رؤى

إيران سوف تخسر المعركة لكنها ستفوز بالحرب

عرض وترجمة: أحمد بركات
أثار اغتيال “محسن فخري زاده مهابادي”، مهندس البرنامج النووي الإيراني، شبح اندلاع صراع ضروس في الفترة السابقة على تنصيب الرئيس الأمريكي المنتخب “جو بايدن” في يناير القادم. في هذه المرحلة تواجه إيران ضغوطا غير مسبوقة سواء على المستوى المحلي، تحت وطأه التداعيات الاقتصادية التي خلفتها حملة ’الضغط الأقصى‘ التي تشنها إدارة ترامب، أو على المستوى الإقليمي، في إطار معركة طهران لحماية نفوذها في دول مهمة مثل العراق وسوريا. فقد قاست إيران مؤخرا ويلات موجة من الغارات الجوية، بما في ذلك الهجوم الذي وقع في نهاية الشهر الماضي، وأسفر عن مقتل قائد رفيع المستوى في “فيلق القدس”، التابع “لقوات الحرس الثوري الإيراني”، بالقرب من الحدود السورية العراقية. وفي العراق فرضت الولايات المتحدة عقوبات على مجموعة من الشركات الإيرانية الكبرى.

المعضلة الإيرانية

بينما اعتقدت إيران أن الولايات المتحدة سعت إلى إسقاط دولتها منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية في عام 1979، إلا أن فكرة قيام الولايات المتحدة بشن هجوم ضد إيران أو حلفائها باتت أكثر وضوحا خلال العام الماضي.

في هذا الإطار، يُنظر إلى اغتيال فخري زاده مهابادي على أنه إشارة إلى النوايا تأتي – بحسب بعض التقارير – بعد أيام معدودات من لقاء سري إسرائيلي سعودي أمريكي عُقد في المملكة العربية السعودية. كما يأتي بعد 10 أيام من صدور تقارير تفيد اقتراب الرئيس ترامب من شن هجوم ضد إيران مباشرة قبل بحث سبل ضرب عناصر إيرانية أو حلفاء إيرانيين في مكان آخر. ومن ثم، فإن القيادة الإيرانية تواجه معضلة خطيرة في بيئة غير مستقرة.

لقد اعتمدت إيران على وجود القوات الأمريكية في المنطقة لتعزيز قدراتها على الردع، لكن إدارة ترامب أشارت إلى أنها قد تسحب قواتها من العراق وأفغانستان، وهو ما سيؤدي لا محالة إلى تراجع القدرة الإيرانية على ضرب القوات الأمريكية، وبالتالي قدرتها على ردع أي هجوم.

وبحسب مصادر مقربة من القيادة العراقية، فإن عددا من قادة المليشيات في العراق، إلى جانب رعاتهم في إيران، مقتنعون بأن إدارة ترامب تسعى في الوقت الراهن إلى فرصة أخرى وأخيرة لحسم خلافاتها مع إيران، وبأن هجوما سوف يقع في حال سحب الولايات المتحدة لقواتها. كما أشارت هذه المصادر إلى أن عددا من قادة هذه المليشيات قد ذهبوا بالفعل للاختفاء، أو قللوا بشكل كبير من ظهورهم العلني تحسبا لوقوع حملة اغتيالات محتملة تستهدف الجماعات الموالية لإيران بالمنطقة.

في هذه الحالة، يمكن لإيران أن تختار بين استيعاب الضربات، أو تنفيذ هجمات انتقامية محدودة ورمزية. ففي العراق، على سبيل المثال، قد يقوم حلفاء طهران بإطلاق وابل من الصواريخ يتسبب في وقوع أضرار محدودة. تكمن الفكرة الإيرانية في أن هذا قد يؤدي إلى ردع الخصوم، لكن يبقى أن هذه الخطوة تمثل مخاطرة غير محسوبة، إذ ستؤدي إلى تمهيد الطريق أمام الولايات المتحدة وحلفائها لتصعيد ردودهما، كما ستترك تاثيرات من الدرجة الثانية يمكن أن تؤدي إلى اندلاع الصراع داخل العراق.

وبدلا من ذلك، يمكن أن تبدأ إيران هجوما استباقيا موسعا ضد الولايات المتحدة و / أو حلفائها بدافع القلق من الضربة الأمريكية الأولى. في هذه الحالة ستسخر طهران شبكتها التي تعمل بالوكالة لتنفيذ سلسلة هجمات متزامنة ضد مجموعة من الأهداف الإقليمية، بما في ذلك داخل دول الخليج العربي. وعلى أمل درء هجوم أمريكي كبير ستسعى إيران إلى أن تكون هذه الهجمات مؤثرة وواسعة النطاق. لكنها قد تثير في واقع الأمر ضربة مضادة كبيرة من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، وهو ما يمثل خطرا داهما على طهران. وقد يشعر النظام في طهران بأنه مدفوع تجاه هذا الخيار في حال تعرض بلاده وحلفائها لمزيد من الهجمات في الأيام والأسابيع القادمة، و / أو انسحاب القوات الأمريكية فجأة من العراق، و / أو تدشين موجة اغتيالات ضد شخصيات بارزة.

