مختارات

ماركس وكامو وأمين معلوف يجتمعون حول “مائدة كورونا”

كه يلان محمد – نقلأ عن صحيفة النهار العربي لقراءة المقال الأصلي من هنا
زحف وباء كورونا نحو كل أصقاع العالم، وباغت الجميعَ بسرعة انتشاره، وما زادَ غرابة الوضع وفاقم التوتر هو صمت “العلم” أمام هذا الحدث الطارئ. لقد حلّ السكون في كلّ مكان، بحيث توقف النشاطات الثقافية والرياضية ومُنعت إقامة الشعائر الدينية في المعابد. هكذا تعولم الصمت ولم تعد الحدود مفتوحة في وجه الحركة التجارية. كلّما تصاعدَ عدد المصابين حفر الخوفُ بأظافره في العقول.

بالطبع تضاعف حجم المخاوف نتيجة تضارب التصريحات في شأن الأدوية واللقاحات المضادة للوباء. وفي هذا المشهد المشحون بالتوتر، انصرفت الأنظار من جديد نحو الفلاسفة والمفكرين. وتصدرت الأعمال الروائية التي تتناول موضوع الأوبئة لائحة الكتب الأكثر مبيعاً، كأن ما يهمُ الإنسان في زمن متأزم هو البحث عن العزاء وتفادي الوقوع في فخ الخطابات “التدجيلية” من خلال استعادة ماحلَّ بالبشرية من الكوارث على مرّ التاريخ.

الانتظار المشبوب بالقلق هيمن على المناخ العالمي الذي دقّ الناقوس إيذاناً بضرورة الإصغاء إلى صوت الفلاسفة، فتحول الاهتمام إلى السجلّ الفلسفي، بحيث دار النقاشُ على منابر الإعلام عن دور الفلسفة والأدب أمام التحديات الوجودية، وماذا عن النفع الذي يمكنُ للأدباء والفلاسفة إسداؤه للإنسان عندما يكونُ أمام مفترق الطرق.

مائدة كورونا

في هذا السياق، نجد أنّ الكاتب العراقي علي حسين قدّم في كتابه الصادر حديثا بعنوان “مائدة كورونا” (دار الكتب العراقية، دار معنى للنشر- بغداد) آراء مشاهير الفكر والأدب، فرَصَدَ ما نُشرَ لهم حول الحالة الوبائية، مُعقّباً بالتحليل على رؤيتهم ولافتاً إلى أسلوب حياتهم في ظل حصار فرضه عدوّ غير مرئي. يضمُ المُؤلفُ أسماء من جنسيات متنوعة كما أنَّ صاحب “دعونا نتفلسف” يفتحُ قوساً لآراء الخبراء من التخصصات المالية والاقتصادية وهذا يمكنُ المتلقي على المعرفة بأبعاد مختلفة لواقعٍ وضعَ مصير البشرية على المحك.

استفاق العالمُ بأسره متفاجأً بمداهمة الجائحة وبدا أنَّ الانسحاب إلى البيوت هو الحل الأمثل لاكتساب فرصة حياة جديدة. ربما الحدث كان أقل غرابةً بالنسبة الى المفكرين الذين سبقوا غيرهم في تبصّر بوادر الأزمة، إذ صرّح أمين معلوف بأشهر قبل الهجمة الوبائية بأنَّ الوضعية الحالية خطيرة ولن يتمَ التفاعل معها إلا بعد هزة كبرى.

أعراض الكارثة

يفردُ علي حسين قسماً من كتابهِ لتناول أفكار مؤلف “سمرقند” مشيراً إلى محتوى مؤلفاته لاسيما “اختلال العالم” و “غرق الحضارات”، الذي أعيدت طباعته بعد انتشار الوباء، مع اقتباس هذه العبارة النبوئية على الغلاف الخلفي: “ستكون ضربة قوية لجميع الشعوب… سوف يتم جر السفينة العالمية إلى موت رهيب، ويجب على الناس أن يستيقظوا على الفور”.

وفي سياق قراءته للواقع المتشبع بالقلق، منطلقاً من معطيات فكرية وفلسفية يعودُ حسين إلى مقولات ماركس وصديقه أنجلز، ما يعنى بأنَّ أفكار الإثنين أفق لا يمكن مغادرته بخلاف ما روّجهُ أتباع النيوليبرالية بأنَّ ما قدمه ماركس لا مكان له سوى في المتاحف.

لقد أبانت الظواهر البيئية الناجمة من تغوّل النظام الرأسمالي صحة ما توصل إليه مؤسسا الشيوعية. فعلاً فإنَّ الرأسمالية لن تدمرَ الإنسان فقط، بل كلّ الطبيعة التي تشكل مورداً لهذا النظام.

توقعات فلسفية

وفي إطار حديثه عن حيثيات الفلسفة الماركسية أوردَ علي حسين ما قالهُ نخبة من المفكرين المعاصرين عن فرضيات صاحب “بؤس الفلسفة” ناهيك عن السجالات التي أثارتها توقعات بعض الفلاسفة حول نفاد صلاحية الماركسية. إذ أدلى ألتوسير بدلوه رداً على هؤلاء، فقال: “إن ماركس- برغم كل شيء- سيظل ذلك الذي يزعزع كل الفلسفات التقليدية من أساسها”. وهذا يتقاطع مع رأي الفيلسوف الأسترالي بيتر سينغر، الذي يرى أنه لا يمكن لأي شخص أن يفكر في المجتمع والعلاقة القائمة بين الاقتصاد والوعي الاجتماعي دون الرجوع إلى ماركس.

ماركس
ماركس

التواضع المعرفي

ينتقلُ حسين في جزء آخر من كتابه إلى ألبير كامو الذي أعادت عدوى كورونا روايته “الطاعون” إلى الواجهة. ويرى المؤلفُ أنَّ ما يضمهُ عمل كامو ليس قصة مجازية عن غزو النازية لفرنسا إنما صرخة تنذر بأنَّ البشرية قاب قوسين أو أدنى من الإبادة الجماعية كأنَّ صاحب “الغريب” يوافق سينيكا في رأيه بأنَّه لا وجود لزمن آمن. والأهم بهذا الصدد هو ما يقترحهُ آلان دوبوتون حيثُ يطالبُ بالإفادة من وصية مونتنيه إذ يرى الأخير أنَّ الشك هو طريق إلى المعرفة وغياب وسادة الشك يعادل الحرمان من حظوة رأس متوازن. يُذكر أنَّ الفيلسوف الفرنسي إدغار موران ما انفك يتذكر جملة فلوبير: ” إقرأ مونتنيه سيهدئك”.

يراودُ موران الأمل أن يفوز بسباق الحياة على كلود ليفي شتراوس الذي عاش مئة وعام. ويعتقدُ إدغار موران بأنَّ محنة الإنسان المعاصر ناجمة من اختزال السياسة في الاقتصاد واختزال الاقتصاد أيضاً في جشع النيو-ليبرالية.

بدائل

برأي موران أنَّ المفارقة الأساسية هي كلما زادت معرفتنا قلَّ فهمنا للكائن البشري. بينما يذهب سيلافوي جيجك إلى احتمال أن يكون الوباءُ عاملاً للتفكير في البدائل إذ كشف وباء كورونا المستجد عن الأمراض الكامنة في المجتمعات على رأسها الأخبار المزيفة ونظريات المؤامرة واستفحال ظاهرة العنصرية والتفاوت الطبقي.

وبدوره يعبِّرُ هابرماس عن قلقه حول الخطابات المحشوة بالشحنات الشعبوية. ولا يرى الحلّ لما يسميه بمعضلة “ما بعد الديموقراطية”، إلا في أوروبا موحدة ومنتصرة لديموقراطيتها.

ينضمُ نعوم تشومسكي أيضا إلى التيار المعارض للرأسمالية المتوحشة موضحاً أنَّ أزمة فيروس كورونا هي جزء من كابوس رهيب يواجه العالم. فيقولُ صاحب “من يحكم العالم” أن السلطة الحقيقية في مجتمعاتنا لا تكمن في النظام السياسي إنما الاقتصادات الشخصية التي هي مصدر السلطة. ومن جهته يصفُ آلان تورين، وهو أحد أبرز المنظرين لمفهوم الديموقراطية، ما يعيشه العالم بأنَّه حرب غير متكافئة لأنَّ ما تتمُ محاربته عدو غير بشري. وما يقولهُ المفكر اللبناني نسيم طالب بأنَّ تاريخنا قصة الأحداث الكبيرة التي لم يتوقعها أحد يؤكّد أهمية التواضع بوصفه قيمة إنسانية. والحال هذه فإنَّ الفلسفة هي ما تحمي المفاهيم العلمية من الجنوح نحو غرور المطلق. كما أنَّ الأدب يغذي الحس الإنساني أكثر، ويعتقدُ إكتور آبار فاسيولينسي أنَّ قساة القلوب يفتقرون إلى الخيال الأدبي.

تشومسكي
تشومسكي

الثغرة

يتفقُ الأدباء والفلاسفة على أنَّ الوباء قد نزع الأقنعة على مساوئ النظام العالمي وقد أدرك الجميعُ بأنَّ مقابل التضخم في الإنتاج الحربي، ثمة عجزٌ وفشل في توفير الأدوات الطبية. يرى الطاهر بن جلون أن أزمة كورونا قد أبانت قصور النظر لدى الدول الكبرى وسلطت الضوء على الجزء المخجل حين تخلت بعض البلدان عن الضعفاء. وما تمر به الولايات المتحدة الأميركية لا يمكن وصفه إلا بالفوضى، برأي بول أوستر. كما يشخّص مشيل أونفري محنة الغرب في غياب القيم الروحية واستبدالها بعجل من الذهب سماه الاقتصاد.

أما إليف شافاك، لفتت الانتباه إلى أن فايروس فضح أكذوبة الحرية والوجه القاتم لعدم المساواة في مجتمعاتنا. فضلاً على ما سبق ذكره ينتقلُ زمام الحديث حول “مائدة كورونا” بالسلاسة بين أسماء أخرى منها طارق علي وريجيس دوبريه وأورهان باموك وغوديث بتلر وأرونداتي روي وما يجدرُ بالإشارة أنَّ هذا الكتاب منتظم الوحدات بحس صحافي مطعّم بلمسة أدبية رفيعة وعمقاً فكرياً عالياً.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock