تراجع الحال والحوار الثقافي والفكري، ومعه دور المثقف وقضاياه وجدالاته وتأثيراته، تأثرا بالعديد من الأسباب، في مقدمتها، التغيرات والزلازل السياسية التي عرفها العالم العربي خلال العقد الأخير منذ اندلاع ثورات عام 2011 التي كانت وعدا بربيع ديمقراطي طال انتظاره، ولكن سريعا ما انقلب ربيعا إخوانيا وإسلاميا ثم ربيعا داعشيا منذ العام 2013 صدم الجميع بعدها وقلب الطاولة على كل الحالمين.
يعيش المثقف والمواطن العربي لحظة راهنة مختلفة تمام الاختلاف عما عهده على مدار قرنين سابقين، فكثير من الأحلام والوعود القديمة التي كان يحلم بها لم تعد موجودة، تحولت الأولويات، وفقدت قضايا كانت تحكم المسار زخمها وحضورها، وانقلبت الخطوط والخيوط الناظمات، ولم تعد النظم فقط بل التنظيمات فاعلا رئيسا في سياقات العالم أجمع، وعاد اليمينيون والشوفينيون والمتطرفون الأعلى صوتا في كل مكان، العالم كله في حالة فوران تستعصي على الهدوء والتأمل.
وهكذا، لم تكن الثقافة وحالها وحوارها والأفكار وأنساقها بعيدة عن هذا الذي حدث ويحدث، فقد حرفتها الحالة لتكون سلعة موظفة لخدمة أجندات المختلفين، أو للتراجع والاختفاء إن أرادت الحفاظ على هويتها المستقلة، فهي ليست الأولوية في ظل حروب أيدولوجية واتهامية تملأ فضاء الكلامولوجيا العربية كل ساعة، بعد فشل حلمهم عام 2011..
صارت الثقافة والمثقفون هامشا في خضم الاستقطاب الحاد وأقطابه الفاعلين والمؤثرين، ولم يعد ممكنا الحديث أو الحوار إلا من جهتها، وتوجهت مؤسسات كل الأطراف تحيزا لمن هم معها ضد من هم ضدها، وصار التحيز الأيديولوجي لا المعرفي هو الحاكم في كل ما يصدر عنها.. وانحبس الجهد النظري والبحثي منحصرا في ساحة المعركة ونحو أحد طرفيها، داخليا أو خارجيا، مع هذا الاتجاه أو ذاك، فبينما ركزت بعض المؤسسات ومراكز البحث في المنطقة على نقد الأنظمة- وفقط- دون تطرق لغيرها، ركزت أخرى على نقد التنظيمات المتطرفة وحلفائها، أيدولوجيا وتاريخيا وواقعيا، دون تطرق كذلك لغيرها..وفي الوسط من يمكن أن يدعم هؤلاء قليلا أو هؤلاء..
المثقف العربي في متاهة عربية
ربما كان استقلال المثقف ضروريا دائما، ولكنه ظل دائما حاضرا في المجال العام، يشتبك مع قرنائه من المتفقين والمختلفين، حوارا معرفيا وفكريا يغير الواقع ويستشرف المستقبل، ولكنه في غمرة المتاهة العربية الحالية تم تحديد مهمته- من قبل البعض- في معارك واضحة لصالح بعض الأطراف ضد خصومهم، أو في قضايا محددة تثيرهم وتستنفرهم، وتشغل الرأي العام.
تنوير راديكالي يتجاهل الواقع
من قبيل التنوير الراديكالي الذي حمل كل مصائب الواقع على التراث وعلى مدوناته الأولى، من فهم القرآن إلى السنة كالبخاري وغيره، إلى الفتن الكبرى، رغم أنها كلها ظواهر موجودة في كل الأديان، من اليهودية إلى المسيحية إلى البوذية، وتحتمل الجدل المعرفي والنخبوي دائما معها..ولكن الأهم أنه ولا يمكن حصر التفسير والحلول لأزمة العرب والمسلمين كله في هذه الأسباب..فعلاقة العرب بالحداثة من الفرد للجماعة، للعلاقات الديمقراطية والإنسانية، للتفاعل الحضاري مع العصر ومستجداته كلها قضايا أهم وذات جدوى من الصراع مع البخاري أو النفري، وخاصة أنها جهود مسبوقة وليست سابقة، ولكنها تبقى قضايا كلامية ليس تحتها أو وراءها فعل.
المثقف والخلاص الفردي من ضغوط الحياة
في هذه السياقات وما ترافق معها من أزمات اقتصادية واجتماعية ومالية دولية وإقليمية وقطرية، لم يعد أمام المثقف إلا إعلان الولاء والبراء، نجاة بنفسه وخلاصا فرديا، يصوب عينا واحدة على اتجاه وهدف واحد دون سواه، وصارت كلمات كالتوافق والحوار والإنصاف المتبادل والقضايا المشتركة قضايا غير مطروحة للنقاش أو التداول.
وصار التهميش المتبادل بين المثقفين، تنافسا على البروز بين النخب هو السائد، فقد غلب السياسي على الثقافي، كما غلب التنويري الراديكالي الذي تحمله بعض المنصات الإعلامية، وشوارده على النسق التنويري العقلاني، لم يعد مطلوبا التفكير الهادئ والحواري والمعرفي.
اختفت من المشهد جدالات واهتمامات البحث الفهم الأعمق، وصعد توجيه سطح المعركة الظاهرة، وغدت الأسئلة والإجابات محددة سلفا، حتى عند بعض من يكتبون، ولكن تظل أسئلة الناس والنخب والجماهير في الثورة المعلوماتية وهمومهم تتسع على العكس من ذلك، فهي تدرك المتاهة وتدرك تناقضاتها ولكن الكل يسير مع السيل حيث سار.
وتم تهميش أي مثقف أو مفكر مستقل، ليصعد للواجهة فقط من هو قادر على صنع السجال وايقاد نيران الاستقطاب الحاد، وصار المثقف والمفكر المعرفي والأكاديمي والتجديدي الإصلاحي صوتا هادئا غير مطلوب في أتونها، لم تعد تظهر أسماء مفكرين كبار ممن لم يشاركوا في السجال، تم تجاهلهم، وصار صراع تلامذتهم على المتاح مبررا لإقصائهم وتهميشهم، وصار الخوف على المكاسب الفردية حصن الخلاص الفردي، أذكر قبل عقد من الزمان إنصاف متبادل كان يتمكن في مقولة الوفاق بين مفكرين كبار من أيديولوجيات مختلفة، بل وصداقات وطيدة عقدت بين المختلفين، لم نعد نرى مثلها…طغى مفهوم الشلة ومفهوم الولاء وشرط البراء من جديد على المشهد وزاد تهميش دور وتأثير المثقف وأطروحاته، الذي صارت تسكنه الهواجس ويؤمن بأهمية الخلاص الفردي أو اختار محض البوح المتحفظ أحيانا على الفيسبوك أو تويتر..
غيبة الحوار: نفي متبادل وتكفير المختلف
ليس ملحظ عدم الترحم على رحيل مدني أو العكس..إلا ملمحا صارخا ووقحا على سيادة خطاب الكراهية عربيا…ليس من حقك الترحم أو الحزن على مختلف…أو فق منطق بعض المتطرفين من لم يكفر الكافر فهو كافر..وهكذا غرق البعض في مزيد من التكفير الديني ذو الأصل السياسي وغرق البعض الآخر في التكفير الوطني والسياسي ذو البعد السياسي أيضا..
ومن هنا، غدا التنكر وعدم الإنصاف للبعض سمة الكثيرين من المعبرين عن المشهد الثقافي والإعلامي السائد، وصار الاتهام والنبذ وأحيانا التخوين والعزل أهم ميزات المؤسسات الثقافية والإعلامية المهيمنة، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة وغبار المتاهة التي لا تريد ضوء المثقف الهادئ أو الشارد، ولكن المؤلم أنه غلب عدم الإنصاف، فلم يعد مقبولا ثناء على مختلف أو ذكر مختلف عند كل حزب أو فصيل، تحولت معارك القتل المادي في ساحات الإرهاب وساحات الخلاف في عالم العرب، لمعارك قتل معنوي وفكري للكثيرين، من الراحلين والمعاصرين، ذكرت مع كل اسم تذكره لمثقف او مفكر أو ناشط هذا التنمر من آخريه فقد مات الحوار وجفت قنوات التوافق..وحملت صفحات التواصلية شظايا الكراهية دائما إلا من رحم.. لو ذكرت فرج فودة ستجد ذلك، ذكرت محمد عمارة ستجد مثله، ذكرت سمير أمين أو عصمت سيف الدولة فليس وقته، ذكرت حافظ أبو سعدة وترحمت عليه أو مارادونا ستجد ذلك..فالذكر ذكر الكراهية والحرب والجزر المنعزلة والحوار المقطوع التكارهي والمثير والهجائي السبابي للطرف الآخر فقط…حالة لا تناسب تفكيرا عميقا في شئ.
هيمنة المواقع التواصلية..عشوائية المعرفة والتوجيه التكارهي
رغم أهمية الثورة التواصلية التي يجد البعض في عالمها الافتراضي عوضا للمعلومة والمعرفة بديلا عن عالم الواقع، مع تراجع منتوجاته وصعوبة التوصل بها، إلا أننا نؤكد أن العالم الحقيقي يظل هو المحرك للعالم الافتراضي ويوظفه، خاصة القوى المؤسساتية، النظم والمؤسسات والتنظيمات والمنظمات، ورغم أنه قد يتيح للجميع التعبير لكنه قد يكشف الجميع أيضا- ومن هنا نقترح تعبير الحرية القلقة- ولكنه كونها مفتوحا ومنظما في آن فهو لا يتحرك إلا بميول ناشطيه الواقعية متابعة وتحيزا ويقدم للقارئ العام والمتابع له قراءة عشوائية تجعله يقرأ خبرا سياسيا ثم يعقبه بعد ثوان بكتاب تراثي ثم يعقبه ب تهنئة أو تعزية لآخر، مما يصعب معه الضبط والتجسيد لأي أفكار أو قضايا حقيقية..ولعله هذا قد يساعدنا في انتشار نمط الفضائح وسهولة انشغال الناس بقضايا فرعية وغير ذات أولوية عن أولويات واقعهم وسهولة صنع الشائعات والأخبار والقصص الزائفة التي تشغل الأفراد وتتشرب اهتماماتهم..
وهكذا نرى أن الثورة المعلوماتية والتواصلية الحادثة، رغم ما أتاحته من فرص ومعلومات، تبقى وسيطا فقط، ولكنها أعجز عن أن تحدث انتقالا معرفيا عميقا في العالم الحقيقي للمجتمعات، ، ولم تصل – رغم ما دعمته وساعدت فيه من انتقالات سياسية مهمة منذ العام 2011- لمجتمع المعرفة المختلف والمأمول، فهي لم تمثل فرصة فقط للأفراد والإليكترونيات فقط، ولكن مثلت فرصة للجميع، وأكبر للنظم والتنظيمات، الثورات والثورات المضادة، تجنيدا وتعبئة وخاض الجميع غمارها ومعاركها بأدواتها، وربما كان كثير من أهل الفكر والثقافة آخر الداخلين لفضائها بعد أن ازدحم.
وفي هذا السياق كانت الحاجة للفضائح والسجال والاستثارة وليست الاستنارة والاتهامات المتبادلة والتحيز سمات أسلوبية للاداء الأشهر، أما الأداء الهادئ أو المتزن الذي يبحث بموضوعية في المشاكل ويستحضر جهودا قائمة أو قادمة أو سابقة للانتقال الحضاري فليس لها إلا أن تكون هامشا…غير مؤثر وغير مطلوب..
الفكر النظري ..حضور الأسئلة وغياب المجيب
يهتاج الناس هاشتاجات بعدد التفاعلات على بوست وكم المتابعين لقناة طائفية أو تكارهية أو خطاب سجالي هنا أو هناك، وهكذا تراجع نمط الوعي العميق وغاب البحث عن مشترك، وغاب البحث عن الممكن وعلاج ال” هنا” و” الآن” ما نجح فيه شباب الربيع العربي عبر هذا الوسيط المتاح والمباح نجح في مثله شباب داعش وشباب حازميون وشباب القاعدة والإخوان أضعافا مضاعفة..ولا شك أن الأدلوجات الدينية أكثر إغراء وغواية في عالم العرب والمسلمين.
من الجانب الآخر كان تركيز بعض المؤسسات على النقد البراني ليس للمتطرفين ليس عبر الاشتباك العلمي مع مدوناتهم المعاصرة والحديثة، ولكن عبر اشتباك حاد مع النصوص المؤسسة للتراث الإسلامي نفسه وفي أكثر مسائله حساسية، القرآن والسنة وتاريخ الصحابة، وهو أمر رغم وجاهته وشرعيته التي لا نرفضها ربما وظفه المتطرفون أنفسهم حملة على الدين، كما ساعد على تشويه مفهوم التنوير نفسه باعتباره حملة على الدين وثوابته، إشغالا للجماهير التي لم تنشغل إلا بعضا بتبنى الرؤى نفسها في السابق، بل هجرته الغالبية لتهرب لدين صوفي أو وعظي خفيف لا علاقة له بمثل هذا السجال، فظهر العشرات من جيل الدعاة الجدد الذين يمثلون طريقا مختلفا عن الجانبين.
ورغم أهمية الفكر النظري في هذه السياقات المعقدة، خروجا من أزماتها، التي تمثل الخطابات الأيدولوجية المتطرفة واليمينية طرفا فيها، ورغم أهمية أراء وطرح أصحابه، إلا أن كثيرا منهم كان قدره الانزواء أو الحضور الخافت، ما لم يشارك في السجال الاستقطابي، والبارزون من ممثليه الآن كذلك، وما لم ينجح في التفاعل عبر وسائل التواصلية الجديدة، ومع سيطرة الحدثي واليومي على وعي الناس والجماهير..ولم تعد تهتم لهم ولا لتجمعاتهم او فعالياتهم وسائل الإعلام، كما تحولت مؤسسات الثقافة الراعية لها رعاية وتمويلا، فالفكر- للفكر- دون تحيز لم يعد مقبولا ولا مرحبا به في سجال يشمل كل شئ داخلا وخارجا..بين الأيديولوجيات المختلفة، بين المدنيين والإسلاميين، وداخل كل منهما، وبين الإرهاب والإسلاموفوبيا، وبين الوطنية والطائفية، وبين الكل هنا والكل هناك،.صارت الكراهية والإثارة قانونا وقطيعة يوقد أوارها الجميع…ويغيب العقل النقدي والتأسيسي والاستراتيجيات الشاملة اتي يمكن ان تتفاعل وتعالج من كل هذا.
أكاد أظن أنه لو كانت أسماء كالأفغاني ومحمد عبده ورفيق العظم والهادي العلوي وعلى الوردي وسمير أمين وعبد الرحمن بدوي وطه حسين وغيرهم في لحظتنا الحالية ما وسعهم إلا الكف عن البحث العميق الهادي وإثارة العقل ولتوجهوا للتنوير الشارد والراديكالي أو سكنوا صفحة فيسبوك يعبرون فيها عن بوحهم فقط…أرى هذا وأنا متألم لأن بالأفكار الكبيرة فقط وبالحوار الذي يثري الحالة الثقافية العامة يكون الانتقال المجتمعي والحضاري لأي مجتمع…فالأسئلة كثيرة ولكن يغيب المجيب أو يغيبه البعض …والأمواج كثيرة ومتلاطمة ولكن لا يهدئ من روعها حوار..أو أفق يعي ما كان وما يمكن أن يكون.