الميزة الاستراتيجية

لكن، ربما لا يزال لدى إيران ميزة استراتيجية مهمة، حيث تواجه الولايات المتحدة وحلفاؤها بعض الخيارات الصعبة التي يتعين عليهم القيام بها. فبغض النظر عن التطلع إلى إفشال أي محاولة للتقارب بين الولايات المتحدة وإيران في ظل إدارة بايدن، يبقى من الصعب معرفة اللعبة النهائية التي تسعى إدارة ترامب إلى فرضها. كما أن النظام الإيراني قد يضعف داخليا وإقليميا، ويمكن أن تتداعى بنيته التحتية التي تعمل بالوكالة، لكن يبقى أمام طهران حقيقتان مهمتان يمكنها الاعتماد عليهما.

أولى هذه الحقائق هي عدم توافر رغبة حقيقية لدى حلفاء واشنطن في الخليج، وبخاصة المملكة العربية السعودية والإمارات، في التصعيد، وذلك لوجودهما مباشرة على خط النار، إضافة إلى عدم امتلاك خصوم إيران الجرأة أو القدرة على الالتزام بجهود واسعة النطاق لفرض سقوط النظام. وثانيها أن إيران تتمتع بوضعية فريدة لإصلاح وإعادة بناء شبكاتها الإقليمية التي تعمل بالوكالة. تشمل هذه الوضعية روابط معقدة متعددة الطبقات بين الأفراد والمنظمات، وتحظى بدعم مجموعة متنوعة من مراكز القوة. ففي العراق وسوريا ولبنان واليمن، أنشأت إيران مؤسسات موازية متجذرة بعمق وقوية وقابلة للاستمرار وسط ركام مؤسسات الدولة الضعيفة والبيئة الأمنية المتقلبة. كما أنشأت مجموعات مليشياوية قوية وقادرة على الاندماج والتكتل حول قيم وأهداف مشتركة تربطها جميعا في نهاية المطاف بالجمهورية الإسلامية.

كما تفوقت إيران بدرجة كبيرة في تنفيذ شكل من أشكال صيغة ’الدولة الواحدة والنظامين‘ في الدول التي تمزقها الصراعات في المنطقة. ففي العراق – على سبيل المثال – تمكنت طهران باقتدار من المحافظة على ضعف الدولة، ولم تسع إلى إعادة بناء المؤسسات بموجب المعايير والمبادئ التقليدية لبناء الدول. فبالنسبة إلى الغرب، على سبيل المثال، تعني إعادة تشكيل قطاع الأمن إعادة بناء الجيوش الوطنية التقليدية التي تلتزم بالمعايير والقوانين الدولية. وعلى النقيض، تختار إيران مقاربة تتمركز حول مجموعة من الكيانات المسلحة غير الحكومية، ولا يتوافر لديها أي ميل لمواءمة هذه المقاربة مع المعايير والقوانين الدولية، أو تشجيع حلفائها على احترام حقوق الإنسان. كما تبني طهران شبكات ومؤسسات موازية للمؤسسات الوطنية، مما يبقيها ضعيفة. يفتح هذا بوجه عام المجال أمام إيران لإخضاع البنى الحاكمة والأنظمة السياسية. وعلى وجه التحديد، تؤسس إيران، أو تتعاون مع، مليشيات وسلطات غير رسمية، مما يسمح لها بملء الفجوات التي تظهر في الدول الضعيفة، واستغلالها. وتمثل الأيديولوجيا الشيعية حلقة الوصل الأساسية، حيث تبني إيران شبكات اجتماعية ودينية تتمركز بالأساس على الأيديولوجيا الشيعية ودعم الثيوقراطية الإيرانية. رغم ذلك، تبقى الأيديولوجيا مجرد جزء من المعادلة.

استغلال الصراعات والاضطرابات

لا تعمد إيران إلى دعم أو نشر وكلاء على نحو انتهازي كما تفعل غيرها من الدول. فعلى غرار منافسيها والولايات المتحدة، تتخلص إيران من المليشيات وتتخلى عن دعمها إذا لزم الأمر. ولكن، على عكس منافسيها، فإن إيران لا مثيل لها في ابتكار وإعادة ابتكار الوكلاء. في هذا السياق، تتمتع إيران بقدرات خاصة ولافتة في استغلال الانقسامات التي تعاني منها الحركات المحلية التي تقف في وجه مصالحها. على سبيل المثال، خرجت “عصائب أهل الحق”، وهي إحددى أقوى المليشيات الشيعية في العراق، من عباءة الحركة المليشياوية الصدرية التي يقودها مقتدى الصدر، وهي الحركة التي عارضت تاريخيا التمدد الإيراني. وبالمثل، في كردستان العراق – في أعقاب الاستفتاء على استقلال الأكراد في عام 2017 – نجحت طهران في زرع الانقسامات في جسد القيادة الكردية، وحشدت وكلاءها في كركوك ضد “قوات البيشمركة الكردية”. جاء هذا إلى حد كبير كنتيجة لصفقة عقدتها طهران مع “الاتحاد الوطني الكردستاني”، الذي يحكم كردستان العراق كجزء من حكومة ائتلافية يقودها “الحزب الديمقراطي الكردستاني”.

وتمنح إيران الجماعات الموالية ما تحتاج إليه من أموال وسلاح ورعاية قائمة على التواؤم الأيديولوجي، وفي حال عدم توافر التواؤم الأيديولوجي، فإن البطاقة البديلة التي تستخدمها إيران تتمثل في سجلها المثير للإعجاب في تحويل الشركاء إلى قوى سياسية مؤثرة.

والحقيقة أن شركاء إيران يحققون تقدما مستمرا، بينما يتجرع حلفاء الولايات المتحدة الهزائم والإخضاع والإذلال بصورة متكررة على يد الوكلاء الإيرانيين. فقد خسرت الجماعات العربية السُنية المدعومة أمريكيا في كل من سوريا والعراق جميع الصراعات السياسية والعسكرية الكبرى التي خاضتها ضد الوكلاء الإيرانيين. كما تعرض الأكراد، الحليف الأمريكي القديم، للهزيمة في أكتوبر 2017 على يد وكلاء إيران في مدينة كركوك العراقية، برغم تمركز القوات الأمريكية هناك.

وإذا كانت إدرة ترامب تهدف إلى زعزعة الاستقرار في إيران وإحداث صدوع في مؤسساتها الدفاعية، فإن هذه المقاربة ذات البعد الأحادي تتجاهل في واقع الأمر حقيقة أن إيران تتمتع بمهارة لا تضاهى في ترميم (وإعادة بناء، إذا لزم الأمر) بنيتها التحتية الأمنية التي تحمي النظام من التأثر بالأضرار قصيرة المدى التي يحدثها الخصوم.

برغم ذلك، فإن الجهود المتضافرة من جانب الإدارة المنتهية ولايتها وإسرائيل لإحداث أكبر عدد ممكن من الندوب في جسد البنية الأمنية الإيرانية، سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي، قبل 20 يناير، يمكن أن تخلق حالة طبيعية جديدة للتعامل معها على مدى السنوات الأربعة القادمة.

ينطوي ذلك على شقين؛ أولهما ضمان عدم تمتع إيران برفاهية أو بمساحة تسمح لها باستعادة قدراتها القسرية الهائلة، وثانيهما تعقيد عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي.

وإذا كانت إيران تعتمد على تقديرات مبالغ فيها لحجم قوتها العسكرية، وعلى سحر أو هالة تحيط ببعض وكلائها باعتبارهم كيانات لا تقهر، فإن هذه الأمور تتلاشى تحت وطأة كل عملية اغتيال، حيث تترك تداعيات خطيرة على السلطة والنفوذ اللذين يمكن أن يمارسهما وكلاء طهران في الدول المجاورة، مثل سوريا والعراق، التي تمثل جزءا لا يتجزأ من أمنها على المدى الطويل.

https://www.youtube.com/watch?v=MzTfiNwzVTY

رغم ذلك، قد لا تسفر هذه المقاربة عن النتائج التي يطمح إليها خصوم إيران. كما تفشل في تفسير التأثيرات من المستوى الثاني أو الثالث التي تخلفها الضربات الأمريكية أو الإسرائيلية التي تُمكن لبيئات مستدامة من القمع والاضطرابات العنيفة في الجوار الإيراني الذي يتمتع الحرس الثوري الإيراني بسجل حافل في استغلاله. وفي هكذا بيئات ترسم إيران ملامح دينامبات الأمن الإقليمي.

وفي أسوأ الأحوال، يتعين على إيران أن تتعامل مع احتمال قدرة خصومها على استئصال شأفة مجموعة الأفراد المركزيين في برنامجها النووي وفيلق الوكلاء الخارجيين. لكن القادة في طهران سوف يشعرون بالارتياح عندما يعلمون أن خصومهم سوف يناضلون من أجل القضاء على المؤسسات والشبكات التي تدعم الأمن القومي الإيراني، سواء على المستوى الداخلي أو الإقليمي.

*هذه المادة مترجمة. يمكن مطالعة النص الأصلي باللغة الإنجليزية من هنا

أحمد بركات

باحث و مترجم مصرى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock