رؤى

الفلسفة والمرض في زمن الكورونا

لقد ابتليت الإنسانية في هذه الأيام بوباء قاتل فتاك يعصف بحياة الإنسان،وسبب للجميع قلق و توتر و فزع و هلع،مما استوجب على الجميع العزلة الإجبارية في المنازل.هذا الوباء الذي لا يفرق بين صغير وكبير ،غني وفقير ،شاب و شيخ، طفل أو عجوز. ومن هنا تعيش البشرية في صراع كبير مع هذا الفيروس الذي لا نعلم الكثير عنه،ونجهل طبيعته.كل هذا أدى إلى عزلة البشرية ومكث الجميع في بيته،تلك العزلة التي تشبه تماما عزلة الفيلسوف عندما ينعزل في برج عاجي أو الفلسفة في تأملاتها العقلية،فالفيلسوف ينعزل من أجل أن ينسج أفكاره،ويستخرج مكنونات عقله من استنتاجات و مفاهيم فلسفية.

 ويحاول العلماء و المفكرين حتى الرجل العادي أن يعرف طبيعة هذا الفيروس ،وكيف يصيب الإنسان و كيفيه الوقاية منه. و أصبح الحفاظ على الصحة من أهم ما يشغل كل فرد من أفراد البشرية،كيف يحافظ الإنسان على نفسه من هذا الفيروس القاتل،وفي هذا السياق نطرح سؤالا في غاية الأهمية ما علاقة الفلسفة بالصحة؟ ماذا يمكن للفلسفة أن تقدم للإنسان بل للبشرية جمعاء في زمن الكورونا؟ هل من دور أو وظيفة يمكن للفلسفة أن تقوم به في التخفيف من أضرار هذا الوباء القاتل؟ .

الإجابة نعم هناك دور للفلسفة فقد أشار الفيلسوف الألماني نيتشه إلى أن أي عالم نفساني لا يعرف سؤالا جذابا و مثيرا بقدر السؤال عن العلاقة بين الصحة و الفلسفة، و في حالة ما إذا صار نفسه هو مريضا ،فأنه سوف يجلب معه كل فضوله العلمي في صلب مرضه. ويجب أن نلفت الانتباه هنا إلى حقيقة في غاية الأهمية وهي أن الصحة دائما ما تقع على حافة معركة مع مرض ما لا نراه أو صار مقياس غير مرئي لما نريد أن نفكر فيه. ولعلنا نؤكد على أن السؤال عن العلاقة بين الصحة و الفلسفة ليس هو السؤال نفسه عن العلاقة بين الفلسفة و الصحة،فالصحة ليست مجرد موضوع محايد للبحث الفلسفي ،بل هي تقع في صميم البحث الفلسفي، وتمثل الخلفية الأساسية لاهتمامات الفلاسفة و اختيار أدواتهم ووسائلهم. وبناء على ذلك فإن كل فلسفة هي تاريخ الجسد المريض الذي أملى على الروح أن تذهب في هذا الاتجاه أو ذاك. ليس هذا فحسب بل إن المرض يمثل تجرد الروح من كبريائها و يحولها إلى كائن ينتظر.

نيتشه
نيتشه

 ويرى نيتشه أن كل ما دافع عنه الفلاسفة هو مجرد وعود أخلاقية لأجسادهم المريضة مثل الصمت و الصبر و الدواء. وهو ما تم ترجمته في مفاهيم مثل السلم و السعادة السلبية ،وفي كل هذه الحالات يبدو المرض بمثابة ذلك الشئ الذي يلهم الفلسفة دون أن تدري ،وتحث كل فكرة أنه يوجد سبب فسيولوجي لا يتكلم ،وهكذا فإن الفلسفة إلى الآن لم تكن غير تفسير للجسد. وفي هذا السياق فإننا حين نفسر لا يعني أننا بالضرورة نفهم ،بل فقط نستجيب لنداء ما لا نراه،إن نداءات الجسد المريض تفرض استجابات معينة لا يمكن أن ندعي أنها الإجابات المناسبة .

 من هنا كل تفسير يكون بمثابة استجابة لتوجيه أخرس يجذب الروح نحو جهة ما،لكنه يظل دوما بلا مضمون. وليس المرض غير الحالة التي تضع الجسد في منطقة التفسير و التعليل،أو هي التي تخلق الحاجة إلى تفسير ما. فالتفسير يقول شئ ما عن الجسد المريض،يحاول أن يفسر طبيعة هذا الجسد المريض،لذا هذا الجسد المريض له علاقة وثيقة بالمكان،وليست الفلسفة غير جهد حثيث لإعادة اختراع العلاقة بالمكان،إلا أنها لا تفعل ذلك من أجل بناء علاقة موضوعية بالمكان بل فقط استجابة لنداء غير منظور يطلقه الجسد المريض في كل مرة تحت وطأة علاقة موجعة بالمكان.

 بناء على ذلك يمكننا القول أن هناك علاقة وثيقة بين الفلسفة و الصحة، من خلال تفسيراتها للجسد المريض، ومحاولة النفاذ إلى فهم هذا المرض. لذا تلعب الفلسفة دورا مهما و محوريا في زمن الكورونا ،من خلال تفسير هذا المرض ،وكيفية انتشاره،وكيفية الوقاية منه،والتحذير من خطورته. وهذا هو دور الفلاسفة في كل زمان و مكان هم مرآة مجتمعاتهم، وضمير شعوبهم،يعيشون مع الواقع و يتفاعلون معه، و يحاولون تقديم العلاج لمشكلات هذا الواقع.

 ولعلنا في هذا السياق نشير إلى موقف بعض الفلاسفة من جائحة كورونا ورؤيتهم الفلسفية لهذا الفيروس اللعين . ولعل أول فيلسوف معاصر نشير إليه و موقفه ورؤيته لجائحة كورونا هو الفيلسوف الفرنسي المعاصر (ميشال اونفري) صاحب كتاب الانحطاط ،يرى اونفري أنه من خلال تفاعله مع أزمة كورونا و معايشته فترة الحجر الصحي ،أن الأزمة الصحية الحالية تجعلنا نرى رؤية العين أننا نعيش نهاية حضارة،فأوروبا التي يقدمها المتحمسون لها كتنين قادر على مصارعة أشرس الأعداء نجدها اليوم عاجزة عن صنع كمامات بأعداد كافية من أجل حماية مواطنيها و أطرها الصحية من الفيروس الفتاك. ولأن الرأسمالية في نظر اونفري هي عبارة عن نظام يزيد من ثروة الأثرياء و فقر الفقراء،فإنه يؤكد على أن جائحة كورونا ستدفع بالصراع الطبقي إلى حدوده القصوى ،وستغير الكثير في عالم الغد بعد أن تسقط الكثير من الأقنعة و تكشف عن زيف ونفاق وجوه عدة.

ميشال اونفري
ميشال اونفري

ويجيب اونفري عن سؤال مهم يتردد في أذهان الكثيرين،هل الرأسمالية هي من تسببت في هذا الوباء؟ ويجيب اونفري بأن الرأسمالية لم تكن ترغب في الأزمة لكنها تحاول تدبيرها من خلال وسائلها الخاصة: العمل عن بعد،كما هو نظام الرأسمالية ،فإن الوضع الوبائي المقلق الذي يعيشه العالم اليوم يثقل كاهل الفقراء ،أولئك الذين يعيشون في مساحات ضيقة ،أما الأغنياء فهم معزولين من زمن عن الفقراء في قصورهم الفارهة. وبخصوص الحجر الصحي وما يمنحه من فرص من أجل العودة للذات ،فإن اونفري يرى أنه بالنسبة للأغنياء نعم ،أما بالنسبة للفقراء الذين يعيشون في بيوت شبيهة بأقفاص الأرانب ،فلن يكون بمقدورهم تجربة ترف طرح الأسئلة الوجودية كل ما هنالك أن الحجر سيجعلهم يختبرون حياة الحيوانات في الأقفاص.

أما الفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك فإنه يقلل من شأن فيروس كورونا والذي يبدو في نظره أكثر براءة من فيروسات سابقة موجها نقدا لاذعا لسياسات الحجر الصحي التي ابتدعتها الدول الأوروبية وما رافق ذلك من إغلاق للحدود و المدارس معتبرا ذلك لا يتناسب و أهمية المشكل الصحي المطروح. و بالتالي فلا جديد في هذا الفيروس المستجد سوى أنه وجه من أوجه متوسط الوفيات السنوي ،ففي ألمانيا مثلا في الأوقات العادية يموت أكثر من 3000 شخص يوميا بسبب آفات هذا الزمان. فالموت هو الموت وقد مارس مهمته دائما بعناية وهدوء و في أغلب الأحيان بعيدا عن ضجة الإعلام و مشاركة قادة الدول. أما بخصوص الإجراءات و الاحترازات الوقائية التي أخذت شكل الحجر الصحي ومنع التجوال فهو يرى فيها مجرد استيلاء على السلطة وعودة لشبح النظام المسترجع الذي حلم بمثله بعض المفكرين في عشرينيات القرن الماضي من أمثال (كارل شميت) الذي كان من أهم منظري النظام النازي.

بيتر سلوتردايك
بيتر سلوتردايك

ويشير أن عالم ما بعد الكورونا والرأسمالية بصيغتها الحالية أن الأمر لا يتجاوز كونه استراحة ستعود بعدها عجلة الرأسمالية للدوران من جديد وربما أسرع بسرعة أكثر من أجل تدارك كل ما فات.ومن أجل تدبير مدة الحجز و الترويح عن النفس، يقترح سلوتردايك القراءة للكاتب الايطالي (جيوفاني بوكاشيو) في القرن الرابع عشر وروايته(الديكاميرون) لأن موضوع هذه الرواية هو موضوع الساعة الحجر الصحي وكيف أن عشرة شبان هربوا من الطاعون الأسود الذي اجتاح مدينتهم في ذلك الوقت نحو قصر فاخر في البادية قصد الاستمتاع و نسيان الجائحة. من هنا نرى أن الفلسفة و الفلاسفة غير منعزلون عن الحياة و الواقع بل متفاعلون معه، و يدلون بآرائهم و يقدمون الحلول الإيجابية للمشكلات التي تجتاح المجتمعات مثلما فعلوا مع جائحة كورونا.

Back to top button

Adblock Detected

Please consider supporting us by disabling your ad blocker