رؤى

فقه الشافعي في مصر تأثير أم تأثر؟

مقدمة:
كانت الحياة الفقهية في الثلث الأخير من القرن الثاني الهجري يتقاسمها مذهبان في الفقه لا ثالث لهما : مذهب يغلب عليه الحديث و يمثله مالك و أصحابه، مذهب عقلي يهمن عليه الرأي و ينسب إلى أبو حنيفة و أصحابه. الأول له السيادة في الحجاز ومصر،والثاني له الذيوع و الانتشار في العراق. وقد مضى أمر الفقه على هذا النحو حتى ظهر محمد بن إدريس الشافعي(150ه-204) الذي كان يملك من مقومات العلم الكثير من ذكاء عقلي و شرف النفس مما رشحه للتوفيق بين هذين المذهبين المختلفين ،لا لمجرد الرغبة في جمع الأمة على مذهب جديد يعصمها من الفرقة و التمزق حول مسائل الفقه، بل لما بدا له بعد النظر والاجتهاد من إمكانية ذلك التوفيق و ضرورته. وما كان للشافعي أن ينهض بذلك الدور لولا ما استقام له من استيعاب لثقافة عصره استيعابا لا يتأتى إلا لأحد العلماء، تمثل لمعطياتها و مفرداتها تمثلا يغذيه ذكاء نادر وألمعية معجبة.

https://www.youtube.com/watch?v=aQaD2obs6yM

فقد حفظ القرآن منذ صغره و حفظ الكثير من أشعار العرب عندما قضى عشر سنوات في البادية. ثم يمم وجهه شطر المدينة المنورة فلازم مالكا و قرأ عليه الموطأ، وأفاد منه طريقة أهل الحديث. ثم قرر الرحيل إلى مصر و الاستقرار بها عام 198 ه. وهناك أسباب كثيرة لتركه العراق لعل من أهمها كما رأى الأستاذ احمد أمين غلبة العنصر الفارسي عليها بعد إزاحة الأمين و استئثار المأمون بالخلافة. والذي يترجح أن الشافعي كان يبحث عن وسط ملائم لنشر مذهبه الجديد بعيدا عن العراق معقل أصحاب الرأي. فوقع اختياره على مصر. ولقد أقام في مصر ما يربو على خمس سنوات، أعاد النظر خلالها في مذهبه، فعدل عن بعض ما كان يقول به قديما إلى جديد من الآراء و الأقوال، على نحو سوغ تقسيم فقهه إلى قديم قال به في العراق، وجديد قال به في مصر. و لعل السبب في ذلك كما يقول أحمد أمين في كتابه ضحى الإسلام إنه خالط علماء مصر و سمع ما صح عندهم من حديث، وسمع تلاميذ الليث بن سعد ينقلون عنه آراءه الفقهية، كما رأى حالات اجتماعية تخالف تلك التي رآها في العراق. والسؤال المهم هل تأثر الشافعي بمصر و أحوالها فعدل مذهبه؟ أم فقه الشافعي هو الذي اثر في مصر؟ تلك هي الإشكالية الرئيسية التي سوف نحللها هنا.

أحمد أمين - ضحى الإسلام
أحمد أمين – ضحى الإسلام

أولا لماذا قدم الشافعي إلى مصر؟ لقد قدم الشافعي إلى مصر لعدة أسباب منها: غلبة و سيطرة المذهب الحنفي في العراق و عدم ذيوع مذهبه هناك. أيضا مصر كانت بيئة ملائمة ومناسبة له لأن فيها تلاميذ له يحبونه و يحرصون على أن يقيم بينهم، والناس في مصر كانوا على مذهبين، فريق يعتنق مذهب الحنفية و الثاني يعتنق مذهب المالكية و يناضل عنه. فلعله إذا صار إليهم أن يأتيهم بما يشغلهم به عن المذهبين جميعا، أو لعل الله أن يصلح بين المتخاصمين، ثم هو بحاجة إلى أن يستقر قراره.

ثانيا: فقه الشافعي في مصر بين التأثير و التأثر : السؤال الذي يطرح نفسه بقوة أيهما تأثر بالآخر  فقه الشافعي تأثر بمصر؟ أم مصر التي تأثرت بفقه الشافعي؟ الإجابة أن كثير من الآراء تميل إلى القول أن الشافعي تأثر بمصر وأحوالها، وما وضع الشافعي مذهبه الجديد إلا بعد أن رأى ما لم يكن قد رأى، وسمع ما لم يكن قد سمع، وبعد أن تلاقحت تلك العقلية الجبارة بلقاح جديد من العلم و الرأي و النظر. ولعل من أبرز من رأى تأثر فقه الشافعي بمصر هو الأستاذ أحمد أمين في كتابه (ضحى الإسلام) ويقول في هذا السياق أن العلماء يقسمون فقه الشافعي إلى مذهبين: قديم و حديث، فأما القديم فهو ما قال به في العراق، وأما الجديد ما كتبه في مصر. وذلك لأنه رأى ما لم يراه في العراق و سمع ما لم يسمعه في العراق، كما أنه شاهد وعاين بعض الحالات و الوقائع في البيئة المصرية كل ذلك جعله يعدل من مذهبه القديم . ولعل أبرز المعاملات والوقائع التي رآها في مصر و لم يشاهدها في العراق هي أن للمصريين معاملات لا يتعامل بها أهل العراق و لا الحجازيون، كما أن نظام الري في مصر غير نظام دجلة والفرات، وذلك يستنتج اختلافا في الخراج وكلاهما يختلف في ذلك عن بلاد لا تعرف أنهارًا كالحجاز. كل هذا كان له أثر كبير في تكوين مذهب الشافعي. ولعل خلاصة رأي الأستاذ أحمد أمين في تأثر فقه الشافعي بالبيئة المصرية:

 1-الشافعي سمع من المصريين بعض الأحاديث التي لم يكن سمعها أو قوي بروايتهم بعض الأحاديث التي كانت ضعيفة عنده.

 2-الشافعي رأى من الحالات الاجتماعية في مصر ما يخالف الحالات التي رآها في العراق و الحجاز. بمعنى أنه كان للمصريين عرف يخالف عرف العراقيين و الحجازيين.

 3-الشافعي رأي في مصر موضوعات جديدة و مسائل فقهية لم ترد على ذهنه في الحجاز و العراق كالقراطيس المصرية مثلا. كل هذا وأمثاله كان له أثر كبير في تعديل الشافعي لمذهبه الفقهي  مما أطلق عليه المذهب الجديد. ولعل هذا الرأي من جانب استأذنا أحمد أمين و غيره في تأثير البيئة المصرية في الفقه الشافعي جانبه الصواب و مردود من عدة جهات تثبت تأثير الشافعي وفقهه في البيئة المصرية و ليس العكس. أولا: أن الشافعي لم يعش في مصر أكثر من أربع سنوات كان فيها موضع مناقشة و مزاحمة ومنافسة من المذهبين الحنفي و الفقهي. كما كان مشغولا و مشتغلا بتوطيد مقامه في هذا الموطن الجديد و مثل هذا الزمن لا يكفي لتكوين فكرة جديدة يستحق أن يلغي من أجلها مذهبه الذي قضى عمره ليكونه. ثانيا: أن من يرجع إلى المذهب الجديد يرى أن أكثر الأشياء التي اعتمد عليها هو الحديث، والتأثر الذي يكون سببه الحديث لا يصح أن ينسب إلى مصر، لأن أهلها في الرواية متأثرين بغيرهم من الصحابة وأعلام المحدثين وليسوا مؤثرين.

كما أننا نشير في هذا السياق إلى أن أخذ الشافعي لحديث أو أكثر ظهرت له صحته لا يجعله متأثرا بإقليم بخصوصه، فإن مذهبه الذي اشتهر وعرف به هو الذي عبر عنه بقوله (إذا صح الحديث فهو مذهبي)

ثالثا: من المعروف أن الشافعي لم يقدم إلى مصر إلا في أواخر حياته بعد أن تكونت و تشكلت ثقافته. رابعا : أن التأثر الذي سببه العرف و التقاليد و الحالات الاجتماعية كما يقول الأستاذ أحمد أمين لا يكاد يشعر به من فقهاء الشافعية أحد. ولكن العلماء لا يعدون مثل هذا مذهبا جديدا، لأن الاختلاف الذي يكون أساسه العرف لا يعد اختلافا على الحقيقة و إنما هو رأي له شقان و جانبان يطبق أحدهما في عرف و يطبق الآخر في عرف غيره.

ثالثا: الشافعي لم يتأثر بمصر وإنما تأثرت به مصر : لعلنا نلفت الانتباه إلى حقيقة مهمة أن التأثر بالبيئة أو الأشخاص في قضية معينة لا يكون إلا في حالات لعل من أهمها:

1-أن يرجع الشخص عن أصل من أصوله التي كان يبني عليها.

2 –ألا يرجع عن أصل من أصول مذهبه ،ولكن يختلف فهمه في تطبيق بعض الأصول.

3-أن يحكم بحكم عام لا يخصصه بمخصص.

4-أن يتأثر في مجموع ثقافته و ميوله ببيئة من البيئات تأثرا يجعله يستحسن ما لم يكن يستحسن.ولعل استشهاد الأستاذ أحمد أمين أن الشافعي كان يتكلم في القراطيس و هي مصرية ويبين متى يجوز أن تسلف ومتى لا يجوز، هذا لا يعد اختلافا في مذهب الشافعي و رجوعا عن قديم إلى جديد، لأن القراطيس لم تكن معروفة له من قبل ولا دخل لمصر في حديثه عنها إلا أنها أتاحت له موضوعا جديدا يبحث فيه و يطبق عليه فقهه.

و لعل تأثير الشافعي و فقهه في مصر له عدة مظاهر وتجليات:

أولا: كان المصريون قبل الشافعي فريقين : فريق يعتنق مذهب الحنفية، وآخر يعتنق المالكية فلما جاء الشافعي اجتمع له المصريون و أخذوا عنه وذاع مذهبه.

ثانيا: بث الشافعي بين المصريين روح المناقشة والمناظرة و الجدال و لم يكونوا يعرفون من قبل المناظرات الفقهية.

ثالثا: انتشر المذهب الشافعي انتشارا عظيما بهمة أصحابه، وبحسن استقبال القبائل العربية النازحة من بلاد العرب إلى مصر.

رابعا: ظلت آثار الشافعي الفقهية في مصر بعد وفاته حتى اشتدت المنافسة بين أصحاب مالك والشافعي.

خلاصة القول: لقد أثر مذهب الشافعي في مصر كما وضحنا و ليس العكس، وتغيير مذهبه لم يكن في مسائل كبيرة ومهمة بل التغيير جاء نتيجة تغير الأحوال و تغير الزمان و المكان، وهذا طبيعي ومنطقي في أي مذهب فقهي أن يراعي التغير في الزمان و المكان و الأحوال، لأن الفتوى تدور مع الزمان و المكان.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock