أو أمير وعاش لشعره ولحياته فقط وهناك أسلوب التعريض الذى لجأ إليه المعرى فى مجلس أحد الخلفاء الكارهين للمتنبى وعندما طلب رأى المعرى قال : والله يامولاى لو لم يكن للمتنبى غير قصيدته ” لك يامنازل فى القلوب منازل / أقفرت أنت وهن منك أواهل ” لكفاه ، فأمر الخليفة بطرده وقال للحضور : أتدرون لم ألقيت بهذا الأعمى خارج القصر ؟ قالوا : والله ومولانا أعلم قال : إنه يعرض بقول المتنبى فى القصيدة نفسها ” وإذا أتتك مذمتى من ناقص / فهى الشهادة لى بأنى كامل “،
وهناك أسلوب المدح الذى ينقلب من فرط مبالغته هجاء فعندما نتأمل قول المتنبى لكافور ” وياآخذا من دهره حق نفسه / ومثلك يعطى حقه ويهاب ” يبدو ظاهر النص مدحا خالصا لكنه يحمل لكنه يحمل فى أعماقه هجاء مستترا فكأن المتنبى يقول لهذا الأخشيدى : لقد أخذت حق نفسك وزيادة بتوليك الخلافة لكنك لم تأخذه لجدارة فى نفسك وقدراتك بل اغتصبته بالقوة والهيبة فالناس أعطتك هذه الخلافة لأنهم يخشونك فقط لاعن قناعة بك،
ومما يؤكد هذا التأويل قوله فى قصيدة أخرى :” ولولا فضول الناس جئتك مادحا / بما كنت فى سرى به لك هاجيا “،
وهناك ماأطلق عليه طه حسين ” الغزل الكيدى ” حين يتعمد الشاعر التغزل بأخت الخليفة أو أمه نكاية فيه وإغاظة له.
ثم يأتى النمط الخامس وهو الهجاء الصريح وهذا كثير فى التراث العربى منه قول بشار فى المهدى ” ضاعت خلافتكم ياقوم فالتمسوا / خليفة الله بين الزق والعود ” فأمر المهدى بجلده حتى الموت وقول المتنبى فى كافور بعد هروبه من مصر ” وتعجبنى رجلالك فى النعل إننى / رأيتك ذا نعل وإن كنت حافيا/…./ ومثلك يؤتى من بلاد بعيدة / ليضحك ربات الحداد البواكيا ” بل إنه ينقلب على أغلب ملوك عصره حين يقول ” حولى بكل مكان منهم خلق / تخطى إذا جئت فى استفهامها بمن /…/ ولا أخالط من أملاكهم أحدا / إلا أحق بضرب الرأس من وثن “،
أما العصر الحديث فقد كانت ظاهرة التمرد إحدى ظواهره البارزة سواء على المستوى الاجتماعى أو السياسى وهو مايحتاج إلى قراءة أخرى.