كتبت الانتخابات الرئاسة الأمريكية 2020 بالنسبة إلى كثير من الأمريكيين حلقة النهاية لركيزتين أساسيتين من ركائز هويتهم السياسية، وهما، أولا سقوط ’المجتمع اليهودي‘ الذي تلاشى في فضاء مجتمعات كثيرة تتأجج الصراعات فيما بينها كما لم يحدث من قبل، وثانيا موت حل الدولتين، ومعه موت حلم اقتران الصهيونية بالليبرالية.
فيما يتعلق بتداعي الركيزة الأولى، يبقى اليهود إلى حد كبير ليبراليين للغاية. فقد قامت منظمة “J. Street”، وهي منظمة ليبرالية غير ربحية تصف نفسها بأنها “مؤيدة لإسرائيل، ومؤيدة للسلام”، بإجراء استطلاع خروج للناخبين اليهود، ووجدت أن 77.21% منهم يفضلون جو بايدن على دونالد ترامب. لكن بغض النظر عن فلوريدا والمنطقة الحضرية التابعة للكونجرس، فإن أصوات اليهود ليس لها أهمية كبرى، حيث يشكل اليهود حوالي 2% فقط من الشعب الأمريكي، وهي نسبة لا تفوق بكثير النسبة التي يشكلها المسلمون. ويصوت هؤلاء في الغالب لصالح الديمقراطيين. كما كشف هذا الاستطلاع أيضا أن 5% فقط من اليهود اختاروا “إسرائيل” في المرتبة الأولى أو الثانية كقضيتهم الأكثر أهمية، وبرغم كونهم يهودا، إلا أنهم لا يتفقون في كثير حول هذا الموضوع أيضا.
وفي ضوء الدور الذي تلعبه الأموال في سياساتنا، فإن الأصوات لا تمثل القصة الحقيقية بحال، حيث تحظى أموال الحملة اليهودية بوزن نسبي أكبر بكثير. وبينما لا يمل المحافظون من تحميل الممول والمحسن الليبرالي “جورج سوروس” وزر الأمراض التي يعاني منها الجسد العالمي، إلا أن اليميني “شيلدون أديلسون” يرقى في واقع الأمر إلى مستوى كل صورة نمطية معادية للسامية تم اختراعها. وباعتباره قطبا مقامرا يمتلك سجلا مشابها لترامب في مجال المشروعات التجارية الإشكالية، يكرس هذا الرجل الذي أعلن نفسه “أغنى يهودي في العالم” مئات الملايين من الدولارات لشراء السياسيين والصحافة، ومطالبة كلاهما بالالتزام بخط حزب الليكود التابع له.
لا عجب – إذن – أن يسافر السياسيون الجمهوريون إلى لاس فيجاس لإعلان ولاءهم لأديلسون. ووفقا لبيانات لجنة الانتخابات الفيدرالية الأولية، التي جمعها مركز OpenSecrets ، فقد قام “أديلسون” وزوجته الأمريكية الإسرائيلية “ميريام أديلسون” بدفع أكثر من 183 مليون دولار في انتخابات 2020، وهو رقم يضعهما في مكان بعيد تماما عن أي مساهم آخر، بما في ذلك رقم الـ 100 مليون دولار التي تكفل بها مايكل بلومبرج لحملات بايدن الفاشلة في فلوريدا وأوهايو وتكساس. علاوة على ذلك، لم يكن هذا الرقم سوى جزء من العطاءات السياسية التي قدمها شيلدون أديلسون. في هذا السياق، يجب النظر إلى هذه الإسهامات من ناحية على أنها شكل من أشكال الامتنان، ومن ناحية أخرى كاستثمار في السياسة التي أدت تحت حكم ترامب إلى نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان، والتشجيع الفج على التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة، وقطع المساعدات الأمريكية عن الفلسطينيين. جدير بالذكر أن ترامب منح أيضا “ميدالية الحرية” الرئاسية – وهي أرفع وسام وطني في الولايات المتحدة – لميريام أديلسون.
تروق هذه الإسهامات بلا شك للعديد من المحافظين الذين يشكلون نسبة 10% من اليهود الأمريكيين الذين ينظر إليهم باعتبارهم أرثوذوكس، لكن الفائدة السياسية الحقيقية تكمن في المسيحيين الإنجيليين. ففي أثناء أحد التجمعات الانتخابية التي عقدت في شهر أغسطس الماضي، أعلن ترامب المقطع الهادئ بصوت مرتفع عندما شكا إلى أنصاره قائلا: “كما تعلمون، إنه لأمر مدهش.. الإنجيليون أكثر حماسة لنقل السفارة الأمريكية إلى القدس من اليهود أنفسهم”. يتفق هذا مع تبني ترامب وحزبه لمعاداة السامية كتكتيك انتخابي وكأسلوب حكم.، وهو ما تتقبله الجماعات اليهودية الجمهورية بصدر رحب ودون إبداء أي غضاضة. كما كتب الحاخام إريك يوفي”، الرئيس السابق لجمعية “الاتحاد من أجل إصلاح اليهودية (URJ)” أنه “بعد تعليق الرئيس ترامب سيئ السمعة ’تراجعوا واستعدوا‘، والموجه إلى مليشيا ’Proud Boys‘ اليمينية المتطرفة والمعادية للسامية، لم يصدرعن الجمهوريين سوى كلمات توبيخ لطيفة”. أما التحالف اليهودي الجمهوري فإنه “لم يكن لديه سوى كلمات المديح لترامب”، كما أشار الحاخام.
وفي عام 2016، كتب نورمان كولمان”، السيناتور الجمهوري السابق، في مقال رأي نشرته صحيفة “ستار تريبيون” في مينيسوتا: “لن أصوت لدونالد ترامب … بسبب ما هو عليه: متعصب، وكاره للنساء، ومحتال، ومتنمر”. ثم أضاف: “كل من يرفض التخلي عن التعاطف مع (KKK كو كلوكس كلان) وديفيد ديوك فهو ليس محل ثقة لقيادة الولايات المتحدة.. على الإطلاق”. وبرغم ذلك، فإنه من الجيد لترامب الآن أن يتبنى مجموعة “Proud Boys”، التي تصفها “رابطة مكافحة التشهير” بأنها “عنيفة وقومية وإسلاموفوبية ومعادية للمتحولين جنسييا، ومعادية للمرأة”. ومؤخرا، أكد كايل تشابمان، أحد قادة المجموعة: “سنواجه المجرمين الصهاينة الذين يريدون تدمير حضارتنا”. كما أعلن رغبته في تغيير اسم المجموعة إلى “Proud Goys”. هناك أيضا إعلانات ترامب التي تستدعي استعارات قديمة معادية للسامية. وإلا كيف يمكننا تفسير شخصية اليهودي “بيرني ساندرز” وهو يدلي دمية بايدن؟ أو الترحيب الحار الذي أبداه الحزب الجمهوري للنائبة القادمة عن ولاية جورجيا “مارجوري تايلور غرين”، إحدى أنصار نظرية المؤامرة المعادية للسامية “QAnon” التي غردت على تويتر بشأن انتخابات الإعادة القادمة “مقاعدنا في مجلس الشيوخ ليست للبيع لسوروس، وبلومبرج، وهوليوود، وستايسي أبرامز”.
لسوء الحظ، توجد شريحة أخرى تبدو متقبلة لفكرة “مقايضة معاداة السامية مقابل تأييد دولة إسرائيل”، وهي اليهود الإسرائيليون. ومن ثم، يمكن للمرء أن يتنبأ بثقة بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” والجمهوريين سوف يلجأون إلى الديماجوجية في كل مرة لا تنصاع فيها إدرة بايدن لأولويات حزب الليكود العنصرية والرجعية. وبغض النظر عن التصرفات المصطنعة، فإن الإسرائيليين اليمينيين ليس لديهم ما يقلقون بشأنه. فالسلاح الوحيد الذي تبقى لدى الترسانة الأمريكية من أجل إقناع إسرائيل بإعادة التفكير في مسيرة موت الديمقراطية التي تحث فيها الخطا صوب فصل عنصري دائم هي توقيف المساعدات الأمريكية على حدوث تحول كامل في المسار السياسي الإسرائيلي الحالي. لكن بايدن يرفض هذه الفكرة تماما.
إضافة إلى ذلك، يركز معظم العالم العربي على التهديد الإيراني، ولا يبدي أي مانع من التفكير في السلام مع إسرائيل. لا شك أن هذا لا يترك للفلسطينيين أي قوة للحصول على أي حقوق في الاستقلال السياسي، سواء من خلال إقامة دولة، أو عقد بعض الترتيبات المؤسسية الأخرى.
في أعقاب وفاة المفاوض الفلسطيني صائب عريقات مؤخرا، بعث العديد من الدبلوماسيين السابقين وجماعات السلام اليهودية بتعازيهم إلى أسرته. على نحو أدق، يبدو الأمر وكأنهم يذرفون ما تبقى لهم من دموع على ’روح‘ السلام نفسه.
—————————————-
إريك ألترمان – كاتب في صحيفة The Nation، وأستاذ اللغة الإنجليزية في “بروكلين كوليدج”. وتبلغ مؤلفاته 11 كتابا.
*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا