رؤى

موقف الصحافة المصرية من الصهيونية (2)

لم يكن عام ١٨٨٢ عام الاحتلال البريطاني لمصر وفقط بل كان أيضا بداية الاستيطان الصهيوني بأرض فلسطين حيث وصل إلى فلسطين بذاك العام عشرون شابا يهوديا من روسيا أنشأوا أول مستعمرة أطلقوا عليها اسم «ريشون ليزيون» وتعني الأولى في صهيون وأعقبها مستعمرة «بتاح تكفا» أي باب الأمل التي أطلق عليها أم المستعمرات و«ريش بتاح» أي حجر الأساس وتوالت المستعمرات واستفادت الحركة الصهيونية من الاستعمار الغربي للشرق فقدمت نفسها للغرب بوصفها ستصبح الدولة العميلة في خدمة مصالح الدول الأوربية بمنطقة الشرق وقدمت نفسها للعرب بوصفها حركة تمثل المدنية الحديثة وأنهم جاءوا لأرض العرب لاستثمار رأس المال المتراكم لديهم لإعمار فلسطين والبلاد العربية عامة.

الدكتورة سهام نصار الباحثة المتخصصة في مجال دراسة الحركة الصهيونية في دراستها «موقف الصحافة المصرية من الصهيونية .. خلال الفترة من 1897-1917 .. دراسة تحليلية لصحف الأهرام، والمقطم، والمؤيد، واللواء، والجريدة، والأهالي» .. تواصل رحلتها في الكشف عن موقف الصحف المصرية من الحركة الصهيونية قبل صدور وعد بلفور في 2 نوفمبر من عام 1917.

نبذة سريعة عن نشأة الصحف المصرية

نشأت الصحف المصرية على يد فريقين انتمى الفريق الأول منهما لبلاد الشام وعلى يديه تم تأسيس صحيفتي «الأهرام» و«المقطم» وكان الفريق الثاني من المصريين وتمثلت صحفهم في: «المؤيد واللواء والجريدة والأهالي» وصدرت صحيفة «المؤيد» عام 1889 لصاحبها الشيخ علي يوسف لتمثل مرحلة جديدة في حياة المصريين بعد توقف عدد من الصحف على رأسهم صحيفة عبد الله النديم على يد سلطات الاحتلال البريطاني وتوقفت «المؤيد» عن الصدور عام 1915.

الشيخ علي يوسف
الشيخ علي يوسف

جاء ميلاد صحيفة «اللواء» التي أسسها مصطفى كامل في 2 يناير عام 1900 ، لتصبح البديل الأكثر قدرة على التعبير عن ضيق الشعب المصري من الاحتلال البريطاني وكانت حادثة دنشواي عام 1906 بمثابة الشعلة التي أضاءت «اللواء» فقد منحتها تلك الحادثة مكانة كبيرة جعلتها صحيفة كل المصريين فباتت تقرأ بجميع القرى والنجوع وتوقفت عن الصدور عام 1912.

أسس صحيفة «الجريدة» أحمد لطفي السيد وصدر العدد الأول منها في مارس عام 1907، وعلى الرغم من أن الجريدة لم تكن مؤيدة للإنجليز إلا أن غالبية المصريين الوطنيين تعاملوا معها بوصفها مؤيدة للاحتلال، ذلك أنها كانت ترى بأن مصر ينبغي لها أن تنال استقلالها تدريجيا حين تصبح قادرة على تولي الحكم الذاتي، وتمثل المبدأ الرئيسي «للجريدة» في معارضة السلطة المطلقة للخديوي، وتوقفت عن الصدور مع صحيفة «المؤيد» عام 1915.

أحمد لطفي السيد
أحمد لطفي السيد

صدرت صحيفة الأهالي عام 1910 واستمرت إلى ما بعد وعد بلفور عام 1917 وكانت تهدف بالأساس إلى محاربة التعصب الديني بين المسلمين والمسيحين في مصر الأمر الذي ربما يفسر سر محدودية تعرضها للحركة الصهيونية ذلك أنها ربما لم ترغب في أن يتم اتهامها بالتعصب ضد اليهود.

الصحف المصرية وموجات الهجرة اليهودية المبكرة

شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر بروز ما عُرِفَ «بالمسألة اليهودية» في الدول الأوربية نتيجة هجرة أعداد كبيرة من اليهود الروس إلى أوروبا الغربية فشكلوا عبئا ثقيلا على تلك الدول، حيث بدأ المهاجرون اليهود في منافسة الوطنيين في أعمالهم وتزايد الخوف من احتمال انضمام فقراء المهاجرين اليهود إلى الحركات الثورية والأحزاب السياسية المناهضة للرأسمالية كما حدث في ألمانيا وروسيا وبولندا، لذا لجأت البرجوازية اليهودية في انجلترا وفرنسا إلى إنشاء مؤسسات وجمعيات تهدف إلى توجيه الهجرة اليهودية إلى خارج القارة الأوربية وتوطين اليهود في فلسطين أو غيرها وذلك حفاظا على الوضع الطبقي لليهود في الدول الأوربية، وقام بتمويل مشروعات الاستيطان الصهيوني في فلسطين خلال تلك الفترة المبكرة ولمدة خمسين عاما تالية كل من الثري الصهيوني الفرنسي البارون ادموند دي روتشيلد والمليونير الألماني البارون هيرش.

ادموند دي روتشيلد
ادموند دي روتشيلد

تنبهت الصحف المصرية مبكرا لبدء ظاهرة هجرة اليهود إلى فلسطين فاخذت تتناول ازدياد أعداد المهاجرين اليهود في القدس بصفة خاصة وفي فلسطين بصفة عامة وسبل الهجرة وشراء الأراضي معتبرة ازدياد الهجرة اليهودية مؤشرا خطيرا لمستقبل البلاد.

غير أن الغموض النسبي قد ساد بالصحف المصرية حول أهداف الحركة الصهيونية بشكل عام حيث رأت بعض الصحف أن هدف الصهيونية يتمثل في إنشاء دولة يهودية مستقلة في فلسطين ورأى البعض الآخر أن هدف الصهيونية يتمثل في استعمار فلسطين ورأى البعض أن هدف الحركة الصهيونية لا يتجاوز إنشاء مركز أدبي اقتصادي أو مملكة إسرائيلية تحت السيادة العثمانية.

أولت بعض الصحف المصرية اهتماما خاصا برصد الأساليب التي سلكها الصهاينة في إدخال المهاجرين اليهود إلى فلسطين وفي التحايل خلال عمليات شراء الأراضي الفلسطينية وكان من بين تلك الأساليب الاعتماد على رشوة الحكام وذوي النفوذ في فلسطين وإغراء الفلاحين بالأسعار المرتفعة إلى جانب استخدام أساليب القسر والإجبار والتحايل والمكر والخداع في الإستيلاء على أراضي الفلسطينيين.

لم تقف الصحف المصرية عند مجرد مناقشة المسألة الصهيونية وأهدافها وإنما سعى بعض الكتاب إلى طرح حلول كفيلة بالتصدي للخطر الصهيوني حيث طالب بعضهم الحكم العثماني بضرورة منع الأجانب من شراء الأراضي في فلسطين والتدقيق في عمليات البيع التي تتم كما طالبوا بمنع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، إلى جانب تأسيس بنك زراعي لإقراض الفلاحين الفلسطينيين بفوائد محدودة لحمايتهم من الوقوع في حبائل المقرضيين اليهود، وتخفيف الضرائب على الفلاحين الذين يضطرون لبيع أراضيهم بسبب فحش الضرائب والعشور.

الملفت للنظر أن الصحف الثلاث «اللواء والجريدة والأهالي» لم تولي اهتماما كبيرا بطرح قضية الصهيونية وأطماعها في فلسطين فعلى سبيل المثال صحيفة «اللواء» لم يتم العثور بها سوى على سبع مقالات بتوقيع «عثماني» تناولت تلك المقالات تاريخ اليهود في الدولة العثمانية وإسبانيا وفرنسا وألمانيا، وأغلب الظن أن كاتبها صهيوني ذلك أن محتوى تلك المقالات كان يتماشى مع الخط الصهيوني الرامي إلى إعادة كتابة التاريخ اليهودي، وبذات السياق نشرت «اللواء» في عام 1911 خبرا يحمل عنوان «اليهود في رفح» ويعكس مضمون الخبر مدى جهل الصحيفة بتطور الحركة الصهيونية وأهدافها ونشاطها في فلسطين، إلا أن الدكتورة سهام نصار في دراستها لم تتغافل عن الإشارة إلى أن ذلك الخبر قد تم نشره خلال الفترة التي كانت الصحيفة قد بدأت في التخلي عن خطها الوطني بعد تعيين يوسف بك المويلحي كحارسا قضائيا عليها في نوفمبر من عام 1910 واستقالة محمد فريد وهيئة المحررين ككل وقيام المويلحي بتعيين محررين جدد وقد ظل المنوال على ذلك الحال في التقرب إلى الإنجليز حتى نوفمبر عام 1912 حين عاد على فهمي إلى الصحيفة.

فسرت الدراسة عدم اهتمام صحيفة «اللواء» بالحركة الصهيونية ومطامعها في فلسطين بشكل وافي كما ينبغي في أن الصحيفة كانت تكرس نفسها لطرح القضية المصرية فقد كانت قضية جلاء الإنجليز عن البلاد وحصولها على الاستقلال هى الشغل الشاغل للزعيم الوطني مصطفى كامل الذي أصدر هذه الصحيفة لهذا الغرض، لذا كانت حصيلة الموضوعات التي نشرت عن الحركة الصهيونية وفلسطين ضئيلة للغاية بالمقارنة بصحيفتي «الأهرام» و«المقطم».

مصطفى كامل
مصطفى كامل

أما صحيفة «المؤيد» فخلال الفترة من عام 1899 إلى عام 1908 فقد تم العثور بها على خمس مقالات كانت جميعها لكتاب عرب من خارج الصحيفة وخلال الفترة من عام 1909 حتى عام 1913 تم العثور فيها على عشر مقالات خمس مقالات منها لكتاب عرب ومقال واحد لكاتب صهيوني ومقال موقع باسم مستعار «لقمان» وأغلب الظن أنه كاتب صهيوني ومقال بدون توقيع.

اللافت للنظر أن الصحافة المصرية كانت تعتمد في جانب منها على الصحافة الأوربية وبصفة خاصة وكالتي «رويتر» و«هافاس» وذلك في الوقت الذي كانت فيه الصحافة الأوربية تقع تحت تأثير النفوذ اليهودي حيث كان مؤسسا الوكالتين من اليهود وقد نجم عن ذلك أن جرى التعتيم النسبي على الانتشار السرطاني للاستيطان الصهيوني في فلسطين وعلى معاناة الفلسطينيين من جراء موجات الهجرة اليهودية لفلسطين.

من جانب آخر نجحت الحركة الصهيونية في تجنيد بعض اليهود المقيمين بمصر من المتمكنين من اللغة العربية ومن ذوي الميول الأدبية والصحفية لتتبع ما ينشر بالصحافة المصرية عن الحركة الصهيونية ومن ثم الرد عليها مستغلين بعض مواد قانون المطبوعات المصري ومنها حق الرد وقد استخدم الكتاب الصهاينة بعض التكتيكات في سعيهم لإخماد الأصوات المعارضة للحركة الصهيونية ومنها إمطار أي كاتب عربي يتصدى للصهيونية بوابل من المقالات وفي صحف متعددة بذات الوقت بحيث لا يتمكن ذلك الكاتب بمفرده من ملاحقة ما يكتب ضده ومن ثم الرد عليه ما يضطره إلى اللجوء في أغلب الأحيان إلى الصمت وكان الملفت للنظر أن الكُتاب الصهاينة كانوا يعملون ككتلة واحدة تكمل بعضها بعضا، أما الكُتاب العرب في تصديهم لقضية الحركة الصهيونية فكانوا فرادى كل منهم يعمل على حدى.

مجمل القول أن كبريات الصحف المصرية بتلك الفترة كانت على علم بأهداف الصهيونية ونواياها التي تتلخص في إقامة دولة صهيونية استيطانية في فلسطين كما كانت على علم بالتقدم الذي كانت تحرزه هذه الحركة مع مضي الوقت، سواء في مصر أو في فلسطين، أو على مستوى العالم غير أن المؤسف حقا أن تنبيهها للرأى العام العربي والمصري بذلك الحين جاء بصورة لا تتناسب وحجم هذا الخطر الذي كان قد بدا واضحا في الأفق. غير أن السنوات اللاحقة التي أعقبت صدور وعد بلفور عام 1917 قد شهدت تنامي ملحوظ من قبل الصحافة المصرية في تعاملها مع القضية الفلسطينية وجاء ذلك بالتوافق مع أولى بوادر كتابات القوميين العرب وتوالت الأحداث حتى جاءت نكبة 1948 لتصبح القضية الفلسطينية ملكة متوجة على عرش الصحافة المصرية ويصبح الموقف من الصهيونية ورفض التطبيع مع العدو الصهيوني واحدا من أهم المبادىء التي تقوم عليها الصحافة المصرية ونقابة الصحفيين المصريين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